في تغير مفاجئ، وفي التعبير الدارج (180 درجة)، لرئيس مجلس الوزراء السابق، نوري المالكي، خلال فارق زمني لم يتجاوز 36 ساعة، اعلن قرار انسحاب ترشحيه لصالح رئيس مجلس الوزراء المكلف حيدر العبادي، برغم انه قد عد التكليف قبل ذلك باطلاً.
ولا اعتقد ان مصلحة الوطن، والظرف الراهن، ومتطلبات المرحلة، هي من دفعت السيد المالكي الى قبول التنحي بروح رياضية، وتسليم زمام الحكومة الى عضو من اعضاء حزبه وائتلافه، لأن الحرص على مصلحة الوطن لا يمكن ان يظهر فجأة ، ولا سيما ان السيد المالكي قد هدد باشعال (نار جهنم) على من يتجاوز على استحقاقه الانتخابي والدستوري ، كما انه لجأ الى المحكمة الاتحادية لنقض التكليف الرئاسي، وتحديد الكتلة الاكبر، ما يعني ان المقدمات كانت تتجه نحو التصعيد وليس التهدئة، خصوصا ان المصلحة والظرف لم يكونا طارئين عليه، حتى يستشعر خطر المرحلة اخيراً.
بالتأكيد، كان قرار الانسحاب صائبا، وما من عراقي الا وشعر بالسعادة به، من اجل انتقال سلمي الى مرحلة جديدة، لكن لابد من ان نضع النقاط على الحروف ، ونؤكد ان السيد المالكي لم يتنح برغبته، لكنه ادرك ان الاجواء الداخلية والخارجية ليست لصالحه، فاضطر الى الانسحاب، وهو لم يخف ذلك، في خطابه الوداعي، حيث اكد ان جورا اصابه من قرار الابعاد ، مذكرا بالاصوات التي حصل عليها، والتي تجاوزت الـ 720 الف صوت في بغداد.
ومن الغريب هنا، ان السيد المالكي لجأ الى الشارع لتأييد ترشحه، ووفر كل مستلزمات التظاهر لصالح التجديد لولاية ثالثة، لكنه مع ذلك اخفق في جمع المؤيدين له، ولم يكن من بين الـ(720) الف صوت من ناخبيه في ساحة الفردوس سوى مئات قليلة ، ما يثير الكثير من التحفظات على حقيقة نزاهة الانتخابات التي جرت في نيسان 2014.
المشككون لقرار الانسحاب، لا يزالون يحكمون على الامور بريبة، فهم يرون ان السيد المالكي انحنى لريح عاتية تجاوزت حدود الوطن ، الى قرار دولي، وضغط امريكي واوربي، وعليه فانه برأيهم سيعمل بوسائل وطرق اخرى لافشال العبادي في تشكيل الحكومة، حتى يعاد تكليف غيره، وغيره طبعا، هو، بلا شك.
اما الذين ينظرون الى القرار بواقعية اكثر، فانهم يستقرئون بعض الاستنتاجات التي رافقت ازمة تكليف العيادي ، حيث يرون ان المالكي ادرك ان دعواه لدى المحكمة الاتحادية لم تحسم بوقت قصير، كونها تحمل ابعاداً سياسية دولية ومحلية، اضافة الى ان النصاب القانوني للمحكمة لا يمكن ان يكتمل في ظل غياب اعضاء منه، في اشارة الى الكرد.
فيما طرح طرف ثالث القضية من وجهة اخرى، تلمح الى وجود صفقة داخل التحالف الوطني ، مفادها حصول المالكي على مركز سيادي مرموق بصلاحيات واسعة، ومنحه فرصة المشاركة في اختيار المنظومة الحكومية الجديدة، اضافة الى منع ملاحقته قانونياً وسياسياً داخل العراق وخارجه.
وازاء هذه الرؤية، رفضت الكتلة الكردية مثل هذا الاتفاق جملة وتفصيلاً، ولم تسمح بمشاركة المالكي في الحكومة المقبلة، او تولي منصب نائب الرئيس.
ومما تقدم، نؤكد ان السيد المالكي لم يكن في وضع خيارات ترضية، وانما كان مجبرا على قرار التنحي ، كخيار وطني، واقليمي، ودولي، وبالتالي لايمكن مكافأته على الاخطاء الجسيمة التي ارتكبها بحق الوطن والمواطن، فهناك ملفات عديدة، ودماء، وانتهاكات، لابد للقضاء من ان يقول كلمته الفصل فيها، وليس من حق احد ان يتنازل او يعفو، نيابة عن اصحاب الحق الشخصي، الذين يملأون أرض الوطن عرضاً وطولاً، سواء الذين قصفوا بالبراميل المتفجرة، وقتلوا تحت الانقاض ، أو جرى تصفيتهم تحت أي مسمى، فيما هناك مدن مدمرة ، وميليشيات تقتل بالنيابة على الهوية، اضافة الى
الآف المعتقلين الابرياء، وملايين النازحين والمهجرين بفعل العمليات العسكرية والاعتقالات العشوائية، ناهيك عن الصفقات الفاسدة ، والاموال التي بددت وضاع اثرها.
القضية لايمكن ان تسقط بالتقادم، ولا بحصانة.. وضحايا الحكومة السابقة لا بد من ان تنتصر العدالة لهم.