إن الانخفاض الدراماتيكي في اسعار النفط العالمية (من 100 دولار مطلع عام 2014، الى 56 دولار في ايامها الاخيرة) جعل من الدول النفطية التي تعتمد موازناتها بنسب كبيرة على ايرادات النفط أكبر الخاسرين، ومن ابرز هذه الدول، بالطبع، العراق الذي ظل في آخر الركب نتيجة لعدم جديته في خلق مصادر متنوعة لإيراداته، فجاءت بذلك موازنة عام 2015 لتعكس حالة من الارتباك والخشية من الآتي في قابل الايام.
هذه الخشية مصدرها العجز الكبير الذي تعاني منه تلك الموازنة، هذا العجز الذي عجزت الحكومة عن وصف معالجاته بصورة علمية قائمة على المنطق الاقتصادي السليم، فنجد أنه لم يتم تحديد اساليب تغطية العجز بصورة تفصيلية بل جاءت بصورة فضفاضة، كالاقتراض الداخلي والخارجي او زيادة تصدير النفط أو زيادة سعر برميل النفط المصدر، ونود هنا بيان الاتي:
أ. لم توضح الحكومة ماهي اساليب الاقتراض الداخلي، هل هي:
* التمويل بالعجز (أي استدانة الحكومة من البنك المركزي) على ان هذا النوع من التمويل له اثار سلبية على الاقتصاد إذ يؤدي هذا النوع من التمويل إلى تضخم نقدي حاد نظرا لضعف أو انعدام الجهاز الانتاجي في العراق، والميل الحدي للاستهلاك مرتفعا، وما يترتب عن هذا التضخم من تشجيع المضاربة، ضعف الادخار، وتردي مستوى المعيشة لأصحاب الدخول المنخفضة، الامر الذي يؤدي الى زيادة التفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع.
* أم عن طريق الاصدار النقدي الجديد (طبع العملة)، وهذا النوع من التمويل يؤدي ايضاً الى رفع معدلات التضخم.
* أم طرح سندات من قبل البنك المركزي للمؤسسات والأفراد(سواء أكانت الزامية أم اختيارية)، وهذا النوع مفيد جداً للاقتصاد، اذ انه يقلل من معدلات التضخم.
* أم من الاحتياطي العراقي من العملة الاجنبية الذي يمتلكه البنك المركزي والذي كان يبلغ بلغ 76 مليار دولار في عام 2013.
* ولكن الحقيقة الاقتصادية التي يجب ان نعرفها بهذا الخصوص هي أنه عندما ينجم العجز عن هبوط حاد في موارد الصادرات التي تعتمد عليها الحكومة في تمويل انفاقها العام (كما يحدث في العراق اليوم) فان تمويل العجز لا يؤدي الى ضغوط تضخمية بل بالعكس فان الإحجام عن تمويل العجز يقود الى تراجع غير مبرر في مستويات الدخل و الرفاه.
ب. أما عن زيادة تصدير النفط، فأن هذا الامر منوط باتجاهين:
الاول. ان العراق ضمن منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) وان لهذه المنظمة سقف انتاجي متفق عليه بين اعضاءها، فلا يُحبذ أن يخرج العراق عن اجماع منظمة الاوبك.
الثاني. إذا ما قرر العراق تصدير حصة أكبر من نفطة، فأن الدول الاعضاء في منظمة الاوبك ربما تحذو حذوه، وهذا الامر سيزيد من انخفاض اسعار النفط، وهذا يمثل استنزافاً للثروة النفطية أولاً، وربما عدم لحاق الكميات المصدرة بانخفاض الاسعار ثانياً، هذا في ظل محدودية القدرة التصديرية للعراق.
ج. أما ما يخص فقرة سعر برميل النفط، فان زيادة سعر برميل النفط ليس بيد العراق وحدة، ولا بيد الدول النفطية فقط، بل ان اسعار النفط تخضع اليوم اكثر من اي وقت مضى الى احتكار مشترين وليس احتكار بائعين كما كان عليه في سبعينات القرن الماضي.
د. ان احتساب الايرادات الناجمة عن تصدير النفط الخام (والذي يشكل نسبة 95% من الموازنة العراقية) على اساس معدل سعر (60) دولار للبرميل هو توقع بعيد عن الواقع بسبب ان اسعار النفط في نزول مستمر منذ آب 2014 ولغاية الان حتى
وصلت الى (56) دولار للبرميل حتى نهاية كانون الاول 2014، فضلاً عن عدم توصل اعضاء منظمة اوبك في 27 تشرين الثاني 2014 الى اتفاق بشان تخفيض سقف الانتاج (البالغ 30 مليون برميل يومياً) لغرض عودة اسعار النفط الى طبيعتها السابقة.
هـ. في السنوات السابقة كان احتساب الايرادات الناجمة عن تصدير النفط الخام باقل من سعره في الاسواق العالمية، لذا لم تعانِ الموازنات العراقية من عجز يُعتد به.
و. اذا ماتم احتساب الايرادات الناجمة عن تصدير النفط الخام بسعر (50) دولار (وهو السعر المتوقع ان تصل اليه اسعار النفط العالمية خلال الشهور القليلة القادمة، اذا لم يصل الى اقل من ذلك) فستكون ايرادات العراق النفطية لعام 2015 وفقاً لطاقة تصديرية مقدارها (3.2) مليون برميل يوميا تُقدر بــ(57.600.000.000) سبعة وخمسون مليار وستمائة مليون دولار، بينما بلغت موازنة عام 2013 اكثر من (100) مليار دولار وكانت التهديدات الارهابية فيها منخفضة قياساً بعامي 2014-2015، فأن هذه التقديرات تلغي الموازنة جملةً وتفصيلا، وينبغي اعادة احتساب الايرادات النفطية ضمن الحدود العقلانية المتوقعة وهي أقل من (50) دولاراً للبرميل الواحد، وهذا الامر ينسحب على احتساب العجز في الموازنة في الفقرة (ثانياً-ج- الفصل الثاني) اذ ان العجز سيزداد كثيرا وفق التقديرات الحقيقية.
ز. وفي الفصل الثاني باب النفقات والعجز/ المادة 2 أولا، فأن النفقات تُقسم الى قسمين، الاول: النفقات الجارية وهي (79) ترليون دينار (الترليون يساوي الف مليار دينار، والمليار يساوي الف مليون دينار)، الثاني: نفقات المشاريع (الموازنة الاستثمارية) وهي (45) ترليون، ومجموعها يساوي النفقات الكلية في الموازنة وهي (142) ترليون، بينما الايرادات المتوقعة تساوي (84) ترليون، اذن العجز هو يساوي الفرق بين النفقات والايرادات وهو (58) ترليون دينار.
نرى أنه أمام الحكومة اليوم مجموعة من الخيارات:
* فإذا ماتم تقليص النفقات الاستثمارية بنسبة 100% ، والنفقات الجارية بنسبة 49% فسوف ينتهي العجز المتوقع، ولكن تقليص الموازنة الاستثمارية بهذا الحجم يعني توقف
المشاريع الاستثمارية في البلد لمدة سنة كاملة، وتقليص الموازنة الجارية بهذا الحجم يعني عدم قدرة الحكومة على تسديد جزء كبير من رواتب الموظفين، وهذا يعني خفض الانفاق الاستهلاكي بنسبة 59% وهذا يسبب ركوداً اقتصاديا كبيراً مع ارتفاع معدلات البطالة.
* اذا ما تم تقليص الانفاق الحكومي بنسبة 59% على جميع اوجه النفقات (المحافظات، الوزارات، اقليم كردستان، تنمية الاقاليم، الموازنة الاستثمارية)، وهذا الخيار يعني ايضاً تخفيض الانفاق الحكومي الذي يؤدي الى ركود اقتصادي ولكن بمعدلات اقل.
* طرح سندات من قبل البنك المركزي للإفراد والمؤسسات، على غرار السندات التي تم طرحها في ثمانينيات القرن الماضي أبان الحرب العراقية-الايرانية.
* رفع معدلات الضرائب بصورة تصاعدية على الدخول، ولو ان هذا الخيار سوف لايؤدي الى استحصال ايرادات كبيرة بسبب نظامنا الضريبي غير المرن.
نعتقد أن الصورة المتوقعة للاقتصاد العراقي خلال عام 2015 ستكون كالاتي:
* سيقوم البنك المركزي –بلا شك- بتخفيض مزاد العملة اليومي بشكل كبير، إن لم يتم الغائه أصلاً، بسبب انخفاض الايرادات من العملة الصعبة، وهذا الامر سيسبب انخفاض قيمة العملة المحلية (الدينار) أما الدولار الاميركي بشكل كبير، وربما يتجاوز سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار حاجز الــ(200) دينار للدولار الواحد.
* ستزداد معدلات البطالة بشكل كبير بسبب انخفاض الانفاق الحكومي، وبخاصةً في مجال الموازنة الاستثمارية.
* ستزداد نسب التضخم بسبب انخفاض قيمة العملة العراقية أولا، والسياسات المحتملة للسلطة النقدية المتمثلة بالبنك المركزي الذي ستضطر في النهاية الى الاصدار النقدي الجديد (طبع العملة) الامر الذي يؤثر بصورة كبيرة على ارتفاع معدلات التضخم.
* سيعاني الاقتصاد العراقي من ركود بسبب انخفاض في حركة البيع والشراء، فضلاً عن غياب الإنتاج المحلي، ثم تظهر حالة البطالة بين أبناء البلد، ومع وجود حالة الركود، قد لاتنخفض الأسعار، لأن تكلفة إنتاج السلع، تكون أكثر بكثير من ذي قبل، لقلة الطلب على تلك السلع فيزيد سعرها بناء على ذلك ولا ينخفض، ويصيب الركود الكثير
من الناس بالضرر، وبخاصة أولئك العمال في القطاع الخاص، وقطاع البناء والانشاءات بصورة خاصة، الذين يفقدون اعمالهم نتيجة تقلص النفقات الحكومية.
هذا الوضع يسمى الركود التضخمي Stagflation الذي هو حالة نمو اقتصادي ضعيف وبطالة عالية، أي ركود اقتصادي، يرافقه تضخم، وتحدث هذه الحالة عندما لا يكون هناك نمو في الاقتصاد ولكن يكون هناك ارتفاع في الأسعار، وكان من المعتقد أن هذا الأمر مستحيل الحدوث، وذلك لأن تأثير الركود سيعمل على تخفيض الأجور وبالتالي الأسعار، ولكن عملياً حدث هذا في بداية السبعينات في الاقتصاد الاميركي، وترجع أسباب الركود التضخمي الى واحدة أو أكثر من السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة ومنها التمويل بالعجز و ما يرافقه من إصدار نقدي يؤدي لزيادة معدلات التضخم، أو زيادة معدلات الفائدة بهدف تشجيع دخول رساميل أجنبية للاستثمار، أو سلوك اقتصادي يقوم به المواطن نتيجة لعامل التوقعات مثل زيادة الميل الحدي للادخار و تراجع الميل الحدي للاستهلاك الذي يساهم في تخفيض الطلب الكلي، أو انخفاض الكفاية الحدية لرأس المال الذي يساهم في تخفيض حجم الاستثمار وزيادة أعداد العاطلين عن العمل.
أن الخيارات المتاحة امام الحكومة اليوم أفضلها مراً، فهي أمام مفترق طرق، فأما معالجة العجز بشل أطراف الاقتصاد العراقي الذي يعاني أصلاً من أمراضٍ مزمنة ومن ثم زيادة معاناة العراقيين، وبخاصةً الطبقتين الوسطى والمعدومة، أو الركون الى حلولٍ علمية طال فراقها منذ زمن.