السؤال الذي يطفو على السطح مع كل ما حصل من جولات دموية في فلسطين ليس عن عدد الشهداء ولا عن الخراب الذي يلتهم المدن، بل عما طرأت من تغيير: هل انتهت الحرب فعلًا أم انتهت غزّة؟ وهل يمكن التفريق أصلًا بين الاثنين في وجدان مثخن بالخذلان؟
في كل مرة يعلن فيها وقف لإطلاق النار، يتنفس العالم الصعداء وكأن شيئًا تغير جذريًا، بينما يظل أهل غزّة محاصرين بين أنقاض بيوتهم، يتفقدون أسماء الناجين بدل أن يعدوا الغائبين في طوابير الذين غادروا. هل انتهت الحرب حقًا أم تتخذ شكلًا آخر: حصار، تجويع، قطع كهرباء وماء، أو في عزلة لا يراها العالم إلا حين يشتعل اللهب من جديد.
قد يقول الساسة إن الحرب انتهت، لأن البنادق صمتت والطائرات عادت إلى قواعدها. لكن غزّة تدرك أن الحرب لم تتركها يومًا. فهي تبدأ مع أول جدار يشيد حولها، مع أول معبر يغلق في وجهها، ومع أول طفل يحرم من الدواء. الحرب هنا ليست معركة زمنية تقاس بساعات، بل وجود دائم، يتسرب إلى الهواء والخبز والمستقبل.
ولذلك يصبح السؤال قاسيًا: حين تعلن نشرات الأخبار “انتهاء الحرب”، أي حرب يقصدون؟ الحرب التي تختصر في صور عاجلة وأرقام باردة، أم الحرب التي تحولت إلى قدر يومي كان يفتك بروح مدينة كاملة؟ بلا ناصر واضح الملامح أو معين بارز الوجه.
إن القول بانتهاء الحرب وهم يرضي ضميرًا عالميًا متعبًا من صور الدم، لكنه لا يرضي أمًا تبحث بين الركام عن صوت ابنها. أما غزّة، فهي لم تنته، بل تولد كل مرة من تحت الحجارة، ترفض الانقراض، وتستعيد مكانها في الجغرافيا والتاريخ كجرح مفتوح وكرامة عنيدة.
ربما لم تنته الحرب، وربما لم تنته غزّة. ما انتهى فعلًا هو وهم العدالة، وصبر الضحايا على اختبار إنسانية عالم لا يزال يتساءل ببرود: “هل انتهت الحرب؟” بينما الحقيقة الصارخة أن ما يستهدف في كل مرة هو محاولة إنهاء غزّة ذاتها، حجارة وبشرًا وذاكرة. لكن غزّة، برغم الجرح، ما زالت تقول: الحرب تنتهي، أما أنا فلا.