قراً العالم الثورات العربية على انها استحقاق مرحلة جديدة اهم سماتها هو التخلص من الانظمة الدكتاتورية التي تاسست بعد نهاية الاستعمار الاوربي للدول العربية في نهاية عقد الاربعينات من القرن الماضي . وقرأ العالم ايضاً ان الثورات العربية المتسارعة في منطقة الشرق الاوسط تشهد تاسيس نظم جديدة ديمقراطية تعيد الحقوق والحريات المدنية للمجتمعات العربية المنتهكة منذ مايزيد على النصف قرن , اي منذ تاسيس مايسمى بالحكومات الوطنية اثر انصياع الدول الاستعمارية المحتلة تحت ضغوط شعبية الى الانسحاب . ادرك العالم ايضاً ان مرحلة الربيع العربي هي نتائج طبيعية لشعوب ملت الفقر والجهل والتخلف والدكتاتورية وسطوة المخابرات والبطالة وانعدام الحرية و العدالة الاجتماعية وغياب حقوق الانسان ومشاريع التنمية وانتهاك البيئة, وسرقة اموال الدولة وتوريث الحكم ووو.. الى اخر القائمة الطويلة من لائحة اسباب اشتعال الشارع العربي المتاخر بثورته التي لا احد يلومه عليها.
بعد دخول الربيع العربي بعامه الثالث ابتداءاً من احداث ثورة تونس في 17 ديسمبر 2010 تتصدر قائمة الثورات استغرابات واستفهات قطاعات واسعة من ابناء المجتمعات العربية والمتابعين خارج العالم العربي الذين تهمهم تطورات المنطقة؛ لماذا ياترى الثورات العربية بدأها المواطن العادي الذي يحب وطنه وشعبه وقدم روحه التي هي اغلى مايملك على مذبح الحرية والتغيير ولكن الحكومات الثورية الان يقودها الملتحون السلفيون المنظمون الذين لونوا الحياة بلون غريب الاطوار واختفى المواطن العادي من المشهد السياسي؟
مفارقة تشهدها الدول العربية في الوقت الحاضر التي ازالت انظمتها الدكتاتورية ووجدت نفسها في منعطف مستقبله اخطر بكثيرعلى الدولة والمجتمع من الانظمة الدكتاتورية السابقة.
الجدير ذكره ومنذ ثورة تونس على الرؤساء العرب حزم امتعتهم لان مرحلت الدكتاتورية انتهت في الوطن العربي , لقد قرر الشعب العربي انهاء مرحلة الدكتاتورية فلا دكتاتورية في العالم العربي خلال السنوات العشر القادمة.
مرحلة التدخل العسكري في العراق اظهرت ادلة اكثر وضوحاً في ازالة دكتاتورية صدام حسين بقرار اممي مع دول متحالفة مع الولايات المتحدة في نيسان عام 2003. حدث ذلك عندما لوح صدام حسين باسلحة الدمار الشامل ومن ثم هدد بامكانية تعاونه مع المنظمات الاسلامية المتشددة للفتك بالمصالح الامريكية والغربية. هذا الخط الاحمر لم يتجاوزه صدام حسين عند غزوه الكويت في اب 1991 بالنسبة الى الغرب , لهذا فان القوات الاغربية اكتفت باخراج قواته من الكويت ولم يستمر زحفها الى بغداد لازالة نظام الحكم كما حدث فيما بعد, لان صدام حسين انذاك كان قد شكل خطراً على الكويت فقط ودفعته اطماعه لضم الدولة النفطية الصغيرة الى حكمه, ولم يعلن او يهدد او يشكل خطراً على المصالح الغربية بشكل صريح, لذا اعطاه الغرب 13 سنة اخرى لم تشعر الولايات المتحدة بخطره الا بعد احداث سبتمبر 2001, حينها اعتقدت بقدرة صدام حسين المجروح من اميركا ومن الغرب من ايذاء المصالح الامريكية و الغرب بواسطة تحالفه مع التنظيمات المتشددة المدرجة في خانة الارهاب امريكياً.
الرئيس الامريكي بوش تحدث في 7 اكتوبر من عام 2002 على قاعة متحف سنسناتي في ولاية اوهايو “ان الولايات المتحدة ترى ان النظام العراقي الذي يملك تاريخاً من العنف في الخليج ولايلتزم بتسليم اسلحة الدمار الشامل ولن يتوقف عن التحالف مع التنظيمات الارهابية”ويستمر في خطابه الطويل الى ان يقول” ان أعضاء في الكونغرس من الحزبين السياسيين، وأعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يؤمنون أن صدام حسين يشكل تهديدا للسلام ويجب ازالته”.
هذه الصراحة في التصريحات اعلنت بداية مرحلة التغيير في الشرق الاوسط عسكرياً او بمساعدة شعوب المنطقة. ولكي نكون اكثر صراحة ان الشعوب العربية التي كانت تتابع احداث التغيير في العراق كانت تدرك ان هناك من يشوه المشروع ويظهر صورة القتل والمأساة الناتجة عن فوضى التغيير اكثر من ايجابياته كي يخيف تلك الشعوب من التغيير ويرعب المنطقة من احداث التغيير كي تبقى النظم الدكتاتورية على حالها. والذي عمل في مجال التشويه هم الرؤساء العرب الذين شملتهم وستشملهم قائمة التغيير ومنهم الرئيس بشار الاسد الذي كان يدرب الاسلاميين المتشددين في غوطة دمشق وبيعثهم لقتل العراقيين والامريكان في العراق لاخافة شعوب المنطقة من التغيير .
الملاحظ ان القوى الاسلامية المتشددة في الوطن العربي والتنظيمات الاسلامية المسلحة لن تعمل في مجال التغيير والدعوة الى الثورات في العالم العربي , بل ان اجنداتها السياسية وتنظيماتها حتى وان اصطدمت مع الحكومات كانت لا تكترث ولن تعلن في ادبياتها بانها تقوم ب (الجهاد) والنضال من اجل الشعوب العربية المظلومة التي كانت تداس بعجلة الدكتاتورية, بل ان ادبيات التنظيمات الاسلامية لا تعلن او تفضح السرقات الحكومية لاموال الدولة , صحيح انها لم تكن على وفاق مع بعض الحكومات العربية وكانت غالباً ماتصطدم معها , لكنها كانت تصطدم معها من اجل اجندتها وتنفيذ اهداف احزابها وتنظيماتها لا دفاعاً عن الشعب او الدولة ومؤسساتها, بل كانت تخطط وتطمع بالسيطرة على الدولة واجهزتها ووارداتها من اجل مشروعها الاسلاموي الكبير لا من اجل الفقراء والمسحقوقين او من اجل الحقوق والحريات المصادرة .
الثورات العربية التي فجرها الشارع العربي وفقراؤه وفرت للتنظيمات الاسلامية مالم تتمكن تلك التنظيمات ان توفره لنفسها على مدى سنوات طويلة من الصراع المسلح و المرير مع السلطة. بعد ان هدأت المظاهرات ظهر الملتحون باجندات مدروسة ممولة وقدموا مشاريع ابتلاع الدستور ومؤسسات الدولة, واستخدموا خبرتهم للحوار مع الغرب وتطمينه و حماية مصالح اسرائيل ولهذا كان لهم القدرة للتسلل الى اجهزة ومؤسسات الدولة والقرار. لقد قدم الاسلاميون في الوطن العربي ماقدمه الدكتاتوريون من تطمينات للغرب في سبيل البقاء في السلطة لعقود من الزمن اما الحقوق والحريات التي صادرها الطرفان فالغرب لم يكترث لها لا في الماضي ولا في المستقبل.
لماذا تراجعت حركة الليبرالية العربية
الشارع العربي الذي خلق بيئة التغيير في تونس ومصر واليمن وسوريا تلاشى بعد الثورة لحساب الحركات الدينية المنظمة لانهم كانوا اكثر قوة و خبرةً وتنظيماً وتمويلاً من المواطنين غير المنظمين والذين لا يحملون الا افكارهم الليبرالية والعلمانية والدينية غير المتحزبة وايضاً يحملون جوعهم وحرمانهم وتعرضهم للمظلومية وامور حياتية اخرى دفعتهم للنزول الى الشارع باجسادمهم في مواجهة نيران النظام , في حين كانت التنظيمات الاسلامية ترى ذلك من السذاجة ان تكشف اوراقها امام الحاكم وتواجهه في الشارع على شكل مظاهرات سلمية وعصيان مدني, بل هي تعلمت وتدربت ان تعمل في الخفاء , ان تضرب وتهرب وتفجر وتعرقل مصالح الخصم وتصطدم معه بالسلاح لا بالصدور العارية كما يفعل هؤلاء(السذج الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة) او هكذا كانت تعتقد الحركات الاسلامية , واجزم ان تجربة الشعب العربي في الدول التي تغيرت والتي في طريقها الى التغيير لاتبتعد صورتها السوسيوبوليتيكية عن هذا المنهج الذي يتجلى بوضوح في مصر تونس ليبيا والعراق من تراجع التيارات الليبرالية وسيطرة التنظيمات الاسلامية والمتشددة على المشهد السياسي.
الحركة الليبرالية العربية هي ليست دين او مذهب ولا تدخل في المزايدات السياسية او الطائفية و معظم المؤمنين بها لا ينظمون الى احزاب سياسية ولا يملكون مصادر تمويل بمباركات دينية , لذلك فهم طبقة سياسية اضعف في الاعلام والسياسة والاقتصاد من الطبقة التي تشتغل في مجال الدين وتفصٌل البسة دينية بمواصفات سياسية لجمهور عريض تغريه باساليب عديدة للانظمام اليها تصل الى الوعود بالجنة والثواب وحور العين والمناصب والمعونات والهبات والطيبات.
ان حركة الوعي المتدني لغالبية الشعب العربي وتشويهات الاسلاميين الى المفهوم الليبرالي جعل الليبراليين العرب هم الاضعف في المشهد السياسي, وعلى الرغم ان المواطنين العرب الذين نزلو الى الشارع وتحدوا نيران السلطة هم ليبراليون بامتياز , لانهم كانوا يؤمنون بالحرية للامة والحكم للشعب والعدالة للجميع على العكس تماماً من المتحزبين الاسلاميين والسلفيين المتشددين الذين كانت نواياهم عدوانية للشعب على اعتباره مخالف لشريعتهم التي هي كما يعتقدون شريعة الله التي تستوجب اقامة الحد ولا يهمها لومة لائم… التيارات الاسلامية السلفية المتشددة تدعو الحكم الى نفسها وتفصيل مؤسسات الدولة على مقاسات اجندتها وسوف تجاهد وتناضل من اجل مصلحة الحزب لا مصلحة الشعب وتوفير الحد الادنى من الحقوق والحريات, وهو امر طبيعي في الاهداف المعلنة والمبطنة للحركات الاسلامية القادرة على الدعوات الباطنية والتخفي والتفسير الديني لاعمال ونشاطات الحزب, بالاضافة الى قدرتها على جمع المال للحزب من اجل تنفيذ اهدافه التي تاخذ شرعيتها من (الاسلام)
الليبرالية وكما هي معروفة عبارة عن مذهب سياسي واقتصادي او كما يصطلح عليها هي حركة وعي اجتماعي تقوم على مبدأ العدل والمساواة ولا تتدخل بالتوجه الديني او العقائدي للفرد . ومعظم الليبراليين يدعون الى بناء دولة دستورية والدستور يشترك في بناءه كافة الاطياف والانتماءات دون سطوة لقوانين دين او طائفة او توجه فكري او عقائدي في صياغته. الليبراليون يؤمنون بالديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة والانتخابات الحرة النزيهة واستقلال وفصل سلطات الدولة الثلاث وعدم استغلال الدين لاغراض سياسية او استخدامه كاجندة سياسية يتحول الى حزب سياسي منافس يلجم الحريات ويرهب الافراد والجماعات ويتحول الى لجان ضاربة تتمحور تحت ملفات (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي تصادر الحقوق والحريات المدنية وتتدخل بالشؤون الخاصة .