وسط حمى الانتفاضة الشعبية ضد الفساد وتأكيد انعدام الثقة بين الشعب والدولة لابد للعقلاء من تحليل موضوعي عن الجهة التي تسير بها الجموع الغفيرة الرافضة للفساد والمفسدين من اجل التغيير، والسؤال المطروح اليوم بقوة ما هو الحل في مستقبل العراق المنظور ؟؟ هل الوعي العراقي في انتفاضة الشعب يصل الى فهم كل المتغيرات الدولية والاقليمية ام ان المد الشعبي يتوقف عند ” بالروح بالدم نفديك ياهو الكان بس يجيب النا الأمان “!!!
الواضح ان مصطلح الشرق الأوسط الجديد يطبق بنماذج متعددة من الفوضى الخلاقة بما جعل المنطقة تلتهب بصفات تسليحية بموارد مختلفة الاتجاهات، أمريكية وروسية، او إقليمية تركية وسعودية وايرانية، فيما ما زال قادة العراق الجديد يتعاملون كل حسب اجندته الحزبية دون ان تظهر حتى اليوم معالم الدولة” الناهضة ” في مواقف وقرارات الدولة العراقية ، هل يدرك المتظاهرون في انتفاضتهم كل ذلك ام لا يتطلعون الا الى قمة جبل الثلج دون النظر الى ما يدور تحت الطاولات من مفاوضات ومشاورات يمكن ان تنتهي الى نموذج متجدد من الدولة ” الفاشلة “.
من يراقب مراكز الأبحاث الامريكية والعربية يلحظ بموضوعية ان مستقبل العراق ليس اكثر من جزء بسيط من الخارطة الاوسع للشرق الأوسط ، لان القائمين على الامر في هذا العراق الجديد لم يدركوا حقائق الأمور الا وفق تصوراتهم التي تتيح لهم الاثراء على حساب الشعب والامعان في تمزيق وحدة الشعب تحت عناوين طائفية واثنية ، حتى بات النجاح مرسوما فقط للسياسات الكردية على حساب بقية أبناء العراق ، فيما تسعى اغلب القوى الشيعية والسنية على حد سواء الى توظيف خلافاتها المصلحية لتمزيق وحدة الشعب العراقي من بوابة الحفاظ على امتيازاتهم وتدوير أموالهم التي نهبت تحت شتى عناوين الامتيازات المالية دون رقيب مع وجود هيئات ومؤسسات رقابية لا يسمع لها صوتا الا ضمن المحاصصة السياسية .
مشكلة اليوم ان الشعب ينتفض من اجل التغيير فيما نهاية الضوء في نفق المحاصصة المظلم لم تشرق حتى اليوم، لان هناك ميولا واتجاهات إقليمية ودولية تمنع حتى من يريد ان يشعل شمعة في نهاية هذا النفق المظلم وفقا لهذه التصورات:
أولا : ان معالم القرن الأمريكي الحادي والعشرين تتحدد في هذه المنطقة بما جعل إسرائيل صديقة للكثير من القوى العربية بل ودولها وانتقل الصراع الى مواجهة مفترضة لتصفية الحسابات في العراق وسورية واليمن ما بين ايران والسعودية كل منهما يتزعم هيكلا قيميا للنموذجين السني والشيعي ، وغاب الصراع العربي الإسرائيلي عن الوجود ، فصب نجاح المشروع الأمريكي لصالح إسرائيل فيما التهبت المنطقة بالصراع السني – الشيعي ، وهي حقيقة لا يقبل الكثير من قادة العراق الاعتراف بها ، الا الاكراد الذين يراهنون على هذا الصراع لصالح انبثاق دولتهم العتيدة بعلم دولة مهاباد الكردية .
ثانيا : كل من المحورين السعودي – السني والإيراني الشيعي ، لهما مصالحهما الوطنية العابرة لحدود دولتهما ، وهو كذلك بالنسبة لتركيا ومصر، فيما توافق القوى السياسية العراقية على حالة الفشل المتكرر امنيا وسياسيا واقتصاديا في العراق الجديد بوصفه ساحة تصفية حسابات ما بين هذين المحورين ، في مقابل نجاح امريكي – إسرائيلي لتوفير المعلومات الاستخبارية بتوجيهات خاصة لإدامة اشتعال المنطقة بالفوضى الخلاقة من اجل استثمار أموال البترو-دولار لصالح شركات تصنيع السلاح الامريكية ومد نفوذ الموساد الإسرائيلي من خلال المعلومات الاستخبارية لمواجهة الإرهاب الداعشي او تنظيم القاعدة او ما سواها في وقت لم تنفذ القاعدة وفروعها بمسميات أخرى اية عمليات لا في إسرائيل او ايران !!!
ثالثا : موجات الهجرة البشرية من الشرق الأوسط سيما من العراق وسورية الى اوربا ايقظ النزعة القومية لدولها وخلل نموذج الوحدة الاقتصادية الاوربية ، وحقق للولايات المتحدة ولروسيا على حد سواء احد ابرز الأهداف الاستراتيجية للقرن الحادي والعشرين بان يكون هذا القرن أمريكيا بامتياز وان لا تكون روسيا مجرد بيدق على رقعة الشطرنج الامريكية ، لذلك ساومت على القتال في سورية وانسحبت منه بفوائد استراتيجية اتفق عليها في مؤتمر ميونيخ الأخير، والأيام المقبلة يمكن ان تظهر حقيقة ان العراق هو الاخر سيخضع لذات المساومة بين طهران وواشنطن ،مثلما فعل صدام حسين مع شاه ايران حينما سقطت مائة الف بندقية كردية في 24 ساعة بعد اتفاق الجزائر .
رابعا : يراهن الكثير من قادة التحالف الشيعي العراقي على ان تقليدهم لنظام ولاية الفقيه الايراني لن ينتزع البندقية الإيرانية من ايديهم في مقارعة سنة العراق لفرض نموذج الحكم الشيعي تحت عنوان الأغلبية العددية لهم في العراق ، وهذه المراهنة عبر عنها بشكل اخر السيد علي خامنئي في تصريحاته الأخيرة عن أهمية اختيار مجلس الخبراء لخلفيته تحت عنوان الشخصية الأكثر ” ثورية ” في التعامل مع نشر وتصدير الثورة الإيرانية الى العالم الإسلامي ، واذا كان الخامنئي يتحدث عن ضرورات وطنية إيرانية فإنها ليست بالضرورة محل اعتبار عراقي وطني ، ومساومات الاتفاق النووي الإيراني، يمكن ان تدلل على ذلك ، واي حديث عن رغبات إيرانية بالحفاظ على نفوذها في العراق ، فانها تصطدم واقعيا بالحاجات الامريكية لإعادة صياغة الدولة العراقية من خلال النظام الفيدرالي، وهي رغبة تتلقى الكثير من التجاوب والقبول من سنة العراق وأيضا من بعض المرجعيات الدينية منها مكاتب المرجعيات في النجف الاشرف التي تتفاوض اليوم علنا مع الأمريكان لمرحلة ما بعد داعش في العراق .
خامسا : في المقابل ، فان قيمة الصفقة ما بين واشنطن والرياض يمكن ان تصل الى إعادة رسم التحالفات الاسترايتجية في المنطقة واعتماد السعودية كوكيل إقليمي مقاتل من اجل المصالح الاستراتيجية الامريكية وتبقى الرياض تحت
مرمى هذا الاتفاق وليس خارجه ، مقابل الانتهاء من ازمة تقلق الرياض عن الهلال الشيعي ، ومثل هذه التسوية أيضا تسقطا البندقية السعودية – السنية الوهابية في العراق والمنطقة على حد سواء .
في ضوء ما تقدم يبدو ان الكثير من القوى الإقليمية والوطنية، تريد فرض اجنداتها على العراق الجديد، فيما تبقى الاجندة الامريكية -الإسرائيلية هي الأكثر قوة في فرض طبيعة مستلزمات تنفيذها وعودة القوات الامريكية ومرحلة ما بعد داعش تتطلب من جميع القوى التفكير جديا للتفريق ما بين نزعة وطنية عراقية تحافظ على الوجود الوطني للعراق الجديد بنموذجه الفيدرالي، وفق تصور وطني عراقي متفق عليه او يفرض من خلال مؤتمر دولي او عبر قرارات مجلس الامن الدولي ، لان الانتقال الى نظام وطني عراقي لابد وان يسقط البندقية الإيرانية ونفوذها في العراق ، وهوما حاول زلماي خليل زاده التلويح به في مقالته التي نشرها في صحيفة الول ستريت جورنال الأسبوع الماضي .
السؤال المروح بقوة هل الوعي العراقي في انتفاضة الشعب يصل الى فهم كل هذه المتغيرات ام ان المد الشعبي يتوقف عند ” بالروح بالدم نفديك ياهو الكان بس يجيب النا الأمان “!!!