23 ديسمبر، 2024 6:03 ص

انتفاضة آذار 1991.. والحلم العراقي بالتغيير

انتفاضة آذار 1991.. والحلم العراقي بالتغيير

يقول الكاتب الفرنسي فكتور هيجو ..( عندما تصبح الدكتاتورية حقيقة واقعة ، تصبح الثورة حقا من الحقوق ) .. يعتبر الحراك الشعبي هو خط الشروع  لأي تجمع إنساني يسعى إلى التغيير ، بغض النظر عن نوع وماهية هذا الحراك والأساليب التي ينتهجها شعب ما لإحداث صيرورة جديدة لواقعه الذي يعيشه، وكذلك يمكن اعتباره على انه  نقطة تحول تعمل على تغيير مسار التاريخ سلباً أو إيجابا تبعاً للظروف  السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سترافق هذا الحراك الجماهيري ، ويتبلور هذا الحراك على ارض الواقع بصيغة انتفاضات شعبية تتعدد أسبابها ودوافعها تبعا لخصوصية كل بلد وطبيعة منظومته الاجتماعية والدينية ، ودرجة الوعي الذي يمتلكه أبنائه ، وموقعة في الخارطة الجيوسياسية العالمية ، فقد تكون هذه الأسباب آنية مرحلية ناتجة من حالة تذمر شعبي لقرارات حكومية استثنائية مجحفة بحق شعوبها ، مثل تقيد الحريات العامة ، رفع الدعم عن السلع الأساسية ، وغيرها من الأسباب التي تمس بصورة مباشرة حياة الناس ، وغالبا ما تعالج مثل هذه الأسباب مما يؤدي إلى انتهائها في مراحلها الأولى .. او قد تكون الأسباب ناتجة من عملية تراكمية لكم هائل من المشاكل والأزمات التي تعانيها المجتمعات ، وتكون الانتفاضة صورة وتجلي لغضب جماهيري وثورة لبركان ظل راقدا لزمن طويل  تحت الرماد ينتظر الفرصة الملائمة للإفصاح عن نفسه ، وغالبا ما تتحول مثل هذه الانتفاضات ذات الأسباب التراكمية  إلى ثورات بالمعنى الحقيقي لها ، اذا ما توفرت لها مقومات الثورة ..كما حدث في الثورة الفرنسية عام 1789ميلادي ، والثورة البلشفية الروسية عام 1917ميلادي ، والثورة الكوبية عام 1959ميلادي والثورات التي حدثت في المعسكر الشرقي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990ميلادي..والتي انتفضت فيها شعوب بعض هذه البلدان على حكوماتها المستبدة والتي قبعت تحت حكمها لعقود طويل.
وفي  العراق الذي عاش تحت وطأة الظلم والحروب العبثية وكبت الحريات ومصادرة الرأي وتكميم الأفواه طيلة حكم البعث الشوفيني منذ عام 1963ميلادي ، وبالأخص  الفترة التي أعقبت انقلاب 1979ميلادي الذي حدث داخل حزب البعث نفسه وإزاحة احمد حسن البكر عن السلطة وعن دوره القيادي في الحزب ،وظهور صدام حسين كقائد أوحد لشعب وارض وسماء العراق ، وتسلط حكم العشيرة ، ومن ثم حكم الأسرة الواحدة على مقدرات هذا البلد الغني بكل شيء ، فارتبط مصير الشعب العراقي بأسره بمزاجية وميول وتوجهات هذا الطاغية ، فأدخله في حروب لا مبرر لها ، خرج منها مهزوما باعترافه هو ولم يجني منها الشعب غير الموت والانتكاسات والنكبات ، وملايين من الضحايا والارامل والايتام ، وهدر لثرواته .. كما حصل في حرب الخليج الأولى عام 1980 مع الجارة إيران ،والتي انتهت بعد مخاض طويل دام لثمان سنوات خرج منها العراق منهكا  اجتماعيا واقتصاديا وعسكريا .. ثم ما لبث ان ادخله في في حرب أخرى عند اجتياحه للكويت عام 1990  وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير ، فبعد ستة اشهر من الاحتلال اجبر على الخروج وتكبد الجيش العراقي خسائر فادحة  في ساحة القتل التي أعدتها قوات التحالف الغربي له في منطقة المطلاع جنوب العراق  ، مما خلق حالة من الانكسار والتذمر في صفوف الجيش والشعب فحدثت الانتفاضة وكانت شرارتها بردة فعل غاضبة من بعض الجنود العراقيين المنسحبين من الكويت ، الذين قاموا بإطلاق النار على تماثيل وصور صدام عند دخولهم مدينة البصرة وتحديدا في ساحة (سعد) ،وبذلك كسروا حاجز الخوف الذي شيده النظام على مدى عقود بمنظومته الأمنية القمعية التي كممت الأفواه وصادرت الحريات ، فشجعت أبناء محافظات الوسط والجنوب ، الذين عانوا الظلم والتهميش والإقصاء من هذا النظام الشوفيني الطائفي على مدى عقود ،على النزول إلى الشوارع والمطالبة بإسقاط النظام الذي كان سببا لكل هذه الهزائم والماّسي التي حلت به ، ثم ما لبثت أن تحولت إلى انتفاضة عارمة انتشرت كالنار في الهشيم بين محافظات الوسط والجنوب لتشمل أربعة عشر محافظة من ضمنها المحافظات الشمالية وسيطر الثوار على كل تلك المحافظات لمدة أسبوعين ، وأندحر النظام ونكفأ على نفسه .. لكن غياب التنظيم وقلة التسليح  لدى الثوار وغياب الإرادة الإقليمية والدولية بالتغيير أدى إلى استعادة النظام للمبادرة مرة أخرى وتمكن من إعادة ترتيب صفوفه بعد أن مارس عهره في خيمة صفوان وأعطى كل شيء لدول التحالف الغربي وبالخصوص أمريكا  ، ليتفرغ لإجهاض الانتفاضة في الوسط والجنوب ، بمباركة عربية أمريكية بعد أن أوهم النظام المحيط العربي والدول الغربية  بأن الانتفاضة هي ذات طابع طائفي ومدفوعة وموجهة من خلف الحدود ، فقامت قوات التحالف الغربي بسحب قواتها من مدن العراق الجنوبية ، وسمحت له باستخدام الطائرات المروحية لضرب الثوار ،وتركت الباب مفتوح على مصراعيه لفلول النظام بممارسة أبشع أساليب القتل والتنكيل بحق أبناء المحافظات المنتفضة حتى وصلت إلى استهداف المراقد المقدسة في كربلاء ، وقام أزلامه بتنفيذ حملات إعدام جماعية  ، تمثلت  بجريمة  المقابر الجماعية التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة ألف عراقي من رجال وشيوخ وأطفال ونساء، وحول هذه المحافظات إلى سجون كبيرة يوشحها الموت والخوف والجوع والحرمان ، وأطلق رأس النظام حينها مفردة (الغوغاء ) على الجماهير المنتفضة ، في محاولة للانتقاص منهم ، وفاته حينها أن مفردة غوغاء لغويا تعني الشعب المنتفض والثائر .. وبذلك قضى هذا النظام الدموي الذي وسم تاريخه بالدم والحروب على الحلم العراقي آنذاك بالتغيير والخلاص ، وكان لأنتفاضة آذار المباركة التي استمرت لأكثر من شهر ، أن تحقق مبتغاها ، ولأصبح التغيير عراقيا صرفا وبسواعد وإرادة أبنائه  ، لولا تآمر الاستكبار العالمي عليها .. لكنها بالرغم من كل ذلك ستبقى علامة مضيئة في جبين العراق ، تنهل منها الأجيال العبر والدروس ومعاني التضحية والفداء من اجل العراق.