أن الإنسان مدني بالطبع، هذا ما صاغه وقرره الحكماء والعلماء والمتكلمين وغيرهم من أصحاب علم الاجتماع والمعرفة، من أن الإنسان مضطر إلى الحياة الاجتماعية وهي متوقفة على الحاكمية النموذجية في جانب التشريع او التنفيذ.
ومن البديهي أن الإنسان لا يتوصل ولا يقضي كثيرا من حاجاته إلا بتوسط تبادل الخدمات مع أفراد جنسه البشري، وبالتالي فتلبيه تلك الحاجات لا تتم إلا بالاستخدام المتبادل بين الأفراد، ولا يقتصر هذا على الحاجات الغرائزية فقط، بل حتى الحاجات الروحية والنفسية أيضا. فان الإنسان يميل بالفطرة إلى الآلفة والأنس ببقية أفراد جنسه، كما أن كمالاته الروحية أيضا إنما تتم بتبادل العلوم في شتى المجالات وتبادل المهارات وكذا التأثير المتبادل في نظام السلوك. وقد أشبعت العلوم الاجتماعية والنفسية هذا الموضوع بالبحث والدراسة.
أن الحياة الاجتماعية متوقفة على الحاكمية النموذجية في جوانبها العديدة، والتي أبرزها التشريع والتنفيذ. فان حفظ تآلف مجموع النظام المدني إنما يتم بتوفر الفرص للأفراد ليقضي كل منهم حاجاته ورغباته وهو معنى العدالة الاجتماعية.
وحفظ العدالة لا يتم إلا بالتشريع والتنفيذ العادل في جميع تفاصيله، ومن ثم تطبيقه تطبيقا دقيقا.
والتشريع الجامع القانوني يتطلب مُشرعا ومقننا عارفا ومحيطا بحقائق الأفعال، سواء على صعيد النظم ام على صعيد الأفراد والآسر. والغايات والكمالات المطلوب الوصول إليها وهذا ما يشير إليه سبحانه في قوله (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)( ).
ويتطلب ذلك أن لا يكون المشرع والمقنن نفعيا يراعي مصلحته الخاصة، والى ذلك يشير الحكماء في ان (الجواد هو الفاعل بالعناية) وكذلك الحال في مقام التدبير بالمعنى العام الشامل للجوانب المختلفة ولا ريب ان هذه الصفات لا تتوفر بنحو مطلق إلا في الله سبحانه، فهو احكم الحاكمين في كل مجال ومقام، قال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)( ).
فالحاكمية لله سبحانه سواء في الجانب التشريعي ام في الجانب التنفيذي، ولا تتوفر حاكميته سبحانه في كل الجوانب إلا عند إتباع ما أراده هو سبحانه.
لان غاية الوجود هو الكمال والسعادة، والتحرك نحوهما – مع انطواء الإنسان على الغرائز المختلفة المتضادة وعقله وعلمه المحدودين – يضطر إلى الاستعانة بتعاليم الإله بتوسط الأنبياء والرسل.
لهذا فقد قيل: (تخلقوا بأخلاق الله)، وهذا التخلق هو بصفة عامه لجميع المخلوقين على السواء، حاكمين كانوا ام محكومين. حتى أن الفلاسفة قالوا: (الفلسفة عبارة عن التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية). فكلما كان الإنسان متخلق بأخلاق الله كان اقرب إلى نيل السعادة والكمال، وكانت إنسانيته أكمل ومنزلته ارفع.
أن مشاركة الناس في الحكم (عملية الانتخاب) قد تتصور عبر عدة جهات:
الأولى: رقابة الدولة:
هذه الرقابة تتخذ أشكالا وصيغا في كل زمن بحسبه وهي تتشعب بدورها أيضا إلى شعب:
1- إقامة الحكومة الصالحة والحاكم صاحب الحق والصلاحية (القوي الأمين).
2- الإطاحة بالحكومة الفاسدة والحاكم الفاسد.
3- مراقبة كافة أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية وكذا الوزراء ورؤساء المحافظات وغيرهم.
وهذه الوظيفة الملقاة على عاتق الآمة تعم حتى حكومة (الإمام المعصوم) حسب نظرية الشيعة الإمامية. لان حكومته تتشكل من أعضاء غير معصومين فتكون الرقابة لجهازه معونة له. ونصيحة من الرعية للحاكم.
كما أن المراد من إقامتهم للحكومة الصالحة ليس إعطاؤهم الصلاحية وتوليتهم الحاكم، بل المراد إعانتهم لصاحب الولاية المشروعة في الحكم وتمكينه ببذل القدرة التكوينية له وبهذا المعنى يستعمل القرآن التعبير بالتوليه في كثير من النصوص القرآنية..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)( ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)( ).
الثانية: الجبر الاجتماعي:
هو سلطة للقيم الاجتماعية تتحكم في سلوك الأفراد كما تتحكم في الظواهر الاجتماعية الاخرى التي تكون من قبيل السلوك الجماعي أيا كانت تلك القيم وأيا كان منشؤها وارتباط باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه السلطة وثيق جدا. لان عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تسلط المفسدين وشرار الخلق على رقاب الناس.
وهذه تشير إلى حقيقة الارتباط بين سلطة الآمة ونوعية سلطة الحاكم على النظام الاجتماعي وانه وليد تلك السلطة في المجتمع (لأنه كما يكون الناس يولى عليهم).
وهذه إشارة إلى حقيقة من حقائق علم الاجتماع وظاهرة من ظواهر السلوك الجماعي والاجتماعي من ارتباط وتولد الرأس المدبر في النظام السياسي الاجتماعي من سلطة النمط القيم السائد في المجتمع، فان كانت حسنة وحقه فيتولد منها اتصاف الحاكم بالفضيلة والحقانية، وان كانت سيئة وباطلة فيتولد منها كون الحاكم متصف بالطغيان والشر والفساد والى ذلك يشير سبحانه في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)( ). أي حتى يغيروا ما بأنفسهم من قيم ومبادئ وآداب.
فهذه السلطة للقيم المتمثلة بزاجريه جمعية جماعية يكون لها القدرة البالغة في التحكم على مصير النظام السياسي والاجتماعي ومقدرات الآمة.
الثالثة: الإعلام بكل وسائله وتطوراته.
اصطلح على تسمية الإعلام بأنه السلطة الرابعة وفي الحقيقة أن القوة والقدرة لا تكمن في الإعلام من حيث هو هو، بل من جهة آراء الناس وضغط الراي العام على الأنظمة والحكومات وعلى الجهات السياسية الاخرى فهو يرجع إلى الرقابة الاجتماعية على كافة الجهات وتلك الرقابة تشكل عنصرا ضاغطا إلا انه حيث كانت آلية الإعلام مؤثرة بقوة وبسرعة في صنع الآراء ومواقف المجتمع فمن ثم عبر عنها بأنها قدرة وسلطة رابعة.