18 ديسمبر، 2024 5:51 م

انتخابات هولندا والمعاني المتفاوتة

انتخابات هولندا والمعاني المتفاوتة

لم تكن هولندا (17 مليون نسمة) لتثير أيّ اهتمام مميّز في أوساط المعنيّين بالسياسة الأوروبية أو السياسة الدولية. فهي، فضلاً عن صغرها النسبي، بلد شديد الاستقرار سياسياً، لا تكاد حكوماته تتغير إلا على نحو طفيف. وفوق هذا، ولسنوات طويلة عُدت هولندا أكثر البلدان الغربية تسامحاً حيال اللاجئين والمهاجرين والمختلفين. ومن المعروف أن جاليتين مسلمتين كبريين تقيمان فيها: واحدة إندونيسية تنبع هجرتها من حقيقة أن إندونيسيا سبق أن خضعت لاستعمار هولندي، وأخرى مغربية تعاظم حجمها في العقود الأخيرة.
وقد درج بعض المنوّهين بالتسامح الهولندي على التذكير بالإصلاح الديني ودور إيراسموس الذي أسس مبكراً مرتكزات ذاك التسامح الذي اشتهر به البلد.
منذ نحو من عقدين بدأ كل هذا يتغير. وفي 2004 تحديداً حصل الحدث الذي هز المجتمع الهولندي. فقد اغتيل السينمائي والتلفزيوني «ثيو فان غوغ» على يد المغربي- الهولندي محمد بوياري، بسبب فيلم أخرجه عن الصومال والنساء المسلمات، بالتعاون مع السياسية الصومالية «أيعان هيرسي علي».
قبل عامين على مقتل «فان غوغ»، اغتيل السياسي العنصري «بيم فورتوين» على يد «فولكرت فان دير غراف». الأخير قال إبان محاكمته، إنه أقدم على فعلته كي يوقف «فورتوين» عن استغلال المسلمين وتقديمهم ككباش محارق، وعن استهداف ضعفاء المجتمع الهولندي لأغراض سياسية.
باختصار، بدأت حرب الهوية تعصف بهولندا، وقد وصلت إلى ذروتها مع انشقاق غيرت فيلدرز عن حزبه المحافظ والتقليدي، «الحزب الشعبي للحرية والديمقراطية»، وتشكيله «حزب الحرية». وقد بات معروفاً أن فيلدرز هذا مجرد مغرد «تويتري» أكثر منه قائداً سياسياً أو صاحب أفكار رصينة. أما حزبه فيقوم على «برنامج» بالغ الارتجال والسطحية مؤداه نقاط ثلاث: الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وإغلاق المساجد في هولندا، ومنع القرآن!
لكنْ بعد التصويت لصالح «بريكسيت» في بريطانيا، ووصول دونالد ترامب إلى رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة، ظهرت مخاوف شرعية من أن تقع هولندا في براثن فيلدرز وحزبه الشعبوي- العنصري. فاحتمال كهذا كان كفيلاً بأن يرتب أسوأ العواقب، ليس بالنسبة إلى علاقات هولندا بالعالم الإسلامي فحسب، ولا حتى بالهولنديين من ذوي الأصول المسلمة وحدهم، بل أيضاً وأساساً في ما يخص أوروبا وخريطتها السياسية والاجتماعية.
ففي الأشهر المقبلة ستتجه الدولتان الأوروبيتان الأكبر، واللتان هما ركيزتا المشروع الأوروبي، أي فرنسا وألمانيا، إلى صناديق الاقتراع. والنتيجة التي تسفر عنها الانتخابات الهولندية لابد أن تؤثر في النتائج الفرنسية والألمانية: فكل فوز لغيرت فيلدرز سيترجم نفسه فوزاً لمارين لوبن ولجماعة «البديل من أجل ألمانيا»، وبالتالي تقويضاً للمشروع الأوروبي.
هولندا، لحسن الحظ، خيبت آمال المراهنين على حروب الهوية وانهيار المشروع الأوروبي، وإن جاء هذا مرفقاً بأثمان ثلاثة لابد من التنبه إليها في المستقبل.
فأولاً، هبطت قليلاً نسبة تأييد الحزب المحافظ الحاكم (الحزب الشعبي) الذي يقوده مارك روتّيه. وهذا بمثابة جرس إنذار.
ثانياً، زادت قليلاً نسبة تأييد «حزب الحرية»، وهذا جرس إنذار آخر. وثالثاً، اضطر روتّيه، من أجل حرمان فيلدرز من استغلال التوتر الأخير مع تركيا، إلى اعتماد اللغة الشعبوية وبعض الإجراءات الأمنية القصوى.
وبمعنى آخر، صوتت أكثرية الهولنديين للحفاظ على الوضع القائم. إلا أن المتذمرين من الوضع القائم تزايدوا قليلاً. وموقف كهذا أنقذ العلاقات الهولندية- المسلمة كما ترك آثاراً إيجابية على أوروبا. إلا أن الاكتفاء بالوضع القائم لا يكفي: ألم تنشأ الشعبويّة الراديكالية وتتطور من رحم هذا الوضع القائم؟
لقد أكدت الانتخابات الأخيرة أن هولندا لا تزال بخير، إلا أنها أكدت أيضاً أن الشر يحدق بها. وأسوأ الخلاصات الاكتفاء بتهنئة النفس والقول إنه ليس بالإمكان أفضل مما كان.

* نقلا عن “الاتحاد”