منذ عودته من واشنطن وتوقيع عدد من الاتفاقيات المذلة، لم ينفك مصطفى الكاظمي، رئيس الحكومة العراقية، من الحديث عن الانتخابات المبكرة وعن الاستعدادات التي يقوم بها من اجل انجاحها. الى درجة اصبحت كلمة الانتخابات الخاتمة لكل حديث يدلي به او لقاء يحضره او زيارة يقوم بها. ويبدو ان الكاظمي قد وجد ضالته في هذه الحيلة لمداراة عجزه وفشله، في تحقيق اي من وعوده الوردية. خاصة فيما يتعلق بالحد من النفوذ الايراني وانهاء دور المليشيات وحصر سلاحها بيد الدولة، او توفير الخدمات او تحقيق الامن والاستقرار. زد على ذلك تراجعه بفتح ملفات الفساد وتقديم الفاسدين الى المحاكم، والغاء المحاصصة الطائفية وتقديم حلول للازمة الاقتصادية. اما وعده القاطع حول تقديم قتلة الثوار للعدالة، فلم ينبس تجاهه ببنت شفة، بل عاد الطرف الثالث، وهم المليشيات المسلحة الموالية لايران، لممارسة هوايتهم بقتل الثوار في العديد من المدن العراقية. في حين ظهرت هزالة موقفه ضد التدخلات الاقليمية بشكل مخجل ومعيب. فاذا كان اسلافه قد قبلوا بالخضوع للاجندات الايرانية بالسر، او تحت الطاولة كما يقال، فان الكاظمي قبلها بوضح النهار.
ليس الكاظمي وحده الذي وجد ضالته في حيلة الانتخابات المبكرة للخروج من مازقه، وانما رقص لها كل الاشرار في العملية السياسية، على امل استعادة مكانتهم وقوتهم التي فقدوها بعد ثورة تشرين، التي كادت تطيح بهم لولا انتشار وباء كورونا، الذي فرض على الثوار وقف الزحف الثوري حرصا على حياة العراقيين التي قامت الثورة من اجلهم، فسارعوا الى اعلان تاييدهم لهذه الحيلة، ليقولوا للثوار نحن معكم نستجيب لمطالبكم ونعمل على ترجمتها باسرع ما يمكن. ولم يقف رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي متفرجا، فقد اصدر بيانا يدعم خطوة الكاظمي، ويدعو الى “عقد جلسة طارئة علنية ومفتوحة بمشاركة الرئاسات الثلاث والقوى السياسية لحل البرلمان واجراء الانتخابات”. في حين رحب برهم صالح رئيس الجمهورية بهذا الاعلان واصفا اياه بانه “جاء التزاماً بما تعهد به البرنامج الحكومي”. ولم تكن بعثة الامم المتحدة في العراق بعيدة عما جرى. فوصفت قرار الكاظمي باجراء انتخابات مبكرة بانها إستجابة لمطلب شعبي رئيسي. وان البعثة مستعدة لتقديم الدعم الكامل من اجل إجراء ” إنتخابات حرة ونزيهة. بعبارة اخرى اصبح الاشرار في مقدمة المطالبين بالاصلاح في مشهد مثير للسخرية والاشمئزاز.
لم يكن هؤلاء الاشرار اغبياء بسلوكهم المؤيد لقرار الكاظمي. فاجراء الانتخابات المبكرة في ظل تجاهل شروط الثوار، الذين استهجنوا هذه الحيلة الرخيصة، ستصب لصالحهم بكل تاكيد. اذ ما الذي يخشاه هؤلاء الاشرار من هذه الانتخابات، اذا لم يتوفر قبلها، كتابة قانون جديد للانتخابات وقانون للأحزاب يجرم الاحزاب الطائفية والعنصرية والموالية للاجنبي، ومفوضية للانتخابات مستقلة ونزيهة وتعيين لجنة قضائية مستقلة واشراف دولي محايد. اضافة الى منع اي شخصية شاركت في العملية السياسية منذ عام 2003، وساهمت في تدمير العراق دولة ومجتمعا. اذ من دون ذلك سيحصد هؤلاء الاشرار معظم مقاعد البرلمان بقوة المال والسلطة اضافة الى الدعم غير المحدود لهم من قبل المرجعيات الدينية ذات التاثير الكبير في صفوف فئات واسعة من العراقيين وخاصة في المناطق الجنوبية ذات الاغلبية الشيعية. وبالتالي فان هذه الدعوة لاجراء انتخابات مبكرة وبهذه الطريقة، لا علاقة لها باي مشروع اصلاحي يصب في خدمة العراق واهله، وانما تدخل في باب الالتفاف على مطالب الثوار، ليتمكن هؤلاء الاشرار من شخصيات وقوى واحزاب وتيارات سياسية من استعادة مكانتهم وقوتهم، وما خسروه بعد ثورة تشرين.
اصل الحكاية يكمن في افتضاح جميع مبررات امريكا لاحتلال العراق ومنها، كذبة اسلحة الدمار الشامل، او علاقة الراحل صدام حسين بتفجيرات الحادي عشر من ايلول. الامر الذي اضطر بوش الابن رئيس الولايات المتحدة انذاك، الى ترويج حملة اعلامية عملاقة مفادها، ان امريكا ستبني نظاما ديمقراطيا في العراق من خلال الانتخابات الحرة وتصوير هذه الكذبة على أنها إنجاز سياسي واجتماعي متميّز، ونقله نوعية فريدة على طريق إقامة مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية كقاعدة لإقامة صرح العراق الجديد، ظناً منه إن ذلك سيقنع العراقيين بغض النظر عن جريمة الاحتلال، والتخلي عن مقاومته، والقبول بما يدعى “العملية السياسية”، لما للديمقراطية والانتخابات من تاثير سحري في نفوس العراقيين، لحرمانهم منها عقودا طويلة. لكن الذي حدث، ان بوش اصطدم بشعب عريق تمتد حضارته لآلاف السنين وقادر على تمييز الديمقراطية التي ياتي بها المحتل، والديمقراطية المنبثقة منه. خاصة وان نتائج النظام الديمقراطي قد افرز فوز نواب لا علاقة له بصناديق الاقتراع ولا باصوات الناخبين وانما حددت نتائجه مسبقا على اساس المحاصصة الطائفية والعرقية، بحيث يكون منصب رئيس الوزراء للشيعة ورئيس البرلمان للسنة في حين اصبح منصب رئيس الجمهورية من حصة الكرد. ناهيك عن الوسائل المكشوفة التي مارسها هؤلاء الاشرار قبيل اليوم الموعود لاجراء الانتخابات ومنها، بذخ الاموال وشراء الذمم والفتاوى الدينية الى جانب التهديد والابتزاز ومحاربة الناس في لقمة عيشهم او الفصل من الوظائف والاعمال وغيرها، اضافة الى حجم التزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات، حتى وصل الامر لان يتهم نوري المالكي رئيس الوزراء حينها خصومه بالتزوير ويطالب باعادة فرز الاصوات بالطرق اليدوية. اما في الانتخابات الاخيرة فقد جرى حرق صناديق الاقتراع على عينك يا تاجر كما يقول العراقيون.
بالمقابل، فان الانتخابات بحد ذاتها، لا تدل لوحدها على ديمقراطية النظام، على الرغم من انها اهم اعمدة النظام الديمقراطي. فهناك الدستور والبرلمان والقضاء. اي ان الديمقراطية اطار جامع لكل هذه الادوات، فاي تعديل او تغيير في واحدة منها لا يسقط، بل لا يضر بالعملية السياسية، فسقوط حكومة عادل عبد المهدي على سبيل المثال لا يعني سقوط العملية السياسية، وحل البرلمان او تعديل قانون الانتخابات ينطبق عليه نفس الشيء. والاهم من ذلك كله، فانه لا يمكن لكائن من كان ان ينسف واحدة من هذه الادوات، لا من داخلها ولا من خارجها، فكل واحدة منها محمية بهذه الطريقة او تلك من جهة، وتحمي بعضها البعض من جهة اخرى. خاصة، وهذا هو الاهم، ان هذه العملية السياسية صممت اصلا من اجل تدمير العراق، وليس من اجل تشكيل عملية سياسية لبناء العراق الجديد كما يدعي المحتل.
هذه الحقيقة لا تقودنا الا لاستنتاج واحد، بان الانتخابات القادمة التي يريدها الكاظمي وبالتعديلات الجزئية على قانونها، او مفوضيتها، لن تكون سوى نسخة مشوهه للانتخابات التي سبقتها. واذا حدث وتمخضت عن تغيرات او اصلاحات محدودة ، لذر الرماد في العيون، فانها لن تغير من الامر شيئا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فان تعديل قانون الانتخابات الذي وضعه الحاكم المدني للعراق بول بريمر بعد الاحتلال، وسارت على اساسه الانتخابات جميعها تعديلا جزئيا، لا ينتج عنه غير فوز هذه الكتل والطوائف الحاكمة والسراق والحرامية والمجرمين. حيث ينص هذا القانون على توزيع جميع المقاعد في البرلمان على الكيانات السياسية من خلال نظام للتمثيل النسبي، ونظام الدوائر على عدد المحافظات وتوزيع المناصب على اسس طائفية وعرقية محمية من قبل العديد من مواد الدستور الذي تجنب هؤلاء الاشرار الحديث عن الغائه او تعديله.
اما على ارض الواقع، وبحسبة بسيطة، او حسبة عرب كما يقال، فقد اثبت هذا الواقع عدم جدوى هذه الانتخابات. فمن جهة فان النتائج الماساوية التي افرزتها اربع تجارب انتخابية سابقة، اكدت بان الانتخابات في العراق لم تجر من اجل بناء نظام ديمقراطي يخدم العراق واهله كما يدعون، وانما تجري من اجل توفير الية سياسية ذات صفة ديمقراطية، وبقيادة الحرامية والمجرمين، كي تتمكن امريكا من خلالها حكم البلاد بطريقة غير مباشرة، بعد فشلها في تحقيق ذلك عبر الحاكم العسكري جي كارنر، ثم الحاكم المدني بول بريمر. واذا لم يكن الامر كذلك لكان علينا جميعا تصديق مقولة الامريكان، بانهم جاءوا الى العراق محررين لا محتلين. هذه هي الحقيقة واي خلاف حولها يعد، اما سذاجة سياسية، او لتحقيق اهداف ذاتية او فئوية ضيقة.
باختصار شديد، فان الانتخابات القادمة، في ظل حكومة الكاظمي التي هي نتاج ذات المستنقع الاسن للعملية السياسية وذات الوجوه الكالحة، لن تكون قطعا سوى نسخة طبق الاصل، من الانتخابات التي سبقتها، مهما جرى تزويقها، او تجميلها بمساحيق العالم كله. وان المشاركة فيها هي اعتراف بمشروعية العملية السياسية، واعطاء الحق لذات الوجوه الكالحة التي ستفوز حتما، بمواصلة سرقة العراق وقتله وتجريفه شعبا وهوية من جهة، وخدمة مشروع الاحتلال وتكريسه لعقود طويلة من الزمن من جهة اخرى.