22 ديسمبر، 2024 9:44 م

انتخابات لهيكلة الميليشيات في العراق

انتخابات لهيكلة الميليشيات في العراق

لم تكن الانتخابات التي جرت مؤخرا في العراق مبكرة ولا هي مطلبا لثوار تشرين كما أدعى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لان المتظاهرين السلميين طالبوا بإلغاء عملية الاحتلال السياسية وبعاد أحزابها وبرلمانها ودستورها من أي نشاط سياسي ومن ثم اجراء انتخابات مبكرة. لكن الكاظمي الذي تم تعيينه رئيسا لحكومة “تسيير الاعمال ” لم يستمع لصوت الشارع العراقي الذي خرج للإطاحة بكل اركان العملية السياسية، بل أستخدم أسلوب المماطلة وكسب الوقت مستغلا الإجراءات الصحية المتعلقة بجائحة كورونا، لإجراء انتخابات عادية وليست مبكرة قبل ستة أشهر من موعدها المحدد.
للوهلة الأولى يبدو مشهد توزيع المقاعد الانتخابية على انه نوع من “الترضية واستجابة” لمطالب ثوار تشرين في تجديد الوجوه السياسية اذ حصل تكتل “المستقلين” على أربعين مقعدا وحازوا على المرتبة الثانية في تسلسل نسب المقاعد الفائزة في الانتخابات ونالت احزاب أخرى عددا اقل من المقاعد التي حصلت عليها سابقا، في حين اختفت وجوه قديمة من حرس العملية السياسية. لكن العملية الانتخابية بقيت في حدودها المرسومة من قبل الاحتلال الأمريكي ووكيلة الإيراني، عملية محاصصة طائفية وعرقية . اذ تبدو قوائم المقاعد قد حسبت بطريقة دقيقة وفق المقولة المعروفة، التجديد من اجل استمرار القديم. ان كتلة “المستقلين” ليست مستقلة لان جل أعضائها يرتبطون بأحزاب العملية السياسية وشخصياتها، وجاء تشكيلها ودخولها للانتخابات بدعم ودفع من هذه الأحزاب التي تأكدت من خسارتها لشعبيتها حتى في حاضناتها التقليدية بسبب ثورة تشرين ومثلها كتلة امتداد التي تم تسويقها كمجموعة ترتبط بثورة تشرين بينما يعرف الناس ولاءات أصحابها للأحزاب الدينية.
على ان اهم ما يلاحظ في خارطة توزيع المقاعد هو الاتجاه لهيكلة الميليشيات وتأطيرها سياسيا للسيطرة عليها تحت “مسمى موحد” وإيجاد محاور مناسب واحد للتفاهم معه وذلك لمنع المساس بهيبة الوجود الأمريكي والتحرش بسفارته بأي صاروخ حتى لو سقط قريبا منها او في فضاء ساحتها الواسع من قبل الميليشيات الولائية اتباع الحرس الإيراني. من هنا فأن ترتيب توزيع المقاعد خضع لهذه الترتيبات قبل أي شيء آخر فحساب سريع لمقاعد أحزاب شيعة العملية السياسية تظهر توازنا بين الكتلة الصدرية وبين دولة القانون والفتح والعبادي والحكيم وغيرها، فالقول مثلا بخسارة نوري المالكي هو قول تدحضه المقاعد التي حصل عليها في الانتخابات السابقة والتي وصلت الى خمس وعشرين مقعدا بينما فازت قائمته دولة القانون اليوم بأربعة وثلاثين مقعدا. اما أحزاب ما يسمي بالبيت الشيعي الأخرى فقد نالت أصواتا تعبر عن قدر حجمها الطبيعي لدى الناخبين العراقيين الذين لم يتوجهوا لصناديق الاقتراع بشكل واسع للمرة الثانية؛ بل ان بطل هذه الانتخابات هو المقاطعة الشاملة التي فاجأت كل الأحزاب السياسية وبالأخص أحزاب ميليشيات إيران التي تمت معاقبتها من جمهورها نفسه الذي نبذها وفقد ثقته بها. فالأرقام الأولية التي نشرتها مفوضية الانتخابات بحضور المراقبين الدوليين تبين مشاركة لا تتعدى 11% وتحدثت مصادر مطلعة عن مشاركة ضئيلة جدا لا تتجاوز 6% وجاء تصريح السيدة فيولا فون كرامون رئيسة بعثة الاتحاد الأوربي لمراقبة الانتخابات التي قالت عبر شاشات الفضائيات “ان نسبة المشاركة متدنية جدا في الانتخابات وهذه رسالة واضحة للنخبة السياسية في العراق”. وهذا ما كتبه مراسلو الصحف الامريكية والاوربية مثل صحيفة نيويورك تايمز واللوموند.
اما ما يجري من اعتراض أحزاب العملية السياسية على نتائج الانتخابات واتهام المفوضية ودول بالتآمر على المليشيات التابعة للحرس الإيراني فهو ابتزاز وترهيب علني وصريح للمفوضية كي تقوم برفع عدد مقاعد بعض الأحزاب التي اعتقدت بانها كانت ستحصل على كعكة أكبر من المقاعد المعلنة تتيح لها هيمنة متزايدة لميليشياتها وهو ما حصلت عليه بعد ان عدلت المفوضية من أرقامها بحجة وجود نسبة من الأصوات لم تحصى لترتفع مقاعد كتلة الفتح التابعة لهادي العامري الى ستة عشر ووصلت مقاعد المستقلين الى أربعين مقعدا، لكن أهم ما يحصل في حملة رفض نتائج الانتخابات هو التهديد بالحرب الاهلية وانزال مجاميع من الشباب للتظاهر وحرق اطارات العربات وقطع الطرق الرئيسية لبعض المدن والتهديد باستعمال السلاح ورفع شعار ما ننطيها من جديد ومواجهة القوات الأمنية والتهديد بإرسال صواريخ بالستية على دولة الامارات المتهمة بتزوير الانتخابات، بهدف الضغط على مقتدى الصدر وردعه من القيام بتحالفات خارج البيت الشيعي او الاطار التنسيقي الذي انشأ لهذه المناسبة لمنع حصول تحالف يجمع الكتلة الصدرية مع كتلة “تقدم” التي يرأسها محمد الحلبوسي رئيس مجلس النواب السابق ومع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البرزاني يمكنها ان تشكل الغالبية في البرلمان القادم. ليس ذلك فحسب بل ان هذه الأحزاب عادت وعلى “طريقة المفاوض الإيراني” في اللف والدوران للحصول على المزيد، للكلام بشكل واسع عن أحقية نوري المالكي برئاسة الوزراء ولتفسير قانوني قديم لمعنى الكتلة الأكبر الفائزة في الانتخابات التي يحق لها تشكيل الحكومة في حين ان قانون الانتخابات الجديد قد عدل هذه الفقرة وجعلها صريحة لا تحتاج الى اجتهاد ولا محكمة دستورية اذ تقول بتشكيل الحكومة من الكتلة التي حصلت على أكبر عدد من الأصوات ما يعني الكتلة الصدرية فقط لا غير.
لقد وجه الشعب العراقي لطمة قوية لأحزاب العملية السياسية بمقاطعة هذه الانتخابات، لطمة تشرينية ، سلمية وشجاعة جاءت بعد حملة واسعة عربية وغربية لتسوق من جديد نفس المنتوج الامريكي الإيراني الذي مجت أرواح الناس من مذاقه، ضربة للاحتلال ولدول حلف الأطلسي التي تستقتل مع الولايات المتحدة وايران وحلفائهم لتدمير العراق وتوزيع غنائم ثرواته فيما بينهم، موقف المقاطعة هذا رسالة قوية لمن يريد ان يسمع من ان الشعب العراقي لن يسحق تحت مؤامراتهم وعسفهم وانه ناهض لا محالة للتخلص من سجانيه الفاسدين الذين امتلأت جيوبهم بمليارات الدولارات مقابل خدماتهم للمحتليين.
ثورة تشرين لم توأد كما يتقصد نشر ذلك بعض اعلام الغرب المستفيد من نهب العراق لأن جيل جديد من الشباب نزل الى الشوارع والساحات، حامل شعلة وعيها واصالتها وبطولة شبابها وحسرتهم على بلدهم المنهوش لحمة من كل الجهات، قد عقد العزم على استكمال المسيرة، وهو من خرج بمناسبة الذكرى الثانية لها يرفع صور الشهداء، يعاهدهم على الاستمرار في السير على نفس طريق التحرير لاسترجاع العراق.