18 ديسمبر، 2024 11:11 م

يتهيأ أصحاب عملية الاحتلال السياسية في المنطقة الخضراء لإقامة خامس انتخابات تجري في العراق منذ الغزو الأمريكي وذلك في العاشر من شهر تشرين المقبل. مع كل انتخابات،
يتداول العراقيون قصص وروايات عجيبة وغريبة لما يحدث خلال هذه الفترة من طرق بيع وشراء الأصوات والمناصب واسعارها حتى أصبح كل ما يدور اساليب عادية “وقانونية” -لعدم تصدي القانون لها الا في حالات محدودة جدا – غير مخجلة، يتبارى أصحابها للسبق باختراع أنواع الخدع واستخدام مختلف الطرق لنيل ما يريدونه من الأصوات والمناصب مما دعا أحد العراقيين لعمل نشرة يومية لأسعار الأصوات شبيهة بنشرة أسعار بيع وشراء الدولار يذكر فيها أسعار الأصوات، صعودها وهبوطها كما تصله بالوقت، وبالأحرى صعودها اليومي مع اقتراب موعدها.
ولعل هذه الانتخابات هي سابقة بين نظيراتها لان ما كان يحدث قبلا في الخفاء أصبح يجري اليوم علنا في وضح النهار على يد عدد كبير من المرشحين سواء منهم القديم ممن يريد التجديد له او من يرغب بالترشح حديثا. أذ يأتي هؤلاء الى الأماكن التي يرغبون الترشح عنها ومعهم حقائب الأموال لينثروا قليلها على البؤساء في الضواحي والبلديات والقرى القريبة من المدن والبعض يأتي بمعدات ضرورية يفتقدها الناس يشتري بها أصوات الناس بأساليب غير معهودة للعراقيين كما فعل منسق أنتخابي جاء الى احدى مناطق جنوب العراق ومعه “محولة كهربائية” ليقايض سكانها بمائه صوت انتخابي لكنه لم يحصل الا على خمس وثلاثين صوتا مما دفعه للتوسل بالحصول على سبعين صوتا فقط مقابل إعطاء المحولة ولم يفلح فما كان منه الا ان يهرب بالأصوات التي حصل عليها “والمحولة الكهربائية” التي سيذهب بها بالتأكيد الى فقراء وبسطاء آخرين لسرقة أصواتهم. واستدعي شيخ عشيرة نائب برلماني قديم لدفع “فصل عشائري” قدره مائه مليون دينار بسبب رفع اتباعه راية الحسين ووضع إعلانه الانتخابي محله بالخطأ وادعى الشيخ المطالب “بالفصل العشائري” ان نصف هذه الأموال ستذهب لراية الحسين والنصف الاخر لشهداء الحشد والقوات الأمنية وعلى رأسها قائد الحرس الإيراني السابق قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. اما شراء الأصوات من النساء مقابل الزيارة وبضعة دنانير فقد أصبح أسلوبا متداولا بكثرة تحترفه النساء لإقناع زائرات المراقد وهن كثر. لكن الأكثر عجبا واسفافا هو قيام أحد رؤساء الرئاسات الثلاثة بعملية شراء أصوات “لتحسين أوضاع أحد احياء بغداد ” بعدة مليارات من الدنانير مقابل انتخاب أحد المرشحين، وحين تم استلام الصك وجد الناس ان المبلغ المتفق علية مع الرئيس غير كامل وظهر انه اقتطع عدة مليارات دينار “عمولة له”.
هذه بضعة شواهد على الأرض لواقع الانتخابات التي تجري في العراق وهذه قصصها الحقيقية التي لا تقتصر على حزب دون آخر بل ان الجميع يتعاطى هذه الأساليب بطريقة او بأخرى لأنها أصبحت من أبجديات العملية السياسية في العراق وأكثرها جذبا لمن يريد الخوض فيها لأن الدخول للمجال السياسي بات وسيلة الاغتناء السهل والسريع للمال العام سواء عبر الصفقات واستخدام النفوذ السياسي أو تبادل المنافع لتسيير المصالح الذاتية المشتركة. اما الصورة الوردية لديمقراطية الانتخابات والعملية السياسية التي يطالعنا بها الاعلام الحكومي فهو عبارة عن تشكيلة لعناصر عملية التجميل التي تقوم بها الولايات المتحدة ودول التحالف مثل ارسال وزراء خارجية بعض الدول وإعادة فتح سفارات دول اخرى لدعم رئيس الوزراء وتمكينه من الامساك بمنصبه بفضل دول غربية ودعوة دول أخرى له واستقباله ليكون ذلك بمثابة دعاية لحكومته امام الشعب العراقي، تستكملها “حملة علاقات عامة” محلية لشركات هذه الدول موجهة “للرأي العام الدولي” المتفق على المحافظة والتمسك بعملية الاحتلال السياسية وتكريسها في العراق بكل الاثمان. تعرف هذه الدول وكذلك ممثلة الأمم المتحدة عزوف غالبية الشعب العراقي عن المشاركة في الانتخابات ليس اليوم بل منذ عام 2018، لأنه لا يعتبرها فقط انتخابات مزورة توجب عليه مقاطعتها ويتم تعيين رئاساتها الثلاث من الإدارة الامريكية بالتنسيق وبالتوافق المستمر مع إيران بل لأنها أمست بالنسبة له خرقة بالية يتندر عليها الصغير والكبير ومن كل الفئات. يعرف الشعب العراقي ان هذه الدول وممثلة الأمم المتحدة أطراف متواطئة مع التزوير -فقد صرحت جنين بلاسخارت بأن الخروقات في الانتخابات هو أمر عادي -وهي مع” تفصيل” قانون انتخابي “حسب الطلب” يضمن لكل من جاء مع الاحتلال او ألتحق بالعملية السياسية ومن بصم على خططها، الهيمنة الكاملة على الحكومة. ولا يغير من الامر ادخال وجوه جديدة للحلبة السياسية تحت مسمى ثوار تشرين فذلك كذبة مفضوحة كشفها الشعب العراقي لان قانون الانتخابات المعدل وليس الجديد كما يسموه قد اغلق بدقة أي باب للتجديد يمكن ان يحدثه وصول اشخاص يريدون تغيير وجه العملية السياسية الفاسدة والمهترئة المفروضة منذ ثمانية عشر عاما.
وكما جرت العادة في الانتخابات السابقة، لن يخرج رئيس وزراء من هذه الانتخابات بل سيتم تعينه والاتفاق عليه بين الولايات المتحدة وإيران وهو ما يبدو انه قد تم منذ أشهر بعد استدعاء الكاظمي الى واشنطن ليوقع دون نقاش على تجديد الاتفاقية الاستراتيجية. وما عقد المؤتمر الأخير في العاصمة العراقية بحضور دولي واقليمي الا رسالة تكريس لهذا التعيين واعتراف بالتجديد والدعم له وللعملية السياسية بميليشياتها واحزابها للسنوات الأربع القادمة. بل ان عدم حضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لمؤتمر بغداد وأرسال إيران لوزير خارجيتها الذي قفز على البروتوكول للوقوف مع الامراء والرؤساء بحجة ان مكان إيران معهم ومن ثم “استدعاء” الكاظمي الى إيران وإخراج استقباله بالطريقة التي تمت، تنم عن رسالة إيرانية لدورها المهم في تنصيبه. كما يبدو ان رئيس الجمهورية برهم صالح قد حظي هو أيضا بالتجديد لأربع سنوات قادمة لأنه وحسبما صرح لديه الكثير لما يقدمه لهذا المنصب !
بعد ثمانية عشر عاما وللمرة الخامسة ترعى الولايات المتحدة من جديد في العراق انتخابات لا علاقة لها بالديمقراطية بل هي انتخابات حسب الطلب محكمة الاغلاق على شاكلة المنطقة الخضراء كي لا يدخلها الا من تعامل مع المحتل. وما مشهد توقيع أحزاب العملية السياسية ورؤساء ميليشياتها “لمدونة السلوك الانتخابي ” المقترحة من رئيس الجمهورية دون مشاركة أي تكتل جديد بالتوقيع عليها حتى ممن سمح لهم بالترشح، الا دليل إضافي مع سبق الإصرار على التمسك بالسلطة تمشيا مع قول احدهم: ما ننطيها ! صاحب هذه المقولة هو رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وهو نفسه الذي صرح حديثا ان المشاركة في انتخابات عام 2018 كانت 18% فقط بينما قال خلفه حيدر العبادي بانه قدم تحقيقا كاملا عن المزورين للانتخابات لكن القضاء والبرلمان رفضا النظر فيه تجنبا للدخول في فراغ دستوري . هذه الحقائق العنيدة للمقاطعة التي واجه بها الشعب العراقي عملية الانتخابات السابقة هي التي هدمت وستهدم مرة أخرى في الانتخابات المقبلة كذبة الديمقراطية الامريكية المفصلة للأحزاب التابعة وتسحت من تحتها بساط الشرعية للعملية السياسية.
لقد وقفت غالبية الشعب العراقي وما تزال وراء ثورة تشرين التي خفتت بسبب وباء كورونا لكنها لم تنطفئ. وقد دعم العراقيون من الشمال الى الجنوب مطالب الثوار وأهمها كتابة قانون جديد للانتخابات يتضمن منع كل الأحزاب التي جاءت مع الغزو واشتركت في العملية السياسية الى اليوم من العمل السياسي إضافة الى عشرين مطلبا آخر شكلت برنامجا ديمقراطيا حقيقيا لاسترجاع العراق ارضا وسيادة واعادة بنائه على أسس حضارية جديدة وفقا لتعددية تعتمد المواطنة والقانون. هذا هو عراق تشرين الذي يريده العراقيون وليس عراق العملية السياسية والانتخابات المزورة والمفصلة حسب الطلب القائم على الفساد والخداع والارتهان للاحتلال والسفارات الاجنبية.