مع اقتراب موعد الانتخابات العراقية المقرر إجراؤها في تشرين الأول يزداد المشهد السياسي تعقيداً وتتسع فجوة الثقة بين المواطن والنظام القائم خصوصاً في محافظات الوسط والجنوب حيث باتت دعوات العزوف عن المشاركة تتردد بقوة بين مختلف الأوساط الاجتماعية هذه الدعوات لا تبدو مجرد ردات فعل عابرة وإنما تعبير عميق عن حالة غضب متراكم وإحباط مستمر من تجربة سياسية طالت سنواتها دون أن تقدم حلولاً لأزمات الناس اليومية منذ عام 2003 وحتى اليوم لم تظهر ملامح إصلاح حقيقي بل على العكس تفاقمت الأزمات وتكرست المحسوبية واستشرى الفساد حتى أصبح جزءاً من المشهد العام وتحولت الدولة إلى أداة تخدم مصالح أحزاب وشخصيات نافذة بعيداً عن احتياجات المواطن البسيط الذي يواجه أزمات الكهرباء والماء والصحة والتعليم في حياته اليومية لهذا يشعر أن صندوق الاقتراع لم يعد وسيلة للتغيير بل مجرد إجراء شكلي يعيد تدوير ذات الوجوه الأحزاب السياسية الكبرى فقدت بريقها بعد سنوات من التناحر والانقسام فيما انسحب التيار الصدري من العملية السياسية تاركاً فراغاً مؤثراً بينما يعاني الإطار التنسيقي من أزمة شرعية في الداخل والخارج أما المستقلون الذين علق عليهم الشارع بعض الآمال فقد ذاب الكثير منهم في قواعد اللعبة نفسها فلم يقدموا نموذجاً مختلفاً يزيد الثقة أو يعزز المشاركة الشباب الذين كانوا في طليعة حراك تشرين شعروا أنهم دفعوا الثمن مرتين مرة حين جوبهوا بالرصاص والإقصاء ومرة أخرى حين رأوا بعض رموزهم ينخرطون في الفساد بعد الوصول إلى المناصب هذا المشهد عزز لديهم القناعة بأن المشاركة لم تعد قادرة على صناعة التغيير وأن ما يطرح ليس سوى تكرار لخيبات الماضي في جانب آخر غاب الصوت الديني التحفيزي الذي كان يلعب دوراً مؤثراً في مراحل سابقة فلم تعد المرجعيات تتدخل كما كانت وهذا ترك فراغاً روحياً وسياسياً جعل جمهور الوسط والجنوب في حيرة أكبر فيما تسهم وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في تكريس فكرة أن الانتخابات مسرحية لإنتاج سلطة عاجزة وفاسدة وتُسوّق المقاطعة على أنها موقف وطني وأخلاقي في مواجهة منظومة لم تعد قابلة للإصلاح مع ذلك لابد من وجود حلول لإنقاذ الموقف .
وراء هذا كله تتحرك أطراف إقليمية ودولية تجد في عزوف العراقيين فرصة لإضعاف الشرعية الشعبية وتوظيف الفوضى المنظمة لإبقاء العراق ساحة نفوذ هشة يمكن التحكم بها من الخارج وهكذا يصبح الامتناع عن المشاركة سلاحاً ذا حدين إذ قد يعبر عن احتجاج حقيقي لكنه في الوقت ذاته يفتح الطريق لإعادة إنتاج الأزمة أو تسليم الساحة لمن ينتظر الفرصة للهيمنة
الانتخابات المقبلة تبدو بلا جمهور فيما المرشحون كثر والمال السياسي بدأ يتدفق لكن السؤال الأهم يبقى مطروحاً هل يمكن للعراقيين أن يكسروا هذه الحلقة المفرغة ويعيدوا الاعتبار للمشاركة كخيار واع للتغيير أم أن النظام الحالي قد استنفد كل رصيده ولم يعد قادراً على منح الناس أملاً بمستقبل العراق يقف اليوم عند مفترق طرق خطير فالمشاركة في الانتخابات باتت مرادفة في أذهان كثيرين لتدوير الأزمة وإعادة إنتاج الفشل بينما المقاطعة تحمل مخاطر أكبر لأنها تفرغ الساحة وتترك القرار بيد قوى أقل تمثيلاً للشارع وربما أكثر ارتهاناً للخارج
الحل لا يكمن في الانكفاء ولا في الاستسلام لليأس بل في إعادة بناء الثقة عبر إصلاح حقيقي يبدأ من داخل المنظومة السياسية نفسها ويتطلب إرادة جادة في مكافحة الفساد وتغيير آليات إدارة الدولة وفتح المجال لقيادات جديدة تعبّر عن تطلعات الناس لا عن مصالح أحزابها
إن المعركة ليست بين المشاركة والمقاطعة فقط بل بين اليأس والأمل بين الجمود والفعل وبين الفوضى وبناء الدولة وما لم يدرك السياسيون خطورة هذه المرحلة ويقدموا خطوات ملموسة للناس فإن العزوف لن يكون مجرد موقف انتخابي بل بداية انهيار الشرعية الشعبية للنظام كله
يبقى السؤال مفتوحاً أمام العراقيين هل يستسلمون لدائرة الإحباط ويتركون مستقبلهم بيد الآخرين أم يعيدون الاعتبار لصوتهم كأداة للتغيير حتى وإن كان الطريق شاقاً وطويلًا ..