الدولة الحديثة هي دولة المؤسسات التي استحدثت وفق التطور المجتمعي للشعوب الغربية والمطالبة بالحقوق الدستورية والقانونية بعد صراع مرير بين الشعب والكنيسة في أوربا وتحجيم دور رجال الدين وتقويض سلطاتهم, بعد ان لعب الوعي الاجتماعي والحاجة الانسانية , دور حاسم في انهاء هذا الصراع الديني المدني , اما الدول العربية ظهرت بشكلها بعد استعمار هذه الدول وانهاء الخلافة الاسلامية – العثمانية , وتقسيم مناطق النفوذ ضمن اتفاقية سايكس – بيكو, بين بريطانيا وفرنسا.
أن العلمانية ,هي دعوة لفصل الدين عن السياسة ,وحماية الدولة كمؤسسة مستقلة بحماية المواطن كقيمة إنسانية , سواء كان متدين أو غير متدين من الطغيان الديني والطائفي ,الذي يمارسه رجال الدين بالدفاع عن قيم وموروث تاريخي, مختلف عليه في ظل صراع الاجتهادات الفقهية والتقليد المستند للآراء الفقهاء المختلف بينهم.
بظهور كتلة علمانية جماهيرية شعبية تولد من رحم المعاناة وحاجة المجتمع في الحرية والمساواة والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية , والتي لا توجد في المجتمعات العربية أو الاسلامية ,وحتى لو وجدت ,فأنها حبر على ورق ,كما يقول المثل , بحكم التراث والتاريخ والواقع الذي نشأت عليه هذه المجتمعات ,وفي ظل فهم الدين على انه السلطة ,دون وجود دولة بالمعنى الصحيح ,وهي تعني المشاركة بين الشعوب لبناء مجتمعاتهم ,والقائمة على المؤسسات المدنية المستقلة عن الرأي الديني أو العقيدة الدينية أو المنهاج الديني أو الرغبة الدينية أو التفسير الديني أو الاجتهاد الديني – التاريخي ,وانما على قيم المشتركة الانسانية ,والحفاظ على مبدأ المساواة, والذي أوضح أول معانيه ومبادئه النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم : (يا أيها الناس: إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي و لا عجمي على عربي، و لا لأحمر على أسود و لا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فيبلغ الشاهد الغائب) . هذي هي المبادئ الصادقة في أطار انساني ,اينما كان الانسان المسلم ,والتي تتوافق مع اليات الحقوق والحريات والواجبات, وهي تتوافق مع معيار الدولة المدنية ,وهو منهاج فاصل بين الدين وبين الدولة ,وان انكار البعض من هذه الكلام عليه مراجعة قراءاته في الممارسات الحياتية وفهمه للدين والتدين والعلاقة بينهما. العلمانية, هي فكرة تكريس حماية المجتمع ,لجميع طوائفه الاسلامية وغير الاسلامية وحتى لا دينية – يجب حمايتها (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)- الكهف 29 .
الدولة بمؤسساتها المتعددة والمتنوعة عليها واجب حماية المجتمع, دون الايمان بالدين أو العرق أو المذهب او اللون أو الاصل ,وانما الاصل الانسان (المواطن ) مكرم ,اذا الايمان بالمساوة والايمان بالعدالة الاجتماعية والايمان بتكافؤ الفرص والايمان بالحريات ,ورفض الوصايا والمقدسات التي يضعها الفقهاء المختلف بينهم ,وهي كتلة لثقافة ولبناء مجتمع ومفهوم تفسيري ,يصلح للمطالبة بالمصالح الوطنية ,يعطى المواطن الأمن ,والامل والحرية ,لتحقيق العدالة ولا فرق بين (رجل دين ) سلطة .. ورجل عادي (انسان ) في الحقوق والواجبات ,واعادة الخطاب الوطني بإعادة الايمان بالدور الانساني والمفهوم القانوني ومركزه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الدولة المدنية وحقوقه وحرياته الدستورية .
الدعوة العلمانية ,هي الاساس في الوعي الجماهيري الذي عاش تجارب الصراعات المريرة ,بين سلب ومصادرة الحقوق, والأثراء على حساب العامة من رجال الدين(كالأحزاب الاسلامية ) بصيغ شتى ,مرة يكون رجل دين خطيب يسلب العقل بالعاطفة ,ومرة يكون رجل سياسة يحرض الجماهير على المشاركة في فعالية أو دور لخدمة مصالحه أو مصالح حزبه وفق فرض السلطة على الناس .
لماذا الان ,قد يسأل سائل لماذا الان تنطلق شرارة التمرد على رجال الدين, الذين يأخذون من الدين منهاج سياسي وايدلوجي (الاسلام السياسي) والذين مثلوا أسوء تجربة مفهوم معاصر ,والجواب لعدم علاقة رجال الدين ببناء الدولة ,وهم لا يعترفون بالدولة ولا يعترفون بالوطن كمصطلح قانوني ,وكمفهوم في أديباتهم وانما الدين رسالة سماوية والدين علاقة بين الانسان ورب العالمين (الله) ,ولا تحتاج الى حزب أو داعية لتعريفه بالمفاهيم الدينية او قبول التوبة أو الاعتراف الديني كما في الدين المسيحي ,اذا الاسلام السياسي ,وجد لمرحلة تاريخية وفشل كواقع حياتي ,ولا يستطيع الاستمرار بتمثيل المجتمعات أو النهوض بالدور الانساني والوطني.
اما الخطاب الديني ,يجب أن يكون في مكان واحد ولا يخرج عن هذا المكان وهو (الجامع) ولا يتم استغلال الخطاب الديني لتحريض او تنكيل او تسويق مفهوم الرؤية للدولة الدينة ,وهي مسألة اجتهاد ديني, يجب أن تنحصر في الوعظ والارشاد ولا تتبنى العقائد الدينية ,في تكفير الاخرين او التحريض على الانتقام أو تبني سياسة ومصادرة حقوق العامة ,والتي هي حصرية بيد الشعب ,وهي تنبع من تقوية المركز الديني على حساب المواطن وحريته, وهي تتعدى مفهوم المساس بالدولة المدنية ,ومؤسساتها ,وتخلط المفاهيم الدينية مع مفاهيم الدولة القائمة على الفصل بين السلطات و التي تتوافق مع القانون والدستور ,وهذا يمثل رغبة المجتمع المجمع عليه.
الحماية لمن … يجب ان تشمل الحماية كل فئات الشعب المسلم وغير المسلم المؤمنين وغير المؤمنين ,الملحد والكافر ,أن التزام الاخلاقي والوطني والانساني, يجب ان يكون التزام عام قبل أن يكون التزام دستوري وقانوني ,باعتبار الحماية يجب ان يتمتع بها كل مواطن وفق الحقوق والواجبات الذي كفلها الدستور, والشريعة .
كيف تظهر هذه الكتلة العلمانية ,وهي تستجيب لمتطلبات الحالة الوطنية والظرف الآني ,والقاسم المشترك في رؤية اجتماعية للبديل النوعي (للإسلام السياسي ),وهي ليست كتلة تقاس بكميتها ,ولكن بنوعيتها المؤثرة وتبنيها لمشروع الخلاص والخطوط العريضة لحاجات المجتمع بالمبادئ والبرنامج الذي تتبناهٌ…