23 ديسمبر، 2024 5:12 ص

ام هادي عراقية من الصبر الى القبر

ام هادي عراقية من الصبر الى القبر

هي عراقية لا تشبه كل نساء الارض.. مختلفة جداً عن كل النساء لانها عراقية.. ولانها تعيش في هذا الزمان..
ام هادي امرأة طاعنة في السن. تعمل بالأجور اليومية منذ ثلاثون سنة او اكثر في مكان عملي، كنت في كل صباح التقيها في احدى ممرات الادارة وهي منحنية الظهر لتنظف أرضيات غرف الموظفين وتلبي طلباتهم.. ام هادي چاي.. ام هادي تعالي شيلي سلة الزبل.. ام هادي تعالي امسحي المكتب..! وام هادي تستقبل كل هذه الطلبات وغيرها بوجهها الباسم الذي تركت على تفاصيله اثار الكِبر كل انواع التجاعيد والإرهاق ، لم ولن تتذمر ابدا من كل ذلك التعب.. كنت احبها كثيراً لاني ارى فيها اثار عطر ذلك الزمن الذي تجتمع فيه رائحة الجنوب ودعاء امي الذي افتقده منذ عشرات السنين،
صباح الخير حجية.. هله يمه هله بيك صباح العافية عليك وعلى وليداتك.. امد يدي الى جيبي وأعطيها الف دينار.. لا يمه خليهن بعد أمك واهلها.. حجية هذني استفتاح ،
الله يرزقك يا يمه ويبعد عنك ولد الحرام ويحفظك بسور جدك محمد ص..
ام هادي كانت تعلم انني صحفي يلتقي بكل مسؤولي العراق وقادة العملية السياسية والمتنفذين في الوزارة التي انتسب اليها ، وكانت تتابع اخبار العراق السياسية من خلالي.. وهي تأتني باستكان الچاي الصباحي ترفعه من ” الصينية” بيدين مرتجفتين و مجعدة عليها اثر لخراب قديم وتعب عمره تجاوز الستون عاما..
سيد شنو الاخبار اليوم..؟ حجية ماكو شي وان شاء الله يتحسن الوضع وتتغير الأمور .. فترفع رأسها للسماء وكأنها تخاطب الله سبحانه دون اَي وسيلة، الله يسمع منك يا يمه.. !

ام هادي تسألني كثيراً اثناء الدوام عن امل تثبيتها على الملاك الدائم في الوزارة..! فقد تجاوز عمرها الحد القانوني للحركة وهي تحلم بذلك الأمل. وتحلم أيضا بالزيادة في أجرها اليومي ، لا تريد كثيراً فكانت أحلامها بسيطة جداً اذا لا تتجاوز الف او ألفين دينار عراقي.. يوميتها 5 الاف دينار عراقي اَي ما يعادل 4 دولارات وغير مسموح لها بالدوام في ايّام العطل والجمع اَي في احسن حالاته يكون أجرها الاسبوعي عشرون دولارا لا غيرها..
كانت تسأل لو ان أجرها يزداد ألفا كي تتمكن من شراء علاجها، لكنها ماتت ولم يتحقق حلمها ذاك ، فهو موجود على أهداب كل عراقي فقير احرق عمره في سبيل هذا الوطن ،كسجارة كانت تستنشقها ام هادي المغدورة بموتها من قبل احزاب السلطة وقادة العراق..
رحلت ام هادي ولَم ينعها حتى زميلاتها المنهكات في العمل. الطاعنات بالسن وكأنهن يقولن كلنا على هذا الطريق يا بني..!
ام هادي الفقيرة ماتت ولَم يبكها سوى قلمي الذي حاول مسرعا لملمة دموعه لينزلها على شكل مفردات علها تفي بتلك الذاكرة المملؤة حسرة لفقدها وحنينها الذي لم اعد أراه في اروقة عملي..
رحمكِ الله يا ام هادي.. وانت ترتحلين نعشاً لا اعرف هل حُمل على اكتاف حنينة، ام انها كانت تعدو مسرعة لتواريك في وادي الغري..! وادي السلام الذي بات مكتضاً بموتانا حتى صار الزحام على الموت حالة طبيعية لا نهتم بها كثيراً ..! لا اعرف هل سينقش على قبرك بقطع المرمر اسمكِ، ام ان حامليكِ سيكتفون بالطابوق المفخور بأشد انواع النيران فيضعونه كدلالة لكِ كونه زهيد الثمن ..؟ انا اعلم ان لا شأن لك بكل هذا وذاك لانك راحلة الى مثوى قد يكون اكر أمانا لك من كبت هذه الدنيا التي ضيقت خناقها على أيامكِ كعباءتك التي كنت تشدينها على خصرك حين تأتزرين للعمل الذي لم يعطيك ثمن مهدء لاوجاعك في اخر الليل..
وداعا يا ام هادي وانت تحملين معك كل براءة الانسانية والهدوء.. حتى موتك كان هادئً جداً لدرجة اننا لم نشعر به عن اخذكِ منا..!
رحمكِ الله يا ام هادي