23 ديسمبر، 2024 2:24 م

امريكا: هزيمة، وانسحاب مذل، واستراتيجية جديدة

امريكا: هزيمة، وانسحاب مذل، واستراتيجية جديدة

ان هزيمة الولايات المتحدة الامريكية في افغانستان، وانسحابها الفوضوي الذي مس هيبتها مسا كبيرا، واذلها كثيرا، وهز ثقة شركاؤها وحلفائها بها، هزا عميقا. كما ان هذه الهزيمة؛ جعلت المسؤولون الامريكيون، يكشفون عن الاستراتيجية الامريكية الجديدة، التي ظلت مخفية وغاطسة تحت سطح الاحداث العالمية لأكثر من عقد من الآن. بايدن، الرئيس الامريكي قال؛ ان الولايات المتحدة سوف لن يكون لها قوات برية اي تدخل بري في اي مكان من العالم بعد اليوم، لكنها سوف تكون حاضرة في كل بقعة من العالم يسود فيها التوتر والصراع، بطريقة اخرى.. اي ان الولايات المتحدة سوف لن تعمل بعد اليوم على (بناء الدول والشعوب؟!..).

وزير الخارجية والدفاع الامريكيان، قالا؛ ان الولايات المتحدة سيكون لها حضورا في الافق البعيد من دون ان يكون لها وجودا عسكريا بريا. ان قراءة متأنية لهذه التصريحات، تقود الى ان امريكا قد تخلت عن دور الشرطي الدولي في الكرة الارضية، كما انها قد اعترفت ان العالم لا يمكن ان يقاد بقطب واحد مهما حاز من مقومات القوة والقدرة، اي انها قد اقرت بان العالم، قد تغير وما عليها الا الاعتراف بهذا التغير، اي بعالم متعدد الاقطاب. من جانب، اما من الجانب الثاني؛ فان هذا التغيير لم يكن وليد هزيمة امريكا في افغانستان بالكامل، بل ان هذه الهزيمة قد عجلت بهذا التغير الاستراتيجي الذي بدأ خجولا غير معلن عنه، منذ الولاية الاولى لأوباما؛ اي البداية لاستراتيجية امريكية جديدة، فرضها عليها؛ الاخفاق الكارثي في حروبها في افغانستان والعراق، وتدخلاتها الاخرى في دول المنطقة العربية وجوارها، وفي العالم؛ وصعود الثنائي الصيني والروسي، وبالذات الصعود الصيني لجهة القلق الاستراتيجي الذي يسببه هذا الصعود لها، مستقبلا. ان هذا لا يعني ان امريكا، وباي شكل كان؛ سوف تتخلى عن مشاريعها في المنطقة العربية وما يجاورها، وفي بقية البقاع في كوكب الارض، بل ان العكس هو الصحيح، بل هو الاخطر، لأن هذه المشاريع؛ سوف لن تكون ظاهرة في المشهد السياسي وتحولاته التي تستند على قواعد تفضي الى تحقيق الاهداف الامريكية، بحسب هذه الاستراتيجية؛ عبر وكلاء الانابة؛ لكنها اي هذه الاستراتيجية، في ذات الوقت، وهذا هو الاهم والاخطر على مشاريعها؛ سوف توسع من مساحة حركة القوى التقدمية، والوطنية،

والتحررية، من حيث لا تريد امريكا ان يكون لها، هذه المساحة من الحركة، لأصل النية الامريكية؛ عند نقاط الارتكاز على خط الشروع؛ لكن الواقع الدولي، بقواه الدولية المتنافسة؛ هو من يوسع مساحة هذه الحركة، على الرغم من الإرادة الامريكية. ومن الطبيعي ان لهذه القوى الدولية المتنافسة، مصالحها التي تقتضي منها، ان تفتح دوربا واسعة لهذا النضال. ان هذه الهزيمة؛ سوف يكون لها تأثيرا قويا في دول اسيا الوسطى، والاتحاد الروسي، كما ان لها تأثيرا بذات القوة على سياسة الولايات المتحدة في اسيا الوسطى وفي منطقتنا العربية وجوارها، وفي صراعها مع الصين، في بحر الصين الجنوبي والشرقي، وفي مناطق اخرى من اسيا. ان هذه المناطق، وتحديدا دول اسيا الوسطى، بما فيها من نفط وغاز؛ وجغرافية ذات اهمية استراتيجية، لبناء خطوط نقل الغاز والنفط، والتي هي الاقصر، الى اوروبا؛ لذا سوف تكون ميدان، اضافة الى المناطق سالفة الذكر في اعلاه؛ لصراع القوى العالمية الكبرى، بين الثنائي الروسي والصيني، اضافة الى ايران، وامريكا وحلفائها. انما، من الجانب الثاني، وهو الاهم لجهة الوضع الذي اجبرت امريكا عليه، بمعنى لم يكن من اختيارها؛ لكنها حين تأكد لديها او لدى مراكز البحوث والدراسات سواء في البيت الابيض او في الخارجية والدفاع، وكل ما له علاقة عضويه بهما؛ انها اي امريكا ليس في مقدورها الاستمرار في احتلال افغانستان، وان عملية الاحتلال برمتها قد فشلت تماما، ولامجال للانتصار فيها، اي اعادة بناء افغانستان وفق المشيئة الامريكية، وان ما تخسره استراتيجيا اكثر كثيرا من ارباحها الاستراتيجية، وهي اي تلك الارباح لم يكن لها وجود في الواقع الراهن، وايضا اذا ما استمرت في احتلال افغانستان، ليس في افغانستان فقط، بل في المنطقة العربية وجوارها؛ سوف تخسر كثيرا، في صراعها التنافسي مع الثنائي الروسي والصيني.

ان العملية بأكملها مصدر للاستنزاف في الموارد والدماء، طبقا لذلك؛ كان قرار الانسحاب، والذي هو؛ كان قد تم اتخاذه منذ فترة طويلة، ولم يكن يتعلق بترامب او بادين، او اي كان غيرهما، بل انه يتعلق بالاستراتيجية الامريكية الجديدة، كما اسلفنا القول في اعلاه. أما ارتفاع الاصوات الامريكية، سواء من مجلس الشيوخ او من مجلس النواب، لم يكن على الانسحاب بحد ذاته، انما على الفوضى والاضطراب في عملية الجلاء المذلة، التي مست مسا عميقا هيبة امريكا. مما يعني؛ ان هناك خطة بديلة، عن الوجود العسكري المباشر في افغانستان، او في غيرها، في الكثير من الدول التي تخوض الولايات المتحدة، الى الآن فيها؛ معارك الهيمنة والنفوذ، العراق وسوريا مثلا؛ تم الاعداد لها قبل حين من الآن، بفترة طويلة، من عملية الانسحاب؛ وهي، اي هذه الخطة البديلة التي تقع ضمن الاستراتيجية الامريكية الجديدة؛ ذات منشأ واستخدام مزدوجان.. تأجيج الحرب الاهلية، التي تقود بالضرورة الحاكمة الى زرع الفوضى والاضطرابات، ليس في افغانستان فقط، بل ايضا في الجوار الافغاني، في دول اسيا الوسطى؛ بوكلاء من داخل التركيبة الاثنية والعرقية والطائفية في افغانستان، أو في الدول المستهدفة.

عموما ان امريكا قد تراجعت عن حروبها، وهي مجبرة على هذا التراجع، وطوت مرحلة حروبها واجرامها بحق الشعوب والدول على حد سواء؛ ووضعتها في خزائن تاريخها الكريه بكل ماتعني هذه او ما تحمل هذه الكلمة من معاني الاجرام والقسوة والظلم؛ لتبدأ مرحلة جديدة في مسلسل جرائمها، لكن المهم الآن؛ في ظل المتغير والمتحول الدوليان، وهما، وبكل تأكيد لصالح كفاح ونضال الشعوب والامم من اجل وجودها الحر، وجودا حرا وواقعيا. ان هذا التغيير يقود لامحالة: بأن يكون للشعوب، وكذلك للدول التي تناضل من اجل ان يكون لها اختيارها المستقل بلا ضغط واكراه، تحت ضغط قلة الاختيارات في عالم القطب الواحد، الذي كان سائدا لقرابة ثلاثة عقود حتى هزيمة الولايات المتحدة في افغانستان، التي كانت بمثابة البيان بانتصار الحرية على الظلم الامريكي، والتي كانت وبكل التوصيفات، هزيمة استراتيجية؛ كسرت الى الابد، الهيمنة الامريكية على العالم. وهنا لانقصد على وجه الحصر والتحديد، حركة طلبان، بل نقصد حصريا الشعب الافغاني الذي حول وطنه عبر تاريخه الى مقبرة للإمبراطوريات. حركة طلبان استثمرت زخم التاريخ بفعل مفاعيله في لحظة الغزو والاحتلال في محاربة هذا الاحتلال لعقدين. نعتقد ان الصراع الدولي، سوف يكون بالوكلاء، في منطقتنا العربية وجوارها، وكذلك في اسيا الوسطى وفي غيرهما من مناطق الكرة الارضية، باستثناء بحر الصين الجنوبي والشرقي، وجنوب شرق اسيا، وفي المحيط القريب منهما، ان هذا لا يعني في المناطق الاخيرة من الصراع الامريكي الصيني؛ ان لا وجود لهؤلاء الوكلاء، انهم موجودين في هذا الصراع، لكن هذا الوجود، وجودا مضببا، في قلب الميدان، وفي ظلاله. ان دق عنق الجبروت الامريكي، وكسر رقبته؛ سوف يفسح المجال واسعا، للقوى التقدمية والوطنية والتحررية، في المنطقة العربية، وفي جوارها، في كفاحها من اجل حريتها واستقلالها الحقيقي، وليس الصوري، حيث الهيمنة الامريكية على قرارها، في فلسطين، وفي العراق وفي غيرهما من الدول العربية التي لم تزل تعاني من السياسة الامريكية،

وهنا لانقصد الدول والممالك العربية في الخليج العربي، وفي غير الخليج العربي، من انظمة هذه الدول التي باعت نفسها ووطنها للراعي الامريكي. نقصد القوى الوطنية في هذه الدول والممالك وفلسطين باستثناء المقاومون، التي تحكمها، انظمة رجعية ومتخلفة، او انظمة تابعة للراعي الامريكي والاسرائيلي. في النهاية نقول ان العالم قد تغير، في ظل تكنولوجيا المعلومات.. ولم تعد فيه؛ قوة النار والتدمير الهائلان للدبابة والطائرة والمدفع، والصاروخ المجنح والموجه، بسرعة 9ماخ او 7ماخ في حروب معارك الحرية للشعب والوطن معا؛ هي من تقرر وترسم لوحة نتائج هذه الحروب، بل إرادة الشعوب بقواها الوطنية والتحررية، اضافة الى قوى الخير في العالم، وبما يتيسر لها من اسلحة المقاومة، حيث يتم بها تحيد الدمار الهائل للأسلحة سابقة الذكر، بإخراجها من الميدان، لأنه، ليس ميدانها، وعلى الرأس منها، من هذه القوى الوطنية والتحررية والمقاومة، بل في مقدمتها شعب فلسطين.