19 ديسمبر، 2024 1:02 ص

امريكا تقرر ضرب سوريا لانقاذ ماء الوجه الأمريكي

امريكا تقرر ضرب سوريا لانقاذ ماء الوجه الأمريكي

فى 4/11 (2018) تعرضت مدينة دوما في سوريا لقصف بغاز السارين السام ما أسفر عن وقوع عدد كبير من الضحايا فى واحدة من أبشع المجازر التى مورست ضد السوريين منذ اندلاع الصراع بين النظام والمعارضة قبل سبعة سنوات. المجزرة فتحت باب الجدل الدولى مرة أخرى بشأن الأطراف المسئولة عن استخدام الأسلحة الكيماوية من بين طرفى الصراع السورى؛ فهناك وجهة النظر الروسية- الإيرانية- السورية التى ترى أن فصائل المعارضة بإدوما تمتلك مستودعا للسلاح الكيماوى وأنها المسئولة عن استخدامه، وأن اتهام دمشق بالمسئولية عن هذا القصف مسألة سابقة لأوانها قبل إجراء تحقيق دولى فى هذا الشأن. بينما تشير وجهة النظر المقابلة، والتى تتزعمها الولايات المتحدة وعدد كبير من القوى الدولية والإقليمية، إلى مسئولية النظام السوري عن المجزرة وتورطه فيها مستندة إلى مجزرة مماثلة مورست ضد سكان الغوطة الشرقية فى أغسطس 2013. وفى الحالتين كان الموقف الأمريكى من تلك المجازر حاضرا وإن اختلفت ماهيته نظرا لاختلاف سياسات الإدارة الأمريكية من الصراع السورى بين الرئيس السابق بارك أوباما والرئيس الحالى دونالد ترامب. فقد استغل أوباما آنذاك مجزرة الغوطة الشرقية فى رعاية اتفاق أممى أُسس بناء على مبادرة روسية تقضى بوضع ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية تحت الرقابة الدولية. وفى 29 سبتمبر 2013 صدر قرار مجلس الأمن رقم 2118، الذى وضع إطار عمل “للتدمير العاجل لبرنامج الأسلحة الكيماوية السورى بطريقة أكثر أمانا”. وبمقتضى ذلك تراجعت إدارة الرئيس الأمريكى السابق عن ما أسمته بالخطوط الحمراء التى لا يُسمح لنظام الأسد بتجاوزها فى إشارة إلى استخدامه للأسحلة الكيماوية، ومثل النكوص الأمريكى عن توجيه ضربة عسكرية للنظام وقتها نوعا من الاعتراف بشرعيته فى مواجهة المعارضة.

الأمر اختلف كليًّا بالنسبة لترامب الذي أولى الأزمة السورية قدرًا من التفاعل عبر الانخراط العسكري الفعلي في سوريا من باب محاربة الإرهاب؛ فبعد أيام قليلة من تصريحات من ترامب بانسحابه من سورية ، جاءت مجزرة دوما ليعيد النظام السوري فيها المشهد نفسه متجاوزًا كافة الخطوط الحمراء، وواضعًا ترامب في اختبار شديد الصعوبة لسياسته الخارجية في منطقة المشرق العربي، ما دفع الأخير إلى الإدلاء بتصريحات تشير إلى أن موقفه من نظام بشار الأسد قد تغير، وأنه بصدد التشاور مع الكونجرس والبنتاجون لاتخاذ خطوات قاسية ضده. وبالفعل وبعد ساعات من تلك التصريحات شنت الولايات المتحدة في السابع من

قامت القوات الأمريكية -البريطانية -فرنسيه ، فجر يوم 14 /4 الجاري، بتوجيه 100ضربة صاروخية من طراز “توماهوك” من مدمرتين تابعتين للبحرية الأمريكية في البحر المتوسط، استهدفت مواقع عسكرية. وجاء ذلك على خلفية التلويح الأمريكي في 7 /4 الجاري بدراسة خيارات عسكرية في سوريا للرد على استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي مؤخراً في دوما .

الهجوم الذي تم باستخدام صواريخ توماهوك وأدى إلى إلحاق خسائر محدوده بالمواقع العسكريه يحمل العديد من الدلالات، ويعد مؤشرًا مهمًا على تغيرات مستقبلية في سياسة واشنطن تجاه الأزمة السورية.”قد” لا تقف هذه التغيرات عند حد محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وإنما تتعدى ذلك إلى دور أكثر انخراطًا في الصراع السوري عبر إعادة تقييم واشنطن لحساباتها السياسية والأمنية في سوريا، وهو ما قد يدفع علاقاتها بغيرها من القوى الداعمة لنظام بشار الأسد وتحديدًا روسيا وإيران إلى مزيد من الصدام.

من اهم الدوافع وأهداف الضربة العسكرية الأمريكية لمواقع السورية أثارت عدة تساؤلات بشأن الأسباب التي أدت إلى تغيير موقف الرئيس الأمريكي من النظام السوري، وهل كانت واشنطن في انتظار هذه الخطوة غير المحسوبة من جانب النظام السوري ليحدث هذا التغير النوعي في موقفها تجاهه، أم أن هناك “أسبابًا كامنة” تقف وراء ذلك؟ وما هي الأهداف المنتظرة من تلك النقلة النوعية الأمريكية، وهل ستكون الضربة مقدمة لغيرها من الضربات أم ستقف عند حد اعتبارها مجرد ضربة عقابية لا أكثر؟ في هذا السياق يرى المحللون أن ثمة جملة من الدوافع والمنطلقات مثلت مدخلات مهمة للإدارة الأمريكية أدت إلى حسم أمرها بتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري يمكن تلخيصها في التالية:رغبة ترامب في توجيه رسائل لإيران التي اعتبرها الراعي الرئيسي لنظام في سوريا، ووضع حلفائها العاملة في سوريا على قدم المساواة. هذا بخلاف عدم استساغته شخصيًّا، ومجموعة مستشاريه السياسيين والعسكريين، للاتفاق النووي الإيراني باعتباره منح إيران نفوذًا متناميًّا في المنطقة على مدار ثلاثة اعوام . ومن ثم، فإن ضربة سريعة وخاطفة ونوعية ضد حليفها نظام الأسد قد تمثل خطوة البداية في طريق الانخراط العسكري الأمريكي الشامل في الأراضي السورية بما يعنيه ذلك من تقليص النفوذ الإيراني الذي تمدد بشراسة داخل سوريا على مدى يتعلق بدلالة “محدودية ” الضربة؛ فالضربة سريعة وخاطفة ونوعية ومحدودة النطاق بالنظر إلى طبيعة الهدف الذي تم تحديده وأثره في القدرات العسكرية للنظام السوري. محدودية الضربة تعكس أمرين: الأول، أنها لا تعبر – حتى الوقت الراهن – عن تدخل عسكري أمريكي شامل وواسع في الصراع السوري؛ فلم تستخدم واشنطن طائراتها العسكرية الموجودة في قاعدة إنجرليك التركية في استهداف المواقع السورية، وإنما استهدفته بصواريخ من مدمراتها الحربية في البحر المتوسط. والثاني، أنها لن تكون رادعة للنظام السوري على المدى المنظور لأنها لم تستهدف إصابة كافة الآليات والقدرات السوري التي كانت متمركزة في المواقع المستهدفة – البعض يعزي ذلك إلى أن واشنطن أخبرت موسكو بالضربة مسبقًا – بشكل قد لا يشل من قدرة النظام السوري على استخدام المواقع في شن هجمات على المعارضة. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن الاستهداف الأمريكي للقدرات العسكرية للنظام سيمثل عاملًا لكبح النظام تجاه استخدام أي سلاح كيماوي مرة أخرى، خاصة بعد أن أساء تقدير رد الفعل الأمريكي المحتمل على استخدامه.

شير إلى رغبة واشنطن في توصيل رسالة لموسكو مفادها أنها لم تعد تحتكر وحدها ساحة التأثير في الصراع السوري، وأنها بصدد تغيير فعلي في استراتيجيتها تجاه ذلك الصراع. كما تدعو موسكو إلى إعادة النظر في دعمها الكامل لنظام الأسد خلال المرحلة القادمة، خاصة بعد فشلها في تسويقه لدى واشنطن باعتباره شريكًا لا غنى عنه في محاربة الإرهاب، وأن واشنطن قد تطور من انخراطها العسكري إذا ما حاول النظام الإقدام على خطوة مماثلة، عبر عدة بدائل تتراوح ما بين فرض حظر جوي على النظام السوري بما يشل من حركة سلاحه الجوي، أو إقامة مناطق آمنة، أو توفير مظلة عسكرية جوية للمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وحررتها المعارضة. وجدير بالذكر هنا أن هذه البدائل قد تم طرحها في المناقشات التي أجراها ترامب مع الكونجرس والبنتاجون قبل الاتفاق على خيار توجيه ضربة عسكرية محدودة ونوعية.
ثامنها، يشير إلى ردود الفعل الروسية الغاضبة على الرغم من الأنباء التي تفيد بإبلاغ واشنطن لموسكو بالضربة العسكرية وحرصها على عدم وقوع خسائر بشرية بين القوات الروسية العاملة في سوريةوقد أخذت ردود الفعل تلك منحى متصاعدًا خلال الأيام الماضية؛ بدأ بتصريحات تدين الضربة الأمريكية وتعتبرها عدوانًا إرهابيًّا على سيادة الدولة السورية، وتعتبرها كذلك ضارة بالعلاقات الروسية- الأمريكية واستراتيجيات محاربة الإرهاب دوليًّا، ومقوضة لمسار المفاوضات السياسية الخاصة بالأزمة، مرورًا بتعليق التفاهم الموقع بين البلدين في عام 2015 حول السلامة الجوية الهادف إلى منع وقوع حوادث بين طائرات البلدين في الأجواء السورية، وصولًا إلى أجرأ الخطوات ردًا على الضربة الأمريكية والتي تمثلت في تعهد روسيا بتعزيز نظام الدفاعات الجوية السورية وزيادة التواجد الروسي في قاعدة طرطوس البحرية. ويعني ذلك أن روسيا قد لا تسمح بتكرار مثل هذه الضربات مرة أخرى لأنها ببساطة ستؤدي إلى تغير معادلة الصراع السوري بما قد يعدل في موازين القوى العسكرية القائمة حاليًّا بين النظام والمعارضة، وهو ما تتحسب له الإدارة الأمريكية التي تدرك حجم التواجد العسكري الروسي من حيث عدد الجنود والمعدات والقواعد البرية والبحرية، ناهيك عن أنظمة الدفاع الجوية الروسية القادرة على استهداف الطائرات الأمريكية.

و يمكن القول إن الضربة العسكرية الأمريكية علىالسوري بما حملت من دوافع ودلالات تعتبر ضربة عقابية تأديبية أكثر من كونها بداية لانخراط عسكري أمريكي واسع النطاق في سوريا على الأقل في المدى المنظور، وأنها لن تدفع النظام السوري إلى تغيير حساباته في معادلة الصراع مع المعارضة طالما ظل الدعم الروسي للنظام قائمًا ومتجددًا، ولكنها في الوقت نفسه ستمثل كابحًا له في سياق سياسات القتل الممنهجة باستخدام السلاح الكيماوي، فتصاعد الحضور الأمريكي سياسيًّا وعسكريًّا في الصراع السوري من شأنه فرض قيود على سياسات النظام وحلفائه بما يقلص من نفوذ المحور الروسي- الإيراني- السوري ويبعث برسالة مفادها أن الولايات المتحدة ممسكة ببعض الخيوط المهمة في ساحة الصراع السوري التي بإمكانها تغيير قواعد الصراع ومسلماته التي سادت منذ التدخل الروسي العسكري قبل عامين وهو ما تدركه موسكو جيدًا. ومن ثم، ممن المحتمل أن يتم ترجمة الرسائل السياسية التي استهدفتها الولايات المتحدة من ضربتها العسكرية ضد النظام السوري عبر تسريع الجهود الدولية لدفع مسار المفاوضات السياسية خلال المر ة القادمة
:

لم تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية سلاحها الجوي، بمعنى أن التقييم العسكرى للعملية يصنفها على أنها “عملية الهدف الواحد والمحدود” ولا تمثل انخراطًا عسكريًا أمريكيًا كاملا فى الصراع السوري، لكنها رغم ذلك ربما تؤدي إلى تغيير التوازنات العسكرية والسياسية. ويبدو أن واشنطن تسعى من خلالها إلى توجيه رسائل عديدة إلى الأطراف المعنية بتطورات الصراع.

وربما يكون أول الأطراف المعنيين هم حلفاء النظام السوري، حيث سعت الولايات المتحدة إلى تأكيد أنها تتجه نحو تغيير استراتيجيتها إزاء الصراع السوري. وفى حين تنتقد روسيا التسرع في اتخاذ القرار الأمريكى، فإن واشنطن ترى أن روسيا تعرقل أية مساعي لاتخاذ قرار دولي ضد النظام السوري من خلال استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن، وهو ما يتضح من تصريحات المسئولين الأمريكيين الذين تحدثوا عن أن “هناك هجومًا من جانب النظام واستحق ردًا مناسبًا”، ودعوا روسيا إلى “إعادة التفكير في دعمها المستمر للأسد”.

. كما يبدو أن التدخل العسكري الأمريكي لم يدخل ضمن حساباتها، بشكل ربما سيدفعها إلى إعادة النظر في سياستها إزاء التطورات السياسية والأمنية التي يشهدها الصراع السوري مرة أخرى.

فضلا عن ذلك، فإن الضربة العسكرية تكشف عن أن الولايات المتحدة ربما تعتمد مقاربة جديدة حيال الأسد، فبعد أن كانت واشنطن ترى أنه “يوجد واقع سياسي علينا القبول به” في إشارة إلى الأخير، فإن تصريحات المسئولين الأمريكيين التي أدلوا بها مؤخرًا تشير إلى أن النظام لن يكون جزءًا من المستقبل السياسي لسوريا، حيث وصف ترامب رئيس النظام السوري بأنه “ديكتاتور استخدم أسلحة كيماوية مروعة ضد مدنيين أبرياء”، وإن كان من المتوقع أن تبذل أطراف أخرى جهودًا حثيثة من أجل الوصول إلى تسوية سياسية، لأن أى عمل عسكرى واسع من جانب النظام وحلفائه سيواجه برد فعل قوي.

أما بالنسبة للقوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، فمن المتصور أن تتجه تركيا تدريجيًا إلى رفع مستوى التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة على حساب التفاهمات التي توصلت إليها مع روسيا، وهو ما يبدو جليًا في عودتها من جديد إلى طرح الصيغة القديمة التى كانت تجاوزتها في المفاوضات التي جرت في الآستانة، وهى التأكيد على أن لا مستقبل للنظام في الحكم وعلى ضرورة إقامة منطقة حظر جوي، وهو احتمال يمكن أن يلقى تجاوبًا في الفترة القادمة، لا سيما في حالة ما إذا نفذت موسكو تهديداتها فعليًا واستمرت فى قطع الاتصالات العسكرية التنسيقية مع واشنطن.

وفى المحصلة النهائية، ربما يمكن القول إن الانخراط العسكرى الأمريكى فى سوريا لا يبدو محسومًا حتى الآن، لكن من المرجح أن توجه تلك الضربة تحذيرات مباشرة للنظام وحلفائه، خاصة روسيا التى كانت أكثر طرف معني بالضربة إلى جانب إيران وحزب الله، بأنه يمكن تكرارها مرة أخرى فى حالات مماثلة. ومع ذلك، يظل هناك احتمال بأن يتم استيعاب الرسائل السياسية للضربة، من خلال تسريع وتيرة الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية سياسية في سوريا