تحتمل مجموعة (امرأة من رمل) التسليم بان الإيهام هو نشاط منتج للشعر، وان ما تقدمه الشاعرة بلقيس خالد في نصوصها ما يلبث أن يشغلنا بالإيهامي ويحتفظ بالفعلي في حوزته، لذا فان المعنى والدلالة لا نجدهما في الشعر نفسه بل بسواه ايضاً ، وبذا فأن الشاعرة قادرة على تضليلنا. إلى ما ترمي الوصول اليه ذلك الذي يقع في مكان آخر. متسربا من معناه ودلالته الفعلية إلى الإيهامية ، علينا إذن ان ننظر للحدث الشعري وهو يرفل بكامل أناقته المجازية، عبر نصوص بلقيس خالد التي لا يسير الشعر فيها سيراً معتاداً، وهو أمر يحسب للشاعرة التي بمقدورها ان تخبئ الشعر في الجزء غير الماثل في الشعر ذاته.
ان الشاعرة في نص (انتظار) مثلا تحاول إيهامنا ببناء خيمة عبر بنيتين متغايرتين تتكونان من بنية حاضرة وأخرى غائبة، غير ان البنية الحاضرة لا تدلنا على اي اثر مادي لبناء خيمة، لذا فمن الواضح أنها تمثل أمنية فحسب، ولكن هذه البنية وان بدت أنها تحيلنا إلى ( اللاشيء). فأنها في ذات الوقت تنقلنا من الحالة الإيهامية (انصب الرجاء خيمة) الى حالة فعلية مفتوحة النهاية (وأنا انتظر طرق الباب) وبذلك تتحول الجملة الشعرية من وضعية الإيهام المقترنة بالأمنيات إلى وضعية الحضور المتمثل بالتمظهرات المرئية للخيمة، ان هذه التمظهرات الناجمة عن انتظار (طارق) ما . من شأنها ضمان الوقت اللازم لبقاء خيمة الأوهام:
انصب
الرجاء
خيمة
وأنا انتظر
طرق الباب.
وإذا كان الأمر كذلك، فان النص لا يفترض وجودا فعليا لعملية بناء خيمة، لكنه يبتدع وجودا فعليا لها بإحالتها إلى (الطارق) الذي سيأتي يوما، وما علينا سوى الانتظار، بل ان لعبة الانتظار توهمنا هي الأخرى بوجود خيمة، وتمنعنا من الاعتراض على عملية( طرق الباب). وتلك ميزة اشتغالية هامة في شعر (بلقيس خالد). وعلى غرار آخر يستطيع الإيهام في نص (ومضة) أن يجعل من الربيع فصلاً عابراً من جهة الزمان من دون ان يعني مكاناً مزدهراً، ونتيجة لذلك يقودنا إلى دورة كاملة من التحولات المتسارعة في حياة إمرأة، لينتهي (النص) بعدة نقاط متتابعة يوحي شكلها ألطباعي بنوع من الإحالة إلى النهاية والخسران:
في الربيع
بين وردة وشذاها
صرت:
زوجة..
وأم..
و…. أرملة
……..!
بالمقابل فان فصل الربيع لا يؤدي عملا إنتاجياً بإزاء أحداث متسارعة للغاية، انه من جهة الوقت زمن ضائع لا غير، غير ان الدلالة المكانية لفصل الربيع المتمثلة (بالوردة وشذاها) هي التي تقوم بأداء هذا الدور الإنتاجي بدلا عنه، وإذا كانت (الخيمة الكاذبة) قد هيأت موطنا لبيت إيهامي فان نص (هو) بوسعه إيهامنا بان الشعر بإمكانه ان يحول الزمن إلى عالم مادي بامتياز، اذ ان الشاعرة في نص (هو) تحاول إعادة تشكيل الصفات المتداولة للزمن ولعل ايسر السبل في الكشف عن ذلك ما نلمس من إمكانية تسمح للشعر أن يتحدث عن الوقت بصورة اخرى غير صورته المعهودة، فثمة شيء مادي في النص يماثل البرزخ بمقدوره أن يشطر الوقت إلى نصفين ويحيله إلى مادة ملموسة بوسعها تحويل الافتراض الزمني إلى افتراض فعلي:
كالبرزخ: شق وقتي
ليوحدني في اثنين
انتظاره…. ولقياه.
ان عملية الإيهام التي تحدث في نص (هو) تحيل إلى لا تناهي الإيهام نفسه، طالما ان الأمر سيؤول في النهاية إلى لقاء مؤجل على الدوام، انه لقاء موصول بروابط ذات صلات متبادلة بين (اللقيا والانتظار)- انتظاره ولقياه- ان عمليات الإيهام في شعر (بلقيس خالد) تتجلى بأندر صورها في حالة الإيهام الناجمة عن صورة سمعية افتراضية يحيلها وهم السامع الى شبح وبالشرط الذي يلزمه في ان يكون شبحا فعليا ولكن من دون العدول عن إيهامية نص (هدير) حتى وان جرى ذلك عبر ضروب من ألوان (الهدير) الصامت:
القوقع البحري: يوهم نفسه
بهدير البحار
ليطرد شبح التصحر.
وعلى العكس مما يجري من اشتغالات إيهامية للشاعرة على صعيد استبدال الزمني بالفعلي، فان قصيدة (قلب) تعتني وبموجب غرار فريد باستبدال المادي بالزمني، ان القصيدة تنطلق من مقطع مكاني مليء بالحركة وبالقدر المناسب من التضليل ( تركل/ تضرب/ ترتشف/ تسترجع/ تهز جدار أضلعي/ مثل كرة الشكواس). ولو قدّرنا على سبيل الفرض ان (العزاء) هو نوع من أنواع ( الإيهام) يحدث غالبا لتفادي شدة الحزن إزاء صدمة ما، فانه يقوم في قصيدة (قلب) بدور تحويل لعبة (كرة الشكواس) بكل ضرباتها الى عامل من عوامل إدامة الحياة، هذا لو سلمنا بحقيقة إن الحياة تماثل الزمن بوصفها مجموعة لحظات زمنية، فان الافتراض الفعلي سيؤول بالتالي الى افتراض زمني:
تركل..
تضرب..
ترتشف..
تسترجع..
تهز جدار أضلعي
مثل كرة (الشكواس)
فاعزي نفسي..
يجب ان أحيا بضرباتك.
وهكذا تتكشف وظيفة الإيهام التي تتحكم بها الضرورة الاشتغالية في شعر (بلقيس خالد)، لدرجة ان جاهزية المفترض في بعض الحالات تفوق جاهزية الفعلي. وإذا كان ثمة دور آخر إضافي في اشتغالات الشاعرة الإيهامية، فانه يماثل الدور الذي يداني بالشبه وظيفة المادة المطاطية في امتصاص التوتر، وليس أدل على ذلك ما تشف عنه حزمة المشاعر في نص (وحشة) التي لم يتسنى لها العيش في جو من الطمأنينة وبالتالي يصار إلى كسر الشعور بالوحشة وما يلازمها من أنوثة معطلة بوسائل الإيهام المتولدة عن الأداء الشجي لصوت بعينه، وفي هذه الحالة تصبح (امرأة من رمل) بارعة في التعبير عن أنوثتها:
لا ضوء…
يجمع سرب فراشاتي..
هي ظلمة خانقة
وثمة جندب يعزف لانثاه
فيشجيني..
………..
إذن ليس هناك ثمة مناص من اعتبار مستويات الإيهام جزء من هبات الشعر غير المصرح بها في المجموعة، ان الشاعرة بلقيس خالد وهي تقدم مستخرجاتها الإيهامية تواصل البوح بان الايهام يبعد عن الشعر ويتضامن معه في آن، وبالتالي لا يمكن عزل شيئين متوازيين بوسعهما ان يجعلا قفل النص يدور ويدور ولا يحكم إغلاق نفسه على الدوام.