(خرائطية التشكيل البؤروي وسردية الاسباب المغايرة)
ربما كانت (الحبكوية – الحكائية ) بدرجاتها المختلفة وشروطها المتعددة , من ابرز مظاهر (فجائية) السرد القصصي : تعادل في اهميتها وخطورتها الوظيفية نفس الدور الذي يقوم به المجاز في شعرية القصيدة : وذلك لاعتمادها على خاصية جوهرية تتفق مع المجاز وهي انها (تقول شيئا وتقصد شيئا اخر) عندئذ نكتشف بانها هذه (الفجائيات) الحبكوية في تراكيبية المعنى القصصي , هي انطلاق للجانب القصدي فيها ومن خلالها , ومن هنا قد ندرك باننا من الواضح لا نستطيع ان نحدد او ان نلتقط هذه(الفجائية – الحبكوية) الا اذا انتهزنا لانفسنا الفرصة لنضع امامنا المثال او النموذج التطبيقي , ولاجل هذا اخترنا قصة (امراة الجاحظ) لاستاذنا القاص الكبير (محمود عبد الوهاب) , وبأختصار شديد تطالعنا (امراة الجاحظ ) داخل حدود سردية مقتضبة لمعاينة لعبة (خرائطية السرد الحبكوي) ومن خلال مساحة السرد الجاهزي للموضوع المحاك – جاهزية السرد – تبدو لنا , كفكرة خضعت من قبل (القائم بالسرد) لهندسة شكلية انبنت على اساس استلهامية اللحظة المستوعبة التي لا توجد في حقيقة هذه القصة , الا في اطارها المستكشف لمساحة الممكن من (المقولة الحوارية / المقولة البؤروية ) التي توزعت ضمن مساحات متوسطة من حجم السرد (الحبكوي ) ويبدو لنا القاص من خلال قراءتنا هذه لاحداث القصة, كان يعول كثيرا على ايهام قارئه , بمراكمته لمجموعة من الافتراضات النصية المحتملة , داخل اطار نصية ما يسمى بـ(مراوغة القارئ – تعتيم المقروء ) لكن يبقى في الوقت نفسه الحدث القصصي متمسكا بمستوى ادائية منطقة الدلالة المفترضة , داخل حدود استنطاقية فعل الايحاء المباشر , ليصبح لنا بالاخير الامكان الكيفي في القبض على مفاتيح ابواب هذه القصة المحيرة : ]أمراتان داخل المطبخ متجاورتان في كرسيين من البلاستك .. / المطبخ متسع حاد البياض يذكرك بشراشف فندق من الدرجة الاولى ../ دائما يعود الى البيت متأخرا ../ وجهه مرتبك وتحت ابطه كتابان او ثلاثة ../ بعد ان يغلق الباب ../ فتحت المرأة الاخرى باب الثلاجة ../ كتب على المنضدة على الكراسي على حواف الشبابيك .. / هل تريدين الحق ؟ انك تبحثين عن المثالي .. / اخذ قشر التفاحة يتلوى بين يدي المرأة وينطوي على نفسه ../ [ .
ان كل ما يعنينا هنا هو القبض اولا على التفاصيل , حتى يمكننا فهم الجزئيات قبل القفز بأتجاه ما هية الكليات المفهومية والدلالية , تجنبا منا للسفسطة , والشعوذة التأويلية – بقي ان نقول – فيما يخص قصة (امراة الجاحظ) بان السرد هنا ينفتح على صورة افتراضية , ينتخب فيها (ضمير المتكلم / الراوي العليم ) تمظهرات شخصية (المتكلم مع نفسه ) أي , مونولوج داخلي , ولكن بطريقة اخرى , تجعل من القاري يشعر بان شخصية المتكلم في القصة ليست تلك الطريقة الحوارية مع الذات , والتي قرأنا وسمعنا الكثير منها في قصص وروايات (فريجينيا ولف) ان شخصية المراة المتكلمة في تفاصيل حوارية قصة (امراة الجاحظ) قد جاءتنا بسياق غريب ومتفرد , لقد جاءتنا بصيغة الايهام بالقارئ , على أساس بان هناك امراة اخرى محاورة او بالاحرى هي قد جاءت على حد علمي (صاغية) لشخصية المراة الاولى , وعلى حد تقديري الشخصي بان المراة الثانية هي مجرد (لعبة المحكي ) لغرض
ايهام القاري بان هناك مستمعة اخرى تشاطرها فعل الحبكة السردية , وبكل ما تحمل من تفاصيل الذروة الخبرية , حتى اننا لربما قد نتذكر بالتالي اجواء قصة (امنية القرد) للقاص محمد خضير , فتلك القصة لربما قد كانت قريبة بتراكيبيتها الحبكوية من قصة (امرأة الجاحظ ) لسبب او آخر .. ان القاص محمود عبد الوهاب في قصته هذه قد استخدم ضمير المفرد المتكلم , والذي يقترب كثيرا من خاصية (الفجائية / الغرائبية / بنية البدهى ) كما تقول الناقدة المبدعة يمنى العيد : (ان استعمال ضمير المتكلم يفيد غالبا معنى قصدي شبه مباشر الا انه مباشر وانطباعي .. ص 61 عن كتاب القول الشعري ) ونفهم من هذا بان دلالة القائم بالسرد , قد تعمد عن قصد او بدون قصد مباشر , بان يجعل من شخصية المرأة المتكلمة في سياق السرد حضورا معبرا عن اطار شخصية (أنا الاخر) حيث تصور لنا وللقارئ في الوقت نفسه وظيفة تقابلات وتوقفات ذلك (الغياب الشخوصي) في شخصية (السارد العليم ) ..]قالت المرأة الاخرى .. / انك تظلمينه / قالت المراة الاخرى : – وماذا يعني .. / انتفضت المراة الاخرى :- ماذا تعنين ؟ ان جنونك لا حد له . / اشك احيانا في ما يفعل .. هل يقضي كل هذا الوقت وحيدا في غرفته .. [ على الرغم من ان القاص هنا قد تمكن من القبض على ثيمة (معادله الموضوعي ) باختياره الاخر المفترض , الا انه في الوقت نفسه قد خرج عن معطف (فجائيته الحبكوية) وعن سرده وعن نسقه البرهاني للمعلوم الايضاحي ليفسر لنا حالته الموضوعية والحوارية الشائكة بأدوات الخطاب التبريري :]هل انت هناك ؟ متى جئت ؟ .. / استطال الظل خارج الغرفة ولم يجب احد.. [ وللوهلة الاخيرة من فضاء نهاية القصة , نتحسس حيادا ما أزاء المرئي المفترض من شخصية قناع (الجاحظ) بعيارة القاص الختامية (ولم يجب احد ؟) وفي هذا الكشف العابر , نلاحظ بان القاص نفسه ما يلبث هنا بان يتخطى هذا المائل من السرد البؤروي , حتى يحفز انظارك ومن جديد لما هو قادم من لحظة اخرى ما وراء منطقة (خرائطية التشكيل البؤروي وسردية الاسباب المغايرة) , اذن تبقى اللحظة الغائبة في هذه القصة الجميلة والمحيرة , هي لحظة السكون السردي والانتظار الحبكوي الى ما وراء منطقة تشكيل حالة القلق عند القارئ وعند تنامي حركية وحيوية النص القصصي بفعاليته الجدلية بين الزمان والمكان , وعبر فضاء قصصي ساكن يبدو لنا اكثر تعقيدا عندما نكتشف انه كان طيلة تلك الفترة الماضية , منشورا داخل مطبوع (مجلة الاديب) يسوده حالة من فوضى الاشياء والنصوص والاسماء البليدة .. وفي الاخير لا املك سوى لمزيد من الدعوة للنقاد لقراءة قصة (امراة الجاحظ) لعلي بهذه القراءة البسيطة لم امنح هذا النص المبدع امكانيته الحقة من التفحص والتحليل والتقصي , كما لا املك في الوقت نفسه حرية المغادرة دون توجيه المزيد من الحب والاحترام والاجلال لقاصنا المبدع ومثقفنا الكبير (محمود عبد الوهاب ) .
احالات
* قصة (أمرأة الجاحظ) / محمود عبد الوهاب / مجلة الاديب ( العدد 79 ) يوليو 2005
* الناقدة يمنى العيد / عن كتاب (القول الشعري) ص 61