23 ديسمبر، 2024 2:49 م

امتحان مصيري لمجلس التعاون الخليجي

امتحان مصيري لمجلس التعاون الخليجي

ليس من دون مقدمات خفية وقديمة، انفجرت أزمة كبيرة بين ثلاث من دول مجلس التعاون الخليجي الست وقطر توشك أن تضع مستقبله لاختبار ما تبقى من النوايا الحسنة، ووقفت دولتان على الحياد، وانضمت مصر لحساباتها الخاصة إلى الدول الثلاث، وتصاعدت الأزمة على نحو دراماتيكي واتخذت إجراءات عقابية ضد قطر اشتملت على فرض حصار جوي وبري وبحري ومنع تنقل مواطني هذه البلدان مع قطر.
ينبغي علينا التعامل بحذر شديد مع هذا الملف وخاصة إذا جاء الرأي من طرف غير خليجي ربما لحساسية دول الخليج العربي تجاه أي تدخل خارجي، ولا بد أن ينطلق من حرص مؤكد على وحدة الصف بين ست دول تتشابه بواقعها وتقاليدها الاجتماعية وتتقارب في مستواها الاقتصادي وتتطابق أو تكاد في نظمها السياسية، ومع ذلك كله فإن مجلس التعاون الخليجي وعلى الرغم من تشكيله عام 1981، فقد بقي مجرد مجلس شكلي خال من أي مضمون سياسي حديث يمكن أن تعلق عليه الآمال المحلية أو العربية في أن يكون نواة لكيان منسجم يجمع العرب على كلمة منسجمة، على سبيل المثال اصطدمت دعوات بعض أطرافه لإقامة وحدة نقدية بخلافات قوية أوشكت على السباحة فوق مياه الخليج العربي وخاصة بين أبو ظبي والرياض إذ رغب كل منهما باستضافة مجلس الوحدة النقدية لمجلس التعاون، أما الدعوة لقيام اتفاقية الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء فقد وقفت ضدها كل من الكويت وسلطنة عمان لحسابات إيرانية، أما الآمال التي تم تعليقها على آخر اجتماع لقادة المجلس تم عقده في العاصمة البحرينية المنامة بين 6و7 كانون الأول/ ديسمبر 2016، على الإعلان عن ميلاد “اتحاد دول الخليج العربي” بدلا من مجلس التعاون الخليجي، ولكن التفاؤل المبكر بشأن هذه الأمنية سرعان ما تبخرت نتيجة حرارة الخلافات البينية مع أن ديسمبر هو شهر بارد على العموم.
فهل تهدد هذه الأزمة التي انتقلت من الأروقة الرسمية إلى الماكنة الإعلامية مع ما فيها من إثارة وارتزاق وإلى نقاط الحدود وأثرت على حرية انتقال البضائع والأفراد وتركت مآسٍ إنسانية لعوائل مختلطة نتيجة المصاهرة، وهل تؤثر على استمرار المجلس على قيد الحياة، الذي يظن كثيرون أنها أدخلته غرفة الانعاش المرّكز، أم أن حكمة حكام المنطقة ستستعيد فاعليتها وتقبل بالحلول الوسط التي تتجنب محاولات فرض الشروط بالقوة الاقتصادية من الحصار؟ أو التلويح باستخدام القوة المسلحة؟ والتي إن حصلت فإنها نذير شؤم على المنطقة والعالم وستعطي إيران خاصة فرصة لحشر أنفها فيها تحت لافتة حماية دولة صديقة.
إن عدم وضوح الالتزامات المتبادلة واعتماد مبدأ الحلول العشائرية في حلول المشاكل قد ولى وإلى الأبد، ذلك أن العشيرة تضخمت وصارت دولة لها مؤسساتها ومصالحها المتضاربة والمتصادمة مع مصالح العشائر الأخرى التي هي الأخرى أقامت لنفسها كيانات واعتزت بها ورأت فيها سلطة على الأرض والثروة وبوابة إلى العالم الواسع، فلم يعد ممكنا التراجع إلى الخلف بأي حال، ويلاحظ المراقبون أن مجلس التعاون الخليجي وبدلا من أن يؤثر إيجابيا في العلاقات العربية ككل بدأ يستورد سياسة المحاور وأخذ يعاني من تناقضات صامتة تجد لها متنفسا بين آونة وأخرى وكانت ملفات الخلافات كثيرة، ولكن أهم محاور التباين كانت تتعلق بعلاقات كل طرف بإيران والاقتراب أو الابتعاد عنها على حساب الرابطة الخليجية، وكانت إيران تتحين الفرص للتسلل وإثارة أسباب التنافس بين دول المجلس لعرقلة أي خطوات لتطويره.
ومع عدم نيتي زج نفسي في تلك الخلافات، لأنني أراها عابرة إذا تم التعامل معها في نطاق التحرك الرسمي، وبعيدا عن فضائيات الإثارة التي تعتاش على مثل هذه المناسبات، وإذا ما تم سحبها من منابر إعلام الكراهية إلى الغرف المغلقة والدبلوماسية الهادئة التي تميّز بها جيل البناة من حكام الخليج العربي وجزيرة العرب لفترة طويلة، فإنها ستبدو صغيرة جدا.
غير أن انتمائي إلى هذه الأمة لا يسمح بالوقوف متفرجا أمام عاصفة عاتية وإعصار يوشك أن يأتي على الجميع وما بنوه في عدة عقود، وهذا وانطلاقا من تجربتي كعراقي عانى شعبه ظلما غير مسبوق بسبب الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة عبر سلة قرارات ميكانيكية لمجلس الأمن الدولي، أشعر بمرارة وغصة أن قطر تعرضت لحصار اقتصادي وإغلاق للأجواء والحدود البرية والبحرية، ومما يجعل هذا القرار مؤلما أكثر أنه يأتي من أشقاء في العروبة والدين وفي شهر رمضان المبارك، حتى أن وزيري خارجية الولايات المتحدة وألمانيا شعرا بهذه المشاعر وهما غير مسلمين وطالبا بتخفيف الحصار.
ولعل أخطر ما في مشهد تبرير العقوبات والحصار المفروض على قطر أنه بدأ يأخذ طابعا دينيا سواء بالفتاوى الجماعية أو في الخطب والتصريحات التي يدلي بها علماء الدين، أمر كهذا سيزيد من هوة الانقسام ويطرح تساؤلات عن إنسانية دين يبيح تجويع المسلمين في شهر رمضان ويحدث شرخا إضافيا في أمة تعاني من انقسامات عمودية وأفقية منذ 14 قرنا، ثم علينا أن نعترف أنه أمر اجتهادي يقبل الرأي والرأي المضاد فإن الدول المشاركة في الحصار إذا كانت قادرة على حشد ألف من رجال الدين للدفاع عن القرار فإن الطرف الآخر قادر على تحشيد أضعاف مضاعفة من هذا الرقم، كثير منهم مدفوعون بوقفة إنسانية عن المظلومين بعيدة عن السياسة من جهة، وبعضهم مدفوع بغريزة الوقوف ضد ما يسميه “بوعاظ السلطان” فلمصلحة من هذا التأويل الديني لقضية سياسية صرف؟ أرى أن يحصر نطاق الخلاف ومهما كان حجمه في نطاقه السياسي وعدم سحبه على تبريرات تفقد كل من يؤيد مصداقيته أو بعضا منها، فنحن في العراق وفي هذه الأيام المباركة وحيث يعيش أبناء عدد من المحافظات السنية وآخرها نينوى وخاصة مدينة الموصل مأساة الحصار، لا نستطيع أن نجد تبريرا لحصار على شعب عربي، وعلينا أن نتساءل هل تضرر أحد من الرسميين في قطر جراء العقوبات؟ حتى بفرض أنهم أخطأوا مع أحد؟ إذا كانت الإجابة بلا فلماذا نعاقب شعب قطر بسبب خطأ حكامه؟
ثم هل نريد دفع قطر للبحث عن طرق ومسالك بديلة لإطعام الشعب؟ خاصة ونحن نعرف الخبث الإيراني ومدى شغفها بمزيد من الانقسام بين العرب وخاصة الدول القريبة منها، لا سيما وأنها كانت تنتظر مثل هذه الفرصة من السماء وإذا تفاجئ بأنها تأتيها مجانا وعلى صينية من ذهب من أكثر منطقة يسيل لها لعابها، نحن نعرف عمق الغاطس من نوايا إيران الشر لإقامة رأس جسر في الضفة الغربية للخليج العربي وإذا حصل ذلك فإنها لن تخرج إلى الأبد، فإيران تسعى إلى ما هو أكبر من مجرد فتح الأجواء أمام الطيران القطري أو وضع موانئها في توفير المواد الغذائية والسلع الأخرى للسوق القطرية، إنها تريد القول بأنها أكثر إسلامية وإنسانية من الأشقاء العرب في مجلس التعاون الخليجي خاصة.
لقد عانى العراقيون من “إنسانية إيران وإسلاميتها” بعد 2/8/1990 وما زال العراقيون يدفعون ثمنا باهظا من سيادة بلدهم وكرامة أبنائه ودمائهم والسطو على ثروته، ولا بد أن ينتبه الخليجيون كافة وليس أهل قطر وحدهم، أن إيران ذات أطماع بلا حدود ليس في الأرض أو المياه أو الثروة وإنما لأهداف بعيدة لا تتوقف إلا عند احتلال مكة المكرمة والمدينة المنورة كي تستكمل شرعية تراها ناقصة من دون تحقيق هذا الهدف، فالمملكة العربية السعودية وكما أعلن أكثر من قائد سياسي وعسكري إيراني أو من حزب الله اللبناني أو من المليشيات الشيعية في العراق، هي الهدف الأهم والجائزة الكبرى التي تنتظر دولة الولي الفقيه الحصول عليها مهما كلفها ذلك من تكاليف مالية أو بشرية خاصة وأنها تقاتل بغير أموالها وبغير أبنائها، وعندها فلن يتدخل أحد لنجدة الدول العربية فزمن دخول الولايات المتحدة إلى جانب الدول الخليجية كما حصل في شتاء 1991 لن يتكرر لأنها لم تتدخل دفاعا عن استقلال الكويت، بل كان من أجل تدمير العراق وإخراجه من معادلة الأمن القومي الخليجي والعربي وإطلاق يد إيران كي تصبح قوة مؤثرة تتناغم مع الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة وليست متصادمة مع روسيا الصاعدة من جديد، وقد اتضحت أبعاد هذا المخطط بعد توقيع الاتفاق السداسي مع إيران بشأن برنامجها النووي، ثم إن العالم لا يهمه من يحكم المنطقة، سواء كان عربيا أو فارسيا سنيا أو شيعيا، المهم عنده عدم المساس بمصالحه العليا في الطاقة وطرق مواصلاتها، وهذا الأمر يمكن لدولة واحدة بإرادة سياسية واحدة حتى وإن كانت مختلفة من الانتماء القومي أو الديني أو المذهبي أن تؤمنّه على نحو أفضل مما تؤمنه مجموعة دول صغيرة متصارعة الإرادات مختلفة المصالح على الرغم من أنها تنتمي إلى عرق واحد ودين واحد ومذهب واحد.
كلمة أخيرة، أقولها صريحة، لست منحازا إلى أي من أطراف النزاع ولكن.
1 – ناشدتكم الله أوصدوا أبواب الخليج العربي بوجه إيران بكل ما لديكم من قوة.
2 – أبقوا خلافاتكم بعيدا عن الفتوى الدينية والفتوى المضادة فكلها تأكل من جرف السنة والجماعة، هناك رموز دينية كبرى لها مكانتها ليس في بلدانكم فقط ولكن في كل بلدان العالم، فلا تجعلوها تهوي في مهاوي خلافات سياسية سيأتي اليوم الذي تحل فيه عاجلا أو آجلا عبر الحوار السياسي وبالحكمة والحكمة وحدها.
3 – أسكتوا فضائيات السوء التي تتبارى في إظهار الولاء وتزايد على الجميع في حب مدفوع الأجر وكأنهم يمثلون دور قيس بن الملَوح في فلم سينمائي وبعد نهايته ينتهي كل شيء.
4 – أتركوا شعوبكم تعيش ودّها وإخاءها ولا تقيموا خنادق من الكراهية بينها فالوجوه تلتقي مهما طالت الجفوة بينكم فأنتم أخوة في التقاليد والعشيرة واللغة والدين والمذهب فلا تتركوا لإيران فجوة تنفذ من خلالها لتشمت بكم والله من وراء القصد.