لا ينكر ان العراق قبل 2003 كان يعاني من اثار الحصار الناتج عن سياسات النظام السابق ومخالفاته للقانون الدولي واخرها ازمة دخول الكويت التي كانت سببا في تكوين تحالف دولي لمواجهته ادى الى سقوط النظام في العراق نتيجة لتراكم مساراته السياسية التي تعارضت مع مصالح دول المنطقة الاقليمية و الدولية او على الاقل هذا ما كان معلنا ، هذه المخالفات استندت اليها دول التحالف و انضم لها دول عربية واجنبية وعلى رأسها الدول العظمي بقيادة اميركا و انكلترا من اجل ازاحة النظام الحاكم في العراق ، ولسنا بصدد الخوض في الانعكاسات المتباينة لدى الشعب العربي في وجهات النظر واستثمار الازمة كل حسب مصالحه الاقليمية لكننا نعي بوضوح التباين في رأي الشارع العراقي بشأن اعتبار سقوط النظام في العراق على يد دول التحالف احتلال ام تحرير ، إذ ان هناك فئة من العراقيين غير متفائلة و ترى الامور بسوداوية معتمة ، مع ذلك فان الكثير من العراقيين كانو متفائلين بأن سيشهد العراق عهدا جديدا مزدهرا و يكون نموذجا للعالم و لدول المنطقة ، وذلك انطلاقا من ايمانهم بقدرات الوطن والشعب ، من جانب اخر فأن كثير من العراقيين كانت تتوقع بأن تقود اميركا خططا ستراتيجية مثاليه لأعادة الاعمار في مجالات الصناعة والعلوم و الزراعة والطب و التعليم وكل قطاعات الحياة خصوصا ان العراق ورغم سنوات الحصار يمتلك كوادر فنية وهندسية وعلمية مقتدرة وبكفاءه عالية رغم انها كانت مقيدة ومنحصرة بأهتمامات محددة في التسليح وبناء الجيش و صد الهجمات والاعتداءات المتفرقة وادامة زخم المعركة على مختلف جبهات القتال ، ومع استمرار الحروب لعشرات السنين فقد خلالها العراق فرص التقدم و الازدهار في الخدمات والبناء ومواكبة الحياة الحضارية مقارنة بدول العالم وعلى الاقل بدول الجوار ، ناهيك عن الضرر الاجتماعي في الضحايا من الشهداء وفقدان الاموال و الثروات و الامكانات الوطنية ، ولا ننسى ان دول التحالف و بقيادة اميركا وعدت و تعهدت باعادة الاعمار و تقديم المساعدات بمختلف انواعها واعتماد التخطيط والتدبير بالاعتماد على العراقيين . ولأن زخم الدولة العراقية قبل 2003 كان يرتكز على هدف ستراتيجي هو دعم القوات المسلحة والمجهود الحربي بكل ما متوفر من الامكانات الحكومية الوطنية فقد عمدت دول التحالف الى الحوار مع الكوادر العراقية من اجل تفعيل مقترح انشاء مراكز للاختصاصيين يهدف الى استثمار الكوادر و الكفاءات العراقية في تغيير منهجية العمل واستثمار خطوط الانتاج و وسائل الدعم المسخرة لها من الانتاج العسكري الحربي الى المدني وأسست لهذا الغرض عدد من المراكز ضمت العلماء والخبراء و الاختصاصيين المخضرمين لقيادة هذا المشروع ، وبالفعل تم افتتاح اكثر من مركز لهذا الغرض والتركيز على القطاع الصناعي في الصناعات الانتاجية والتحويلية و البحوث التطبيقية ، ومراكز اخرى كانت تهتم بالاتصالات و الزراعة والطب و التعليم وادارة الاعمال و التجارة والمالية وادارة المشاريع والتخطيط وغيرها .. كما وفرت هذه المراكز فرص الحوار و المناظرات و التدريب للوصول الى افضل النتائج .
هنا لا بد لنا من الاشارة الى ان ما دفع اميركا و دول التحالف لأقتراح العمل بهذه الخطط هو توفر معطيات تساعد على دعم وتنفيذ هذه المشاريع التي تحمل في طياتها اهداف ايجابية كبيرة للعراق واميركا بنفس الوقت ولو اتيح لها فرصة التنفيذ لكان العراق في حال اخر . ومع ذلك فان ما دفع اميركا و دول التحالف بمشاركة الخبراء العراقيين الى وضع هذا المنهج في تغيير توجهات وبرامج العمل في قطاعات الدولة من الصناعات العسكرية الى الصناعات المدنية كان لمصلحة كل الاطراف الدولية في المنطقة واولها دول الخليج لتأمن مخاطر العراق وفق منظورهم كما ان ايران استغلت الموقف الجديد لصالحها بوجود مواليها من حزب الدعوة و المجلس الاعلى اضافة الى عيون عملائها المنتشرين فى ارض العراق . وتمكنت اميركا بالتنسيق مع الادارة العراقية للقطاع الصناعي من وضع خطط لأعادة الاعمار على امل ان تتحقق قفزة نوعية على طريق التقدم والازدهار في العراق ، وقد وضعت هذه الخطط ورسمت ملامحها خلال الحوار بالاعتماد على المعطيات التالية:
1- توفر الامكانات (البشرية) في العراق من الكوادر الفنية بخبراتها العملية والتطبيقية المتراكمة ، و (توفر الامكانات الطبيعية) من المصادر الطبيعية والثروات الاستخراجية وعلى رأسها النفط والمواد الاولية التي تختزنها باطن الارض من الشمال الى الجنوب ، ذلك كان الحافز او الداعم الاول للتفاؤل ، وهذا كان عاملا قويا ودافعا الى توقع استثماره لصالح اعادة اعمار القطاع الصناعي والارتقاء به عن طريق الاستثمارات الخارجية والعمليات الاستخراجية و تطوير الصناعات المحلية وتحويل منتجاتها من الدعم للألة العسكرية الى القطاع المدني بالتحوير الفني و استثمار الانفتاح على التكنلوجيا الحديثة التي وعدت بتوفيرها اميركا ودول التحالف.
2- الدافع الثاني للتفاؤل هو توفر كوادر مؤهلة علميا وبخبرات تطبيقية و ميدانية كبيرة و متراكمة في المجال الصناعي والبناء و الانشاءات ولمختلف القطاعات الاخرى وقد وضعت الحكومة الامريكية ضمن سياساتها في العراق بعد 2003 عدد من البرامج التطبيقية الهادفة الى جمع الخبراء و التطبيقيين العراقيين للمحافظة عليهم وعدم تشتتهم بعد ان توقفت قطاعات العمل في الدولة (هذا الموضوع لا يخلو من بعد استخباراتي لسنا بصدده) ، وليكونو النواة في التخطيط واستثمار الخبرات لتغيير خطط و سياسة الصناعات العراقية ونقل اهتماماتها من الصناعة العسكرية الى الصناعات المدنية.
3- العامل الثالث هو سعي الادارة الامريكية الى بناء مراكز لأعادة تأهيل الكوادر العراقية لقيادة عملية التغيير في مفاصل الدولة من العراقيين العاملين في مواقع المناصب القيادية و الادارية واستثمار جهودهم في تنفيذ برامج وخطط التنمية و اعادة الاعمار و البناء مع توفير مختلف وسائل الدعم من امكانات و خبراء و مستشارين للتدريب والبدء بتنفيذ الخطط واعادة الحياة واستثمار الفرص المتاحة .
4- توفر البنى التحتية اللازمة رغم الاضرار التي اصابتها الا انها كانت اساس ملائم للانطلق في اعادة الاعمار .
5- وجود تقبل شعبي حسب ما جاء في مناهج الاحزاب الدينية السياسية المستفيدة من التغيير وهو تفاؤل شعبي كبير يتطلع الى مستقبل مزدهر مع وجود المثقفين والعلميين بعد ان توقع الشعب تغير السياسة العراقية من حال الحروب و المعارك و التسليح و الزي العسكري الى حال السلم والخلاص.
لكن وكما يعلم الجميع فأن هذه الخطط لم يكتب لها النجاح ، وبقيت ضربا من الاحلام رغم ان كثير منها احرز تقدما ملحوظا خصوصا في مجال التنظيم والاحصاء واستكمال التحضيرات بما فيها التمويل ، لكن الفوضى السياسية هي السبب الرئيس في توقف هذه المشاريع اذا امتازت سنوات ما بعد عام 2003 بنمو الفوضى العارمة وغياب السلطة الادارية الحكومية للدولة وتفشي الطائفية وانعدام الامن وظهور الاحزاب الدينية وعلى رأسها حزب الدعوة و المجلس الاعلى و الاخوان المسلمين ويقابلهم الاكراد مما دعى الى ظهور تجمعات قبلية و عشائرية و احيانا مناطقية اجتمعت على شكل مليشيات مسلحة لحماية حدودها من الغرباء او للحصول على مكاسب من ارث الدولة وحكومة النظام السابق . تلك الاحزاب والمليشيات كانت نتيجة توجهات وشعارات دينية لجأ لها فئة كبيرة من الشعب بقوة كبديل منقذ لمنع عودة الاحزاب العلمانية و القومية باعتبارها منصة و قاعدة كان حزب البعث الحاكم يرتكز عليها ، بالرغم من وجود شريحة اجتماعية مثقفة مقتنعة بأسس القومية والعلمانية منتشرة بين اوساط المثقفين . و وسط هذه الفوضى السياسية حصل الانفلات الامني الذي حصد الكثير من العراقيين نتيجة اعمال طائفية وتنفيذ اجندات خارجية ، فقد كان هناك حملة اغتيالات خبيثة وخطيرة قضت على الكثير من العلماء و الخبراء و المخضرمين والاختصاصيين و الضباط وخصوصا الطيارين العراقيين مما دعى الكثير من المستهدفين الى الهجرة حفاضا على ارواحهم وعوائلهم. امام هذا الوضع الامني المنفلت لم تكن امام المراكز سابقة الذكر اي فرصة للأستمرار بخطط اعادة الاعمار وتنفيذ مشاريع الاصلاح و التطوير وتغيير و تحوير وسائل الانتاج ، وراحت ادراج الرياح كل التحضيرات و التدريب و الدراسات و المشاريع وما انفق عليها خلال السنوات الاولى بعد 2003 ، وخلال ذلك وبانتشار الفساد فقد العراق ثرواته نتيجة عمليات الاختلاس و النصب و الاحتيال ونهب الاموال العامة وتهريبها الى بنوك خارجية لصالح افراد لقيادات الاحزاب الدينية .
لقد حصل انتكاس كبير في النظم المكونة للمجتمع العراقي ادى الى تدهور كبير في كل فعاليات الحياة في العراق حتى المعايير و المقاييس الوطنية و الدينية و السياسية اصابها الخلل والارباك بما يصعب علينا وصفه والسبب الرئيسي خلف كل هذه الانتكاسات هو فقدان الشعب للثقة بقياداته الجديدة وعدم احترام القانون و الانفلات الامني ، هذه العناصر وغيرها من التفاصيل اسقطت و تسقط اي محاولة للاصلاح ، ولو حاول اي مخضرم اختصاصي بمحاولة اصلاح خلل اداري ما في مكان ما في الحكومة فانه سيفشل بسبب عدم توفر العمالة المنظبطة وعدم توفر الغطاء القانوني لحماية سياقات العمل مع شرعنة السرقة و النهب واصبحت الرشوة و المحسوبية و المنسوبية والانتماء العرقي و الطائفي هي التي تحدد معايير القبول لأشغال المناصب الحكومية المتقدمة ، لذلك لم يعد هناك محاسبة ولا متابعة و لا مقارنة لحسابات الكلفة مع الانجاز. وقد ساهم التغلغل الايراني في دوائر صنع القرار الحكومي في انحراف الاداء الوظيفي فيما يتعلق بالمصالح الوطنية بما يخدم مصالح العلاقات مع ايران حصرا على حساب الجانب الوطني.
لقد فقد العراقيين فرص لا يمكن تعويضها ، ابتداءا من سقوط نظام الحكم السابق الى استحواذ الاحزاب الدينية على السلطة الى تسلط الولاءات الخارجية على صناعة القرار العراقي و فقدان السيادة والتصفيات الجسدية للعلماء و الخبراء العراقيين و خيرة الضباط العراقيين الذين ازهقت ارواحهم اكراما للولاءات الخارجية .
مع كل هذه الفوضى ، لازال التفاؤل قائم بين كل العراقيين سواء كانو من ذوي الولاءات الخارجية او المخالفين لهم او الفاشلين من الاحزاب الدينية الذين كانو سببا لدمار العراق وبناءه التاريخي .ويبقى الامل معقودا بالشباب لتنظيف العراق من ما تسبب به الاباء و الاجداد.