23 ديسمبر، 2024 10:18 م

الْغَدِيْرُ … عَهْدٌ رِسَالِيٌّ لِقِيَامِ دَوّْلَةِ الْعَدْلِ الإِلَهِيّ

الْغَدِيْرُ … عَهْدٌ رِسَالِيٌّ لِقِيَامِ دَوّْلَةِ الْعَدْلِ الإِلَهِيّ

تُشَكِّلُ واقِعةُ الغَديرِ، في مَنهجِ أَهلِ بيّتِ النُّبوَةِ وَ مَدرسَتِهم، أَكثرَ مِنْ حدثٍ تاريخيٍّ عَابرٍ. فَهِيَ تُعتَبرُ، ركناً أَساسيّاً في مُعتقَدِ مَدرَسةِ أَهلِ البيّت(ع) وَ أَتبَاعِهِم. وَ هَذا الاعتِقادُ لَمّْ يَكُنْ مِنْ إِفرازَاتِ حَالةٍ عاطفيَّةٍ، تَستَثيرُها المَشاعِرُ الشَخصيَّةُ الجيّاشَةُ، الّتي قَدّْ تَجعَلُ المُحِبَّ، يَميْلُ مَيلاً عاطِفيَّاً غَريزيَّاً، تُحَرِّكُهُ الدَّوافِعُ اللاشعوريَّةُ، بتَأْثِيرِ التَّقليدِ المُنبَعثِ، مِنْ تَصَوّراتِ الإِرثِ التَّاريخيّ، للبِيئَةِ الّتي يعيشُ فِيها الإِنسان.
إِنَّ وجُودَ خَطِّ الإِمامَةِ، يُعتبَرُ عَامِلاً يتَفاعَلُ دوماً، عَلى أَرضِ الواقِعِ، مَعَ مُتطَلَّباتِ الإِنسانِ الدِّينِيَّةِ وَ الدُّنيَويَّة. كمَا يُعتبَرُ مَفهُومُ الإِمَامَةِ ضَمانَةً أَكيدَةً، لِحِفْظِ الكِيَانِ الرِّسَاليّ للإِسلام، بَعِيْداً عَنْ كُلِّ انحرافٍ أَو زَيْغٍ، عَلى مُسْتَوَى العَقيدَةِ، وَ التَّشْريعِ، وَ السلوك. هذا الاعتِقادُ الرَّاسِخُ بهذهِ القَضِيَّةِ الرِّساليَّةِ، لَهُ جُذورُهُ الواقِعِيَّةُ، الّتي تَستَنِدُ إِلى الوَقائِعِ التّاريخِيَّةِ الصَّحيحَةِ، الّتي أَجْمَعَ عَلى صِحَّتِها، جَميعُ رِواةِ الحَديثِ، فِي الصَّدرِ الأَوَّلِ مِنَ تَاريخِ الإِسلام. (… عمل الأئمة في مرحلة لاحقة على حماية الشريعة و مقاومة الانحراف الذي أشاعه فقهاء البلاط والعلماء المنحرفون، والتصدي لمحاولات تزوير الدين والعبث باحكامه، أما المرحلة الأخيرة فاتَّجه العمل فيها صوب تجسيد الدين في الحياة، وتطبيق أحكامه)(قيادة المسيرة في رؤية الإمام السّجاد (ع)/ حسين باقر).
لَقَدّْ حَاوَلَ مُزَيّفوا التّاريخِ، الّذينَ رَبَطوا مَصِيرَهُمْ، بِمَصِيِر سِيَاسَةِ الطُّغَاةِ، أَنْ يَخْتَزِلوا الوَصَايَا الّتي أَكَّدَ عَليها النَّبي(ص)، بِعَدَدٍ مِنَ الخُطَبِ، الّتي أَلقاها(ص) بجِمُوعِ النَّاسِ، فِي حِجَتِهِ الأَخيرَةِ، لبيتِ اللهِ الحَرام، وَ الّتي بَلَغَ مَجْمُوعُهَا سِتَّ خُطَبٍ، فاخْتَزلُوها بخُطبَةٍ واحِدَةٍ، أَطلَقُوا عَليّها (خُطبَةَ حِجَةِ الوَداع). يَذكُرُ الشَيّخُ (علي الكوراني) في كِتابِهِ (آياتُ الغدير/ ص88): أَنَّ هناكَ خَمْسَ خُطَبٍ، سَبَقَتْ خُطبَةَ (غَديرِ خُمٍّ) هي: (الأولى يوم السابعِ مِن ذِي الحِجةِ بمكةَ، وَ الثانيةُ يوم عرفة، وَ الثالثةُ يوم النَّحر بمِنى، وَ الرابعةُ يوم القَر بمِنى، وّ الخامسةُ يوم النُّفر الأوّل بمِنى أيضاً)(انتهى). هذهِ الخُطَبُ السِتّ، أَجْمَلَ فِيها النَّبيُّ(ص) وَصايَاهُ للأُمَّةِ، بِشَكْلٍ مُوجَزٍ وَ مُكثَّفٍ أَيّضاً. لَقَدّْ بَلَّغَ الرَّسُوْلُ(ص) الأُمَّةَ، بطَريقَةٍ إِعلامِيَّةٍ بارِعَةٍ، فَحَقَّقَ (ص) ثلاثَةَ مَقاصِدٍ:

الأَوّلُ: أَوْصَلَ (ص)، رِسالتَهُ الهادِفَةُ إِلى الآخرينَ، بطريقَةِ الإِتّصَالِ المُباشرِ مَعَ الجُمْهُور.

الثّاني: قَصَدَ (ص)، أَنْ يكونَ التَّبليغُ بهذا الشكلِ، حتّى يتحَقَّقَ اشتهارُ هذهِ الواقِعَةَ، فَلا يَستطيعُ أَحدٌ  أَنْ يُشكَكَ فِي حُدُوثِها مُستقبلاً.

الثّالثُ:  ذَكّرَ(ص)الأُمَّةَ، بمَبادِئ الإِسلامِ الأَساسيّةِ، الّتي بلَّغَ بها عَلى مدارِ مُدَّةِ نُبُوَّتِهِ(ص). وَ الّتي استغرَقَتْ ثلاثاً وَ عشرينَ سنةٍ. وَ التأكيدُ على وجُوبِ اتِّباعِها، وَ الإِلتزامُ الحَرفِي بِحدُودِها الشَّرعِيَّة. وَ مِنَ المُفِيدِ أَنْ نستعرِضَ بَعضَ هذهِ المبادِئ، وَ الّتي منها:
1. التآخي بين البشر، و إلغاء التّمايز القومي.
 2. حُسنُ معاملةِ النِّساء، و عدم ظلمِهنَّ.
3.  وِحدَةُ الأُمّةِ الإِسلاميّة.
4.  إلغاءُ آثارِ الجاهلِيَّةِ و مآثِرها و تشريعاتِها المخالفة للإِسلام.
5.  الأخوّةُ و التكافؤ بين المسلمين.
6.  احترامُ الملكيَّةِ الشَّخصيةِ، و تَحريمِ أَموالِ المسلمينَ على بعضهم.
7.  احترامُ حياةِ المسلم، و تَحريمِ دِماءِ المسلمين على بعضهم.
8.  احترامُ عِرضِ المسلم و كرامته، و تَحريمِ أَعراضهم على بعضهم.
9.  مَنْ قالَ لا إله إلا الله، فقد عُصِمَ مالُهُ و دَمُهُ.
10. الحِفاظُ على علاقةِ التَّعايُشِ السِّلميّ بين المسلمينَ وَ أَهلِ الكتاب.
11.  خِتَامُ النُّبوَةِ به(ص)، وَ خِتامُ الأُمَمِ بأُمَّتِه.
12.  النّبيُّ شاهِدٌ على الأُمَّةِ في الآخرة.
13. الحذرُ مِنَ الأَعمالِ الّتي تجرُّ إِلى الانحراف،وَ إِنْ كانتْ بسيطة.
14. التحذيرُ مِنَ الكَذِبِ على النَّبيّ (ص)، وَ التحقُقُ فيما يُنقلُ عنه. (آيات الغدير/ ص55/ مع بعض التصرف).
 وَ أَحداثُ التّاريخِ تُجزمُ بشكلٍ مؤكَدٍ، بأَنْ لا تُوجَدَ واقعةٌ تاريخيّةٌ كواقعةِ الغديرِ، أَجمعَ عليها المسلمونَ، وَ تعدَّدَتْ مصادرُ روايَتها. فَقَدّْ أَحصى وَ ضبَطَ العَلامَةُ الجليْلُ، الشيخُ عبدُ الحسينِ أَحمدَ الأَمينيّ النَّجَفيّ (قُدِّس سِرِّه)، في موسوعتهِ الغَرّاء (الغدير)، بأَجزائِها الأَحَدَ عَشَر. فذكَرَ الشيخُ الأمينيّ مائةَ و عَشرَ، صحابياً رووا حديثَ واقعةِ الغديرِ، وَ بطُرُقٍ مختلفةٍ، وَ كذلك مِثلُهُم مِن التَّابعين .
إِنَّ هكذا استفَاضَةٌ و إِجماعٌ، في مصادرَ تاريخيّةٍ تَروي حادثَةً تاريخيَّةً معيَّنةً، تُخرِجُنا مِنْ كُلِّ دَوائرِ الشَكِّ، الّتي يَرسِمُها الظلَمَةُ المُتغطْرسونَ من حُكّامِ الجَوّر، فِي محاولاتِهم لطَمسِ الحَقائِقِ التَّاريخيَّةِ النَّاصِعَةِ، خَوفاً على عُروشِهِم مِنَ الانهيارِ، تحتَ ظَرَباتِ مطارقِ الحَقّ.
فِي الثَامنِ عَشرَ مِنَ شهرِ ذِي الحِجَّةِ الحرامِ، مِنَ العامِ العاشِرِ الهِجري، جَمَعَ رَسولُ اللهِ (ص)، حَجيجَ المسلمينَ، الّذينَ حَجّوا معَهُ حِجَّة الوَداع، فَي مَنطقةِ (غَديرِ خَمٍّ أو خُمٍّ) بمنطقةِ الجُحفَةِ، الّتي مِنها تتفرقُ الطُّرقُ، إِلى الأَمصارِ وَ الأَقطار. فنزلَ عليه(ص) الأَمينُ جبرائِيلَ(ع)، مُبلّغاً قوّلِه تَعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(صدقَ اللهُ العليُ العظيم) . لقَدّْ قَرَنَ اللهُ تَعالى، أَمرَ التَبليغِ بالولايَةِ لأَميرِ المؤمنينَ(ع)، بأَمرِ تَبليغِ الرِّسالَةِ كُلِّها، باعتبارِ الإِمامَةِ، هي الامتدادِ الطَّبيعي، لجَوْهَرِ الرِّسالَةِ الإِسلاميَّة.

وَ مِنَ الدُّروسِ المُهمَّةِ لهذهِ الواقِعَةِ، أَنَّ المُسلمينَ كُلُّهُم، وَ كانَ عدَدُهم يَربو على المائَةِ وَ عشرينَ أَلفاً، مِنْ مُختلفِ بقاعِ أَرضِ الإِسلام. اجتَمعوا بأَمرِ رسولِ اللهِ(ص). ليُبَلِغَهُمْ بأَمْرِ الولايَةِ، حيث نَزلَ قَولُهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ثُمَّ أَمرَ النَّبيُّ(ص) الجميعَ، بمصافَحةِ عليٍّ بنَ أَبي طالبٍ(ع)، وَ تهنِئَتِهِ بالولايَةِ الإِلهيَّة. فَطفِقَ النَّاسُ يُهنِّئونَهُ(ع)، وَ كانَ في مُقدمَتِهم الصَّحابَةُ، أَبي بكرٍ وَ عُمَرٍ(رض). وَ قالَ عمرُ بنَ الخطّابِ(رض)، كلمتَهُ الشّهيرةَ، عندما دَّنا مِنْ أَميرِ المؤمنينَ(ع) مُهنِئاً لهُ، فَضربَ على كَتفِ أَميرِ المؤمنينَ(ع)، غِبطَةً وَ تعظيماً لهذا الشَّرَفِ العظيمِ، وَ قالَ : (بَخٍ بَخٍ يا ابنَ أَبي طالب، أَصبحتَ مولانا وَ مَولى المؤمنين). وبعد ذلك نزلَ قولُه تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسلام دِيناً).
إِنَّ هذا الدَّرسَ، يُعطينا فُرصَةً كبيرةً للتَّأَمُلِ، فِي واقِعِنا اليومَ، لنُجيبَ بأَنفُسِنا على تَساؤلاتٍ مهمّةٍ، تَصِلُ إلى حَدِّ التَّحَدِيات المَصيْرِيَّةِ، وَ هذهِ التَّساؤلاتِ  هي:

1.  هَلّْ موضوعُ وراثَةُ الأَنبياءِ، وَ تَوَلي الأَوصياءِ مِنْ بَعدِهم، زِمامِ قِيادَةِ الأُمَّةِ، أَمرٌ تتفرَدُ به مدرسَةُ أَهلَ البيّتِ(ع)، أَمّْ إِنَّهُ أَمرٌ موجودٌ في الرسالاتِ السماويَّةِ السابقَة؟. بِهذا الخُصوصِ يَذكرُ الشيخُ (علي الكوراني): (…. ونظام الاثني عشر نقيباً الذي شرعه الله في بني إسرائيل ، والإثني عشر حوارياً لعيسى ، وأن النبي صلى الله عليه وآله طلب من الأنصار في أول بيعتهم له أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً . . ثم بشر الأمة بالأئمة الاثني عشر من بعده)( مصدر سابق/ ص107)
  
2. هّلّْ ستَنجحُ الأُمَّةُ الإِسلاميّةُ، بالصمودِ بوجهِ المُخَططاتِ المُعاديَةِ للإِسلامِ، (خصوصاً التي يُنظِّمُها، بعضُ المسلمينَ المنحرفينَ عقائِديّاً وَ فكريّاً وَ ثقافِيّاً). هذهِ المخططاتُ الّتي تَقْصِدُ تفريقَ الكلمةِ، وَ شَقِّ وحدةِ الصَّفِ، عن طريقِ خداعِ البُسَطاءِ وَ الجَهلةِ، وَ تهويلِ الأُمورِ وَ تضّخيمِها فِي أَذهانِهم السَاذجَةِ، وَ تصويرِ مُحبّي أَهلِ البيّتِ(ع)، بأَنهُم كفرةٌ وَ أَهلُ ضَلالَةٍ وَ  بِدعَةٍ، وَ مزيفينَ للتاريخ؟.

3. هَلّْ سيَنجَحُ المثقَّفونَ المُسلمونَ النُّخبويّونَ المُلتَزِمونَ، مِنْ احتواءِ صَدى تلكَ الإِدعاءآت، الّتي هي أَصلاً بِدعةً دخيلَةً، على الإِسلامِ وَ تاريخهِ. وَ يتمكنونَ مِنْ إِسكاتِ أَبواقِ الإِعلامِ المأجورِ للأَعداءِ، وَ الّذي لا يَكِّفُّ عَنْ تَشويهِ الحَقائِقِ، وَ تَثّويرِ المَشاعِرِ، بينَ بعضِ المسلمينَ وَ بعضهِم الآخر؟.

4. هَلّْ تَتَمَكنُ الأُمَّةُ، مِنْ تَطبيقِ مبادِئ رسالَةِ الإِسلامِ، الّتي حَدَّدَها، النَّبي الكريم(ص)؟.

5.  هَلّْ تَستطيعُ الأُمَّةُ الصّمودَ، بوَجهِ تَحدياتِ الحَاضِرِ وَ المُستقبلِ. أَمّْ أَنَّها سَتَنهارُ أَمامَ تَحدياتِ الأَعداء؟.

6. إِنَّ المؤَشراتِ تَدِلُّ على أَنَّ الإِعلامَ العالميَّ الموجَّهُ ضِدَّ المُسلمينَ، لهُ أَثرٌ سَلبيّ على حياتهم. فَهَلّْ سيَتمكنُ هذا الإِعلامُ، مِنِ اقناعِ الجيلِ المعاصرِ، بِأَنَّ الإِسلامَ مُجرَّدُ تُراثٍ، لا نَفعَ فيه، لكثرةِ الصِّراعاتِ الفكريَّةِ وَ العقائديَّةِ الموجودَةِ في واقِعه. لِذا يجبُ أَنْ يُحفَظَ هذا التراثُ في أَدراجِ المتاحِفِ، لِنُبعِدَ المَشاكِلَ عَنْ حاضِرِنا وَ مُستَقبَلِنا؟.

إِنَّ الإجابةَ على هذهِ الأَسئلةِ، تَكمُنُ فِي مقدارِ تَحمُّلِ الأُمَّةِ وَ نُخَبِها،  للمسؤوليَّةِ الرساليَّةِ، وَ فَهمِها العَميْقِ لدورِها الإِنسانِيّ فِي الوجُود، كمَا أَرادَ اللهُ تعالى وَ رسولُهُ الخَاتَمُ(ص). وَلا يكونُ ذلكَ أَبَداً، بدونِ السَيرِ على نَهجِ مَدرَسةِ الإِمَامَةِ المَعصُومَةِ، الّتي طَهّرَها اللهُ تَعالى مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيرا. وَ العاقِبَةُ للمُتَّقين. 

كاتِبٌ وَ بَاحِثٌ عِراقيّ
[email protected]