تميل النفس الإنسانية بطبيعتها إلى الإقبال نحو الحياة الناعمة والرفاهية وكراهية الرقابة والمساءلة وهي بذلك تعيش صراعاً ما بين هذا التوق إلى الانفلات من القيود والضوابط من جهة وما بين كبح جماح تلك الرغبات بحدود الالتزام بالتواجد في المنطقة المسموح بها من جهة أخرى وهنا تقدم لنا الديمقراطية كواحدة من الأساليب التي أثبتت جدواها ونجاحها تقدم لنا نموذجاً راقياً من الرقابة تختصره جملة العنوان اليوم حاِكم وغداً تحاكَم وان كانت التجربة العراقية لم تقدم لنا ما يدعم هذا النموذج المثالي للحد من الفساد بعد مرور عدة سنوات وبعد تعاقب تشكيل عدة حكومات لان تطبيقه يعني شعور الحاكم اياً كان منصبه بوجود الضغط الرقابي الذي يدفعه نحو الاستقامة والوضوح والنزاهة وفي ذات الوقت يعطي للمواطن عقداً جديداً من الشراكة الحقيقية التي تمكنّه من محاسبة المسؤول اذاً لم يستطع وتحت شتى الذرائع والأسباب أثناء فترة تولي المسؤول لمهامه فانه بالتأكيد قادر على إجراء تلك المحاسبة بعد انقضاء فترة مهمته بالإضافة إلى تنامي الشعور الجمعي بالنظر إلى المنصب على انه تكليف وليس تشريف وقطع الصلة مع الثقافة الموروثة التي رسخّت في الأذهان خلود الحاكم وحرمة محاسبته وحسناً فعلت التجربة المصرية وهي تقدم لنا مستوى قضائياً يبعث على الإعجاب تستعيد فيه كلمة العدل حضورها اذ تبعث من تحت الرماد جميع القضايا وتفتح الباب واسعاً أمام جميع الشكاوى للاقتصاص من مرتكبيها والبحث والتحري عن كافة قضايا الفساد التي رافقت فترات الحكم الماراثونية لعائلة مبارك وبطانته وهكذا هو الحال مع كافة الدكتاتوريات التي تسلطت على رقاب الشعوب طوال العقود الماضية في مختلف بلدان عالمنا العربي الذي استنسخ معظم قادته تجارب الطغاة وعلى مقاسات أعناق شعوبهم .
لقد أشرق صباح التغيير واستفاقت الشعوب من كوابيس حكامها وبدأت أجنّة الثورات تبصر النور نعم قد يتأخر الوضع هنا ويتقدم هناك إلا ان السير هو باتجاه حتمية التجديد والخلاص ولن يكون من السهل ان لم اقل من المستحيل إعادة عقارب الزمن إلى الوراء إلا لأغراض المحاسبة واستنفار وثائق الإدانة وأدلة تورط الحكام وأزلامهم لتحقيق العدل والإنصاف الذي غاب عن المنطقة لعقود خلت ومن يفكر في استغفال وعي الشعوب سيجد نفسه مغفلاً حين يمثل امام منصات العدل لاستعراض ظلمه وليعتبر كل حاكم بتجربة غيره قبل ان تجرفه سيول التغيير ولن تنفعه سدود التسويف ومعابر التأجيلات .
ان السير الحثيث بالحوار مع الآخر / الشعب يعني عملياً الوصول الى منتصف الطريق التي تفصل بين الفرقاء لكن هذه المسافة تضيق من جهة الحاكم لتتسع امام الشعب كلما فقد الحاكم الفرصة في الإيفاء بالالتزامات وتطبيق الإصلاحات وكبح جماح الفساد الذي يكاد يكون العلامة الفارقة التي تميز جميع الدكتاتوريات على اختلاف توجهاتها مع ان الخطوة الأولى تبدأ من الحكومات للاصلاح وتطبيق الشعارات البراقة على ارض الواقع وان يلمس ذلك المواطن الذي أصبح يكره حرف ” السين ” لكثرة ما صلبه المسؤول على صليب هذا الحرف دون ان ترى الوعود السينية طريقها إلى التنفيذ .
وللحكماء من الحكام تجارب تستحق الإشادة بها وهم يقطعون بعزم وهمة مسافة الطريق امناً وخدمات ونزاهة ليجدوا انفسهم وقد توسطوا القلوب والضمائر وهم على قلة عددهم وندرتهم إلا أنهم انتزعوا الخلود حين زاوجوا بين النظريات العالية والتطبيق المثمر لينجبوا للإنسانية دولاً ومدناً وجمالاً تسلب العقول تحولت فيها الصحارى الجرداء إلى واحات عصرية ونماذج عمرانية على مستوى احترام الإنسان وتغيير خارطة القبح إلى حياة تستحق الحياة في ذات الوقت الذي حوّل فيه الحمقى قيم الجمال والمدنية والرخاء إلى تعاسة ودماء وشقاء اخذ بعضهم ما يستحق من القصاص والبعض الآخر ينتظر دوره الذي لن يخطئه ” والعاقل من اتعظ بغيره “