المستغرب ان دولة علمانية، كالولايات المتحدة، تقحم الله بهذا الشكل في حياة مواطنيها وهم متدينون من مختلف الاديان والطوائف، وغير متدينين.
وعندما اصف الولايات المتحدة بالدولة العلمانية اعني ما اقول. فهي، في الواقع اولى البلدان الغربية التي ازالت الطائفية عن نظامها السياسي وذلك في تعديل دستورها في السنة الـ.1791 فالثورة الفرنسية التي قامت في السنة الـ1789 لم تلغِ، في البداية، الطائفية او الدولة الدينية، بل هدفت، في مرحلة اولى، الى تنظيم العلاقة بين الدولة والاكليروس. وعقب ذلك قيام سلسلة “اتفاقات” (Concordats) بين فرنسا والفاتيكان نظمت العلاقة بين الدولة والكنيسة. وبقيت فرنسا تخضع لنظام الاتفاقات هذا حتى السنة الـ1905 حيث تم “فصل الكنائس عن الدولة”، ولم تصبح فعلاً دولة علمانية، او بالأحرى لا طائفية، الا بعد الحرب العالمية الثانية، ووفق دستور .1945
صحيح ان علمانية الولايات المتحدة لم تكن معاداة للدين، وأن فلسفة “الثورة الفرنسية” اطلقت تياراً الحادياً، او اقله كانت وراء التيار الفرنسي المتسم “بمعاداة الاكليروسية”، لكن هذا لا يمنع من اعتبار الدولتين علمانيتين، بمعنى انهما فصلتا السلطة السياسية عن السلطة الدينية.
فكيف تفسر الظاهرة الاميركية المتمثلة باقحام الدين، او التدين، بالشأن العام؟ ربما ان الرئيس جورج بوش هو اكثر الرؤساء الاميركيين “تديّناً لكنّ تديّنه قد يكون الابعد عن التعاليم الرسمية للدين المسيحي.
من هنا نطرح السؤالين الآتيين: ما هو الخط الديني الذي يسير عليه بوش؟ وهل ان قناعاته الدينية تتحكم في رسم سياساته كرئيس للولايات المتحدة؟
معروف ان بوش ينتمي “شكلياً” الى احدى الكنائس الانجيلية التي تسمى بالكنيسة “المنهجية”، او “المتوديست”. ومعروف ان هذه الكنيسة هي من الكنائس الاميركية، البروتستانتية والكاثوليكية والاردثوذكسية، التي ادانت بوضوح تام، وتكراراً، عبر بيانات مجالسها الكنسية، الحرب على العراق.
بالتالي، تردد كثيراً في الآونة الاخيرة، لاسيما منذ بدء المسألة العراقية التي ادت الى حرب الخليج الثالثة التي نشهدها اليوم، ان الرئيس الاميركي قد يكون منضوياً في تيار ديني “اصولي”. وذهب البعض الى تسمية هذا التيار الديني الاصولي، الذي ينتمي اليه بوش، باسمه، اي تيار الذين يلتزمون بعقيدة “الولادة الثانية”.
الا ان جماعة المؤمنين “بالولادة الثانية” (ويسمّون ايضاً “المولودون من جديد”) هم، في الواقع، من الجماعة التي اطلقت على نفسها اسم “الصهيونية المسيحية
“المسيحية الصهيونية” هي ايديولوجيا دينية/رؤية/ سياسية حديثة العهد نسبياً. لكن جذورها تتصل بتيار ديني يعود الى القرن الاول للمسيحية ويسمى بتيار “الالفية” (millenarisme). لكن “الصهيونية المسيحية” انحرفت عن اصولها، وحوّلت، في القرن السابع عشر، وانطلاقاً من انكلترا حتى تستقر في الولايات المتحدة، التيار “الالفي” الى تيار سياسي/ديني/صهيوني.
فما هي الألفية”، وكيف تحولت الى “مسيحية صهيونية”؟
نشأت “الالفية”، منذ بداية المسيحية، في اوساط المسيحيين من اصل يهودي. وهي تعود الى استمرار اعتقادهم بالمسيحية الزمنية، وتأويلهم اللفظي ما ورد في “رؤياً” يوحنا الانجيلي، وهو ان المسيح سيعود الى العالم، محاطاً بالقديسين، ليملك في الارض الف سنة.
ربما كانت هرطقة مونتانس الفريجي (حوالي السنة الـ172) كانت التعبير الاكثر وضوحاً عن النتائج العملية للحركة الألفية. فلقد اعتبر هذا الاخير ان حياة اعضاء الكنيسة الروحية والأخلاقية تدهورت كثيراً بسبب تأثير العالم السيئ عليها. فأراد ان يرجعها الى العصر الرسوليّ الأول. وقد ادعى انه النبي الجديد الذي اوكل الله اليه هذه المهمة فراح يبشر بقرب نزول اورشليم السماوية من السماء ومجيء السيد الى فريجية العليا (آسية الصغرى) لتأسيس مملكته الارضية ذات الألف عام.
وبقيت الحركة الألفية في مد وجزر. ففي القرون الوسطى اعتنق الألفيون اكثر فأكثر عقائد مسيحية ابتعدت عن الايمان القويم. كما انهم وقفوا موقفاً معادياً لروما، للبابوية، وللكثلكة.
وابتداء من نهاية القرن الحادي عشر، نرى الحركات الالفية تنضوي بكثرة تحت لواء الحملات الصليبية. كما تأثرت بعض الحركات الاصلاحية البروتستانتية، في القرن السادس عشر، بالتيار الالفي.
الا ان بوادر تفسير الكتب المقدسة تفسيراً حرفياً وربطها بالسياسة، ولاسيما بتصور دولة يهودية، تتميماً – حسب زعم الالفيين – لنبوءة الكتاب المقدس، بدأت بشكل بارز في انكلترا، في القرن السابع عشر. ومن ثم انتقلت هذه الحركة الى اميركا، لا سيما ان اقحام المعتقدات الدينية وشبه الدينية في الحياة السياسية امر مألوف في المجتمع الاميركي. لكن ما يدعو الكثيرين اليوم للقلق هو تنامي قوة تيار ديني اصولي يعتبر ان “العد العكسي الى هِرمجدّون” “قد بدأ، وهو يعمل على التأثير المباشر في صنع القرار السياسي في الولايات المتحدة وعلى نحو ما، من خلال “المبشرين” وأجهزة الاعلام.
ويعتبر هذا التيار الاصولي ان مجيء المسيح الثاني قد اقترب. لكن، قبل هذا المجيء، على بعض الاحداث ان تقع. انها “علامات الازمنة”: تبشير العالم، و”عودة” اليهود، واعادة بناء دولة اسرائيل، وظهور المسيح الدجال، وموجة من الصراعات… كل هذا يتوّج بمعركة “هِرمجدّون” (قرية مذكورة في سفر الرؤيا وهي تقع شمال القدس) حيث تزج الامم الكبيرة في معركة “الحق والباطل”. وعند اقتراب افناء العالم، يظهر المسيح. وتبدأ مرحلة (حسب بعض الروايات غير المتفقة مع غيرها على تفاصيل هذا الحدث “الانقضائي”) قدوم سبع سنين يعرف العالم خلالها حروباً نووية وفوضى اجتماعية يجيء المسيح في آخرها ويخطف المسيحيين “المولودين من جديد” على سحابة، فيلاقونه في الهواء، ويخلصون من الحرب. خطف المسيحيين في السحب مرجعه القديس بولس في رسالته الاولى الى اهل تسالونيقي (خصوصاً الآيات 15-17 من الفصل الرابع). اما “المولودون من جديد “فهو مصطلح له تعريفات عدة، تشترك كلها في اعتبارهم جماعة الذين اختاروا شخصياً يسوع المسيح للحصول على الخلاص فولدوا من جديد. انهم يعتبرون ان الكتاب المقدس لا يخطئ، في حرفيته، وأيا كانت المواضيع. وهم محافظون جداً في اخلاقهم الجنسية، لا يدخنون ولا يشربون الكحول ولا يلعبون القمار.
وحسب رواية اخرى، لن يخطف “المولودون من جديد” في السحب، بل سيعيشون الكارثة. لذلك، عليهم ان يستعدوا لحماية انفسهم خلال الحرب النووية التي “خطط لها الله”. فالسلاح النووي “يصبح عندئذ اداة لتحقيق مقاصد الله. والميل الى تفسير احداث السياسة الدولية بمنظور “نهاية العالم” يصبح مشروعاً لا بل ضرورياً. كل دعاة “الألفية” مجمعون على اعتبار الشرق الاوسط مسرحاً للحرب/الكارثة الموصوفة اعلاه.
فهل يكون جورج بوش متأثراً في رسم سياسة بلاده الخارجية بايديولوجية الالفيّين؟
لو اعدنا قراءة خطب بوش، منذ الحادي عشر من ايلول 2001 لوجدنا الكثير من التعابير التي تدخل في مناخ “الالفية التي انتعشت مع بداية الالف الثالث: من زلة لسانه حول الغزوة “الصليبية”، الى تقسيمه العالم الى محورين، محور الشر ومحور الخير، الى استخدام التعابير الدينية في خطاباته، الى الحرب التي اعلنها ضد الارهاب، الى اعتبار من ليس مع اميركا عدواً للديموقراطية، الى توقيعه قرار الكونغرس الذي اعتبر القدس الموحدة عاصمة لاسرائيل، ونقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس، علماً ان هذا القرار اتخذه الكونغرس في السنة .1995 لم يوقّع الرئيس بيل كلينتون على هذا القرار، بل تم حفظه بالارشيف.
مع تصاعد قوة ونفوذ الولايات المتحدة، ومع زيادة وزنها الاقتصادي والسياسي والعسكري، نشطت داخلها الحركة المسيحية الصهيونية ويبلغ عدد المنتمين إلى الكنائس الإنجيلية التي تعتقد بالمسيحية الصهيونية وضرورة قيام دويلة الكيان الصهيوني وبناء الهيكل تمهيدًا لعودة المسيح حوالي 77 مليون أمريكي ينتمون إلى 200 طائفة، وتمتلك هذه الاتجاهات في أمريكا العديد من قنوات التليفزيون حوالي 1400 محطة تليفزيون وإذاعة، وحوالي 4000 مقدم برامج، والعديد من الصحف ووكالات الأنباء، بل ومنهم العديد من الشخصيات الأمريكية البارزة، كان منهم الرئيس ريجان والقس سيجوارت والقس فالويل والقس بات روبرتسون، والعديد من أعضاء الكونجرس ودوائر النفوذ المالي والإعلامي والسياسي الأمريكي.
ويتأثر بهذا المذهب المجرم بوش الابن ووزير دفاعه رامسفيلد ووزير العدل أشكروفت، ويستطيع هؤلاء إقناع الـ 77 مليون من أتباعهم بأن دعم إلصهاينة واجب مسيحي، وكذلك يستطيعون إقناع عدد أكبر من غير أعضاء الكنائس الأصولية، أي أنهم عمليًا قادرون على خلق رأي عام واسع جدًا في أمريكا لتأييد دويلة الكيان الصهيوني ودعمها ناهيك عن النفوذ اليهودي التقليدي في الكونجرس والإعلام ودوائر المال. وعلى أي حال، فإن مجرد نظرة على المؤسسات التابعة للكنائس الإنجيلية التي تؤمن بالمسيحية الصهيونية يدّلنا إلى أي مدى وصل نفوذهم المالي السياسي والإعلامي في أمريكا، فهناك على سبيل المثال لا الحصر المصرف الأمريكي المسيحي من أجل إسرائيل، مؤتمر القيادة الوطنية المسيحية من أجل إسرائيل، منظمة جبل المعبد. وتبلغ هذه المنظمات في أمريكا عمومًا حوالي 250 منظمة تدير آلاف المصارف والصحف والمؤسسات المالية والإعلامية. وتبشر هذه المنظمات المسيحية بالعديد من المفاهيم داخل أمريكا وخارجها، فهي تؤمن بأن:
1- دعم اليهود هو التزام ديني ثابت وليس مجرد التزام سياسي متغير ومتحرك، كما تعتبر شرعية الدولة اليهودية مستمدة من التشريع الإلهي، وبالتالي اعتبار قيام الدولة تحقيقًا للنبوءات الدينية.
2- التشديد على أن أرض اليهود هي كل الأرض التي وعد الله بها إبراهيم وذريته، وبالتالي تشمل كل الأرض الموعودة من النيل إلى الفرات.
3- استمرار العمل بالشعار الذي يقول (إن الله يبارك إسرائيل ويلعن لاعنيها)، وبالتالي فإن دعم اليهود طريق إلى بركة الرب، بل إنه عندما يتناقض القرار الصهيوني مع مواثيق الشرعية الدولية أو القانون الدولي فإنه لا اعتبار لذلك، ويجب احترام القرار الصهيوني لأنه تعبير عن إرادة الرب، أما القوانين الدولية فإنها تعكس إرادة الإنسان، ومن الضروري احترام إرادة الرب إذا ما تناقضت مع إرادة الإنسان.
فهل يكون جورج بوش في حالة رؤيوية جعلته يعتقد ان عليه، هو وجميع “المولودين من جديد”، ان يتهيأوا للمعركة الحاسمة بين “الحق والباطل”، معركة “هِرمجدّون”؟
المصادر:-
د. جيروم شاهين
نبيل ابراهيم
المسيحية المتصهينة… اصولها و جذورها