لا يخفى على المطلع مدى أهمية ما تتمتع به اليمن من إمتياز جغرافي كبير بإطلالها من الجنوب على بحر العرب ومن ثم المحيط الهادي ومن الشرق البحر الأحمر . وبين فكي اليمن مضيق باب المندب الرابط بين المحيط الهندي وبحر العرب من جهه والبحر الأحمر ومضيق سيناء ثم البحر الابيض المتوسط شمالا من جهه اخرى ، وعليه فان هذا الامتياز الجيوسياسي جعل من اليمن في زمن من الازمان واحدة من اكبر المراكز التجارية العالمية وخاصة تجارة البخور الرائجة حينها بين الشرق وأوروبا ولكن ذاك الزمان تبدل وخفت بريقه بنزوح قبائل العرب شمالاً وأقامة مراكز تجارية برية وطرق للنقل تمر عبر العراق والشام وصولا الى بلاد الروم .
وما يهمنا البحث فيه هنا ليس حضارة وتاريخ اليمن القديم ولكن نرى ان الإحاطة بتقلبات الأحوال في التاريخ الحديث لليمن ما يرضي فضولنا المعرفي لتحليل الوضع الذي آل باليمن الى ما هي عليه الان .
بعد إنتهاء الحرب العالمية الاولى وسقوط الامبراطورية العثمانية التي كانت اليمن خاضعة لاحتلالها وتوقيع الاتفاقية الانجلو عثمانية قُسمت اليمن الى جنوبية وشمالية ، بقى الجنوب خاضعاً لسيطرة البريطانيين بينما حكمت المملكة المتوكلية الزيدية المذهب الشمال بقيادة الامام يحيى حميد الدين وخلفه ولده أحمد . أما في الجنوب فكان الحراك الثوري السري ضد الإنجليز مستمراً حتى تمكنت الجبهة القومية للتحرير من طرده عام ١٩٦٧ وتأسيس الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية بأفكارها الماركسية التي كان يتبناها قادة حرب التحرير وكان قحطان محمد الشعبي أول روؤساءها . أما شمال اليمن فقد أنتهى حكم اليمن الملكي المتوكلي بعد ثورة الضباط الأحرار فيها على الامام وتولي قائد الحرس الملكي عبد الله السلال رئاسة البلاد عام ١٩٦٢.
ومنذ سقوط الدولة العثمانية حتى عام ١٩٧٨ حينما تولى علي عبد الله صالح رئاسة جمهورية اليمن الشمالي مرت باليمن اهوال وخطوب وصراعات فكرية وسياسية أدت الى عمليات قتل واغتيال وتصفيات وحروب بين رجالاتها وسكانها في الشمال والجنوب لايسع المقام للخوض فيها هنا .
وعملياً فأن هناك دولتين حتى عام ١٩٩٠ الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية في الجنوب عاصمتها عدن ورئيسها علي سالم البيض وجمهورية اليمن العربية وعاصمتها صنعاء ورئيسها علي عبد صالح . وقع هذين الرئيسين إتفاقية الوحدة في ٢٢/٥/١٩٩٠ لإعلان الجمهورية العربية اليمنية وعاصمتها صنعاء .
ولكن في بداية عام ١٩٩٤ نشب الخلاف بين الشماليين والجنوبيين وأقتتل الطرفان لسبعة أشهر إضطر بعدها علي سالم البيض لتوقيع الصلح ثم اللجوء الى سلطنة عمان ، وحكم علي عبد صالح يمناً موحداً من الظاهر يرقد في عقول رجالات جنوبه رغبة الانفصال بينما يتشبث اهل شماله بفكرة اليمن الموحد .
وليس من الغريب القول أن كلا الفكرتين لهما من الروافد والموارد الخارجية ما يغذيهما وينفخ في جمرتيهما ليذكي بهما ما تطمح اليه القوى الكبرى وصراعاتها للسيطرة على مناطق العالم ذات التأثير والفاعلية .
ويحادد اليمن دولتين سلطنة عمان والمملكة السعودية وحالهم مستقراً مع العمانيين اما السعوديين فلم يكن الحال بالحسن والمستقر أبداً فقد إقتتل اهل الجنوب معهم وكذلك اهل الشمال أيام الامام يحيى وتحالف الجنوبيون والشماليين ضد عودهم السعوديين في بعض حروبهم .
يضاف الى كل ما ذكرناه أعلاه أن التوزيع الديمغرافي في اليمن يضفي صفة مهمة وذات تأثير مباشر في زعزة إستقرار أي منطقة من مناطق اليمن حيث يقطن المسلمون من الطائفة الزيدية وبكثافة عالية في المناطق الشمالية المحاددة للملكة السعودية بينما سكان الجنوب ى فغالبيتهم من أتباع المذهب الشافي السني ، وقد لعبت القوى العالمية على هذه الميزة لتتاجيج فكرة الصراع والانقسام بعد آفول نجم الماركسية والقومية والبعث بين سكانها ، فكان للصراع العقائدي الديني والقبلي ثمراته المبهرة لهذه القوى الكبرى لتستمر بتجديد فعاليتها في تمرير مشاريعها الهادفة الى ترسيخ مصالحها وتعزيزات قدراتها في أماكن التأثير والفعالية العالمية .
فبعد سقوط حكم صالح عام ٢٠١١ وحتى اليوم لم يستقر حال اليمن يوماً ، ولم تتوان أيً من الدول الكبرى بتوجيه عملاءها من الدول والقاده والشخصيات المؤثرة من تذكية النار الطائفية لاستهلاك ما تبقى من دماء اليمنيين ، فمعسكر أمريكا يحرض الجنوبين ويدعمهم ويصدر القرارات ويسجل نقاطاً خضراء في أجندته وأعداء أمريكا يحثون الخطى هم أيضاً لإثبات الوجود فيشدون من عضد الشماليين بالمال والسلاح والمشورة ، أما اليمنيون فأنهم يهرولون نحو الهاوية .