18 ديسمبر، 2024 11:00 م

كثيرة هي المصطلحات التي يتداولها النقاد في تدويناتهم عند مطالعتهم للنصوص وأنطباعاتهم عنها ولا أقول في نقدهم لها لأن أغلبهم عازفون عن الآثار النقدية العربية وينظرون للنص الأدبي العربي وفق أطر ومقاسات مستوردة وكأنه مترجم عن لغة أخرى فمقاسات الرؤى التي يستخدمونها هي في الأصل لنقاد غربيين ربما لم يقرأوا أدب العروبة ولم يطلعوا عليه فلا يليق بنا حتى لو تيسر لنا أن نطبق نظرياتهم النقدية على (نصنا العربي) وهي نتاج أدبهم .. وان كان نصنا الأدبي كما يزعم البعض هو الآخر قد كتب على طريقتهم وأعني بذلك (النص النثري) الذي يدعون بأنه دخل الى رياض أدبنا العربي وتدلت ثماره متأخرا وأنا في هذا لمختلف معهم جدا لأن الواقع يشير الى ان النص النثري قد ولد ونما وقطفت ثماره في بلاد الرافدين فهو من نتاجنا الحضاري ولسنا من مستورديه أوالمقلدين فيه لذلك نرى وفرة التناصات مع الموروث حتى تكاد أن لاتمسك حيث أن هناك خلايا مجهرية فاعلة متداخلة فيما بين (النص الحداثوي ) وتلك النصوص التى عثر عليها مدونة على الألواح الطينية التي استخلصتها لنا حملات الأستكشافات الأثرية في بلاد مابين النهرين (بلاد سومر وأكد وبابل وآشور) ومقارنة لقراءة أولية لتلك النصوص وبين نصوص المجموعة الشعرية للشاعر عبد الزهرة زكي (اليد تكتشف) سنرى بوضوح لايداخله الشك ان النص المسمى عندنا بالحداثوي أو(الشعر النثري) ماهو الا أمتداد طبيعي لأرث أدبي كبير كان قائما وما قصيدة النثر الا وليد شرعي لذلك الأرث المتألق فجاءت (قصائد النثر) أكثر شاعرية ودفقا في الحياة عالميا من النص الفراهيدي (العمود الشعري) حيث أن النص النثري يبقى محتفظا برشاقته وقوة بيانه وتألقه عند ترجمته الى اللغات الحية الأخرى بينما نرى قرينه (النص الفراهيدي) عند ترجمته يفقد ثلاث مثابات مهمة مهما بلغت ترجمته من الدقة والحرفية فلابد من سقوط الوزن عن النص المترجم أولا وأختلاف المعنى ثانيا وأرتباك الصورة ثالثا فماذا تبقى للنص أذن ، بيـــد أننا نتلمس في ( اليد تكتشف ) نبض الحياة مستمرا وكأن عبد الزهرة زكي قد حمل عدته لينقب عما غرب عنا باحثا عن ضالته عبر مسامات دقيقة تتلاقح من خلالها رؤى الواقع بأدق تفاصيله بكينونة آداب ماقبل تدوين التأريخ في بلاد النهرين ..

*

أقدم لك بخورا زكي الرائحة

لقد صنعت لك خمرا من نبيذ العسل

أرحمني وأصغ الى صراخي …

تقبل تنهداتي ، وأقبل تضرعاتي

وليكن صوتي مقبولا عندك ..

ترفق بي فأنا أخاف منك ………….. ( نص من المزامير البابلية)

*

تحت الأيقونة الكونية

يقف الخدم الجياع دون أن يتضوروا

انهم هادئون ، بلا ريب ، مطمئنون

يمعنان الكراهية للأيقونة التي

لم تصدعها

ضحكات المجانين العابرين الى هوتهم …………………(اليد تكتشف/ ايقونة سوداء ص29)

لقد دخل عبدالزهره زكي في (اليد تكتشف) كينونة الذات العام من خلال فتحه لخزائن الميراث السومري والبابلي المقفلة بالتشفير فأمسك ضالته مستغلا غباء الرقيب بذاكرة تتقن فن الخدعة الأدبية ولكنها واضحة لمن يجيد القراءة المشاكسة للنص .

*

نحفر في حجر

ونبدد في ظلمته

اكتمال الضوء مع اللذة …!

حيث لم يتبق من التشويه سوى جرأته

ومنا سوى أيماءة

تحرس حياة ناقصة …

على أكداس من تركات ……………………….( اليد تكتشف/ تشويه اللذة ص 26)

تكاد أن لاتستطيع ايجاد فارق زمني بين النصين فكلاهما من جنس واحد وأتجاه واحد في معالجة الواقع والأشارة اليه بحملهما للهم البشري المشترك والذي لايزال قائما .

*

كي أرى النور

غضب الأله والناس أنصب علي

أحلامي جائرة ورؤياي شريرة

شؤمي وتفاؤلي مضطربان

هناك الــه يريدني لأنني كنت خائفا

من فكرة الحرب في أروك …………….. ( المزامير البابلية / أنكيدو )

النصان رافدان يلتقيان في مصب واحد يدعى (الهم الأنساني) الذي لاتحده حدود أو زمن ما فجاء نص (عبد الزهره زكي) متداخلا مع خلايا المزامير البابلية قبل أكثر من ستة آلآف سنة ، وأعتقد ان ذلك لم يتأت للشاعرالا من خلال دراسة واعية لتلك النصوص أو ان الجينات الوراثية قد فعلت فعلها في هكذا عطاء فالذاكرة السومرية لازالت محط أعجاب العالم وكل أمة تتمنى أن يكون لها منها نصيب وهذا ماتحقق لها أخيرا عبر مشروع هجرة خلايا الأبداع العراقي نحو الدول الأوربية وغيرها ، وحيث لم يبق الا الهشيم يصرخ الشاعر مخاطبا الناس ليوقضهم من سبة الذلة والمهانة :

*

في قوة الظلام

الليل يفضح الأسرار

من كان يجرؤ على مثل هذا البوح ..؟

أموات يجرجرون حرياتهم ….

في العارض من القول

نصادف ماهو جدير بوهم أبدي ………………………(اليد تكتشف/آثار الجوع/ ص51)

*

جلدني بالسوط ولم يكن لجلده نهاية

وضربني بعصا وكان رأسها مدببا

طيلة النهار كان الظالم يطاردني

وعند حلول الليل لم يتركني لحظة لأتنفس

لقد حطم القلق أعصابي

وأنهارت قواي ….

لفد تحول بيتي الى سجن

وفي العراقيل ثبتت قدماي …………………………… ( نص بابلي / تاريخ الديانات )

في كلا النصين الأدبيين دعوة الى الثورة في رفض واضح لحالة التردي والحرمان واليأس التي يعانيها الأنسان المستلب الأرادة لأسره بأغلال العبودية للسلطان قهرا ، فلقد قسم شاعر (اليد تكتشف) مجتمعه الى قسمين أمتدادا لتلك العصور الخوالي فجعلهم أحرارا وعبيدا ، المطرقة والجلادون على العبيد والموت للداعين الى الأنعتاق أو التغني بفجر يوم مشرق جديد قد يلوح في أفقهم ذات يوم .

*

المطرقة

أو المسدس …. كلاهما

دون أن يلتمسا معذرة

فـم يسـهب ………………….( اليد تكتشف/ جنائن الفراغ/ ص10)

هنا أبتعد الشاعر كثيرا عن الأدب الهيروغليفي فتحدث بلسان عربي فصيح عن مأساة عصره الذي تسيدت فيه شريعة الغاب وأمتهن الجلادون فيه السادية سبيلا للأستئثار بالسلطة فعاثوا في الأرض فسادا ولم يترك الشاعر في قوسه منزع وهو ينقب في خارطة الجسد الممزق موثقا لأحدى جراحاته :

*

أجل أشتبه عليها جوعها ….

اشتبهت عليها الطرق

وهي تصفـد بشهواتها

موجة ، وتستنهض بالعواء أخرى

تسيل أظفارها

وتنادي اليها الأضغاث

حيث بطلانها

يثقل على حرارة الوردة الميتة بين النهدين

يا للجوع … أثمة ماتضمره النار اذا ..؟ ………….( اليد تكتشف/آثار الجوع/ ص51)

هكذا هي أغلب نصوص المجوعة الشعرية الصادرة عام 1993 عن دار الشوؤن الثقافية .. فياعجبي ، وانها لدالة على غباء شرطة أعلام السلطة .. عسس الأدانة للحرف الواعد آنذاك وأني لفي شوق في اللحظة هذه لمطالعة الدراسة التي كتبها الشاعرالناقد حاتم محمد الصكر عن المجموعة لكي أعرف عن ماذا كتب الناقد الصكر ، وماذا هيأت له مجساته النقدية عند قراءته المبكرة لمجموعة الشاعر عبد الزهرة زكي (اليد تكتشف) وهو الناقد الذي يقرأ ماوراء السطور وهو الآخر الذي ماأزالُ أتذكر للآن وأكاد أشمُ رحيق مجموعته الشعرية ذات الست عشرة قصيدة ( طرقات بين الطفولة والبحر ) الصادرة عام 1980 والتي هي الأخرى لاتقل أهميةً عن مجموعة الشاعر عبد الزهرة زكي(اليد تكتشف) ولكنها على منحى آخر.. حَريٌّ بالدارسين والباحثين في أدبنا الحديث الأنتباهةُ لها ولقريناتها من المجاميع الشعرية التي لابد من نفض الغبار عنها بالأشارة الى بؤر الأشعاع فيها ليطلع عليها وسطُنا الثقافيُ والعامةُ حتى لاتندثرَ مثلما إندثرت معالم أُخرى كانت شاخصة للعيان ذاتَ يوم فلابد لنا والحالُ هذه أن نستصرخ بقايا بعضنا البعض لكي نعيد الحياةَ اليها بالبحثِ والدراسةِ وتعميمَ المعلومةِ وما تلك إلا من بعض الواجبات التي أراها مُلقاةً كالذمة على عاتقِ الأُدباءِ الحقيقيينَ اليوم لا

الأدعياء .. فهل من سامعٍ للقولِ ومُحَكِمٍ للبصيرةِ ، عسى أن نكون جميعاً عند مستوى الطموح والمسؤوليةِ بضميرٍ إنسانيٍ متجرد ولنرتقي بذاتنا لنسموَ فوق الميولِ والأتجاهات فالأدباء والمفكرونَ هم دائماً في طليعة الرَكْبِ أدلاءٌ للعامةِ في حالكِ الليالي الى خيوط الشمس .. وشاهدُ الإثباتِ هو ماتعرضتُ إليه عند قراءآتي للمجموعة الشعرية (اليد تكتشف) وإني لَمُتَطَلِع عسىَ أن أعثر عما كتبه الشاعر الناقد حاتم الصكر في قراءته النقدية وما أكتشفه من مدونات نجهلها قد خُطت على يد عبدالزهرة زكي ، فنقد النص الأدبي أو التعرض له ثابتٌ ودالةٌ عليه بالإيجابيةِ أوالسلبيةِ لاضير في ذلك المهم أن نتناول الأدب بمداد الأدب فكم من غثٍ قالوا عنهُ سميناً وكم من سمينٍ قد أصبحَ غثاً .. فكلنا تَبعٌ للأهواءِ والمصالحِ لذلك ترانا نتقدمُ خطوةً ونتراجعُ أميالاً والعالم قد سبقنا في كل شيء فلنتدبرْ قبل أن يأخذنا الطوفانُ لتمزقنا أسماك القرشِ أوصالاً ..وهنا لابد لي من العودة ثانية الى عالم عبد الزهرة زكي الشاعري فمن خلال مطالعتي المتأنية لمجموعته خلصت الى ضرورة الأبتعاد عن ضبابية النص غاية في الأقتراب من مدارك القاريء ( المتلقي ) لا أن نعتم عليه النص أو أن نحجمه في مساحة قد لايستطيع العبور منها نحو الأخرى التي نريد وأعتقد أن ماذهبت اليه وجدته جليا في (اليد تكتشف) فشاعرها كان موفقا في أستخدام الرمزالذي أعتمده في زمن الموت السبيل والقتل على الضنة فجاد لنا بأدب وثائقي واقعي يعتمد حدس المتلقي في أدراك المعنى الذى قصده الشاعر عبر بناءه المحكم لنصه المتمرد في زمن التملق والزلفى ..

*

ولهذا :

يبقى الخدم الجياع

للحرية افتراضا آخر

يبغون للحياة ترجمة أخرى …………….. ( اليد تكتشف )

لقد قرأنا عن شعر النثر وأتكأنا على ماكتبه الأدباء والنقاد الغربيين عنه أمثال سوزان بيرنار وغيرها مستسلمين لأملاآتهم وحري بنا أن نجد الخطى واثقة لأثبات حقنا فيه لأن مسقط رأسه كان في بلاد الرافدين ولاتزال بلادنا للآن حاضنة الأبداع فيه من خلال ترجمة النصوص الشعرية ومقارنتها بالأصل البابلي ، السومري ، الآشوري وغيرها ففي ذلك البينة الجلية والحجة الدامغة التي لاتحتاج الى أي برهان آخر .

*

في كل هذه الأخيلة

يتسور الطوق بأنغلاقه

فيما تتسور الحرية بصلبانها ……..

&

حقل من النكران

غامض مستقبله

دون أن تستره الوعود ………….

&

والآن :

في أثرة صانعي الأقفال

فأنني أتحدث عن الأمكنة ..

وأتذكر الأقفاص ……………………….( اليد تكتشف/ ترجمة ص59)

وبهذا نترك الشاعر متحدثا عن سنوات الأنغلاق بتشفير أدبي رائع يقترب كثيرا من مجسات المتلقي وينأى في أحايين عن المباشرة حتى لايقع في المحظور، بيد أنه أعطانا

مفاتيح الدخول الى عوالم الشعراء الذين ترجموا لواعج الحزن العراقي فرائد من الشعر ولكن أكثرنا قد جُبلَ على حب الذات وألغاء الآخر .. فلعلنا نتعض من أمسنا المحموم وواقعنا الواهن المليء بالأدران وننتبه الا أن حياتنا لاتستقيم الا بالثقافة عنوانا والأدب صولجانا ف ـ الشعب لايعيش بالرغيف وحده ـ فلقد مضت تلك السنون وبقيت قصائد الشاعر في( اليد تكتشف ) وثيقة من وثائق الأدانة لذلك العصر ولعلها ستدين عصورا أخرى … فأنها نصوصا ليست منغلقة على نفسها بل منفتحة عبر نوافذها المشرعة نحو آفاق بعيدة لكنها قريبة منا جدا ، فلننظر نحو تلك الآفاق لعلنا نكتشف أشياء أخرى .