( بدل من ان تلعن الظلام .. أشعل شمعة ) الحكيم الصيني كنفوشيوس
وسط العاصفة التي تضرب انحاء العراق حاليا محدثة فوضى ربما هي الاوسع نطاقا والاشد فتكا بالعراقيين منذ سقوط حكم العفالقة في 2003 صدرت ولا زالت العديد ردود الافعال والكثير من التصريحات والاقوال من الداخل والخارج ، وكالعادة كان للقادة الدينين والكتل واعضائها من السياسيين مواقف واضحة وصريحة تعبر عن وجهة نظر كل جهة تجاه الاحداث الجارية المتصاعدة بدءا من الاسباب التي أدت الى الاضطرابات مرورا بالنتائج وصولا الى آليات معالجة الازمة ..
وربما لا اغالي بل وقد يتفق معي الكثيرين ان اغلب المواقف والتصريحات كانت تصب في خانة ردود الافعال فقط ولم أجد في كل تلك الجعجعات المتعددة ما يشكل نقطة نقف عندها قليلا لنجد الخطة او الآلية التي تضمن للعراقيين حلا ناجعا للغدد الخبيثة التي انتشرت بصورة مكثفة وخطيرة مهددة وحدة العراق وأمنه وسائرة به نحو الهاوية التي طالما حاول العقلاء ان يبعدوا البلاد والعباد عن التوغل لنهاياتها المفجعة والقاتلة .
ولكن استوقفني كما استوقف غيري الكثير من العراقيين الذين يهمهم مصلحة بلدهم اولا وأخيرا خطابي الاعتدال والبناء والعلاج الذان خطتهما يراع المرجع محمد اليعقوبي واللذان صدرا اولها بعد سقوط الموصل بيد التتار الدواعش والاخر بعد اعلان المحكمة الاتحادية المصادقة على نتائج الانتخابات وذلك لما حفل بهما الخطابين من خطط جاهزة وآليات عملية لتجاوز وانهاء خطر الهجمة التكفيرية على المدى القريب والبعيد اولا وثانيا ايجاد موقف وطني موحد بين القوميات والطوائف المشاركة بالعملية السياسية من اجل حلحلة جميع المشاكل العالقة والبدء بصفحة جديدة من الشراكة الفاعلة والبناءة بين العراقيين جميعا بمختلف مكوناتهم الاجتماعية .
المرجع اليعقوبي في خطابه الاول والثاني وضع اصبعه على الجرح ليشخص الاسباب ويحدد ارهاصات الوضع الخطير ليضع بعد ذلك الوصفة الكفيلة للمواجهة والمعالجة في آن واحد ، ففي خطابه المعنون (رب ضارة نافعة ..سقوط الموصل ) يستعرض في مقدمة الخطاب الوضع العام أثر التأزم الامني الاخير ويبين أن الضحية الاول والاخير هو الشعب العراقي الذي ( يعاني من الازمة تلو الازمة ) ويؤشر المرجع اليعقوبي على بعض تلك الازمات الكثير التي تشهدها البلاد ( نقص الخدمات ، تعطل المشاريع التنمية التي تستثمر موارد العراق البشرية والاقتصادية ، الصراعات السياسية ، الاستبداد والاستئثار ، هدر المال العام ، التدهور الامني ) ، بعد ذلك يبين المرجع اليعقوبي ما آل اليه الوضع في الموصل وسيطرة العصابات التكفيرية ويبين الطبيعة العدوانية لتلك الجماعات المنحرفة بقوله ( حتى تمكن نفر “ضال همجي وحشي ” من بسط سيطرتهم على مدننا الحبيبة العزيزة على قلوبنا كالموصل وبعض نواحي كركوك وصلاح الدين وغيرها) ويستدرك سماحته لبيان النتائج الخطيرة والمأساوية التي ترتبت على ذلك الاحتلال الهمجي للدواعش من خلال التشخيص الدقيق بقوله ( فأحتلوا مؤسسات الدولة وأرعبوا اهلها وهجروهم بحيث لا يعلمون أين يذهبون فازدادوا بلاء الى بلائهم ومعاناة الى معاناتهم) ، اذن بهذه الروح الابوية للمرجعية الدينية الشريفة يؤسس اتباع مدرسة اهل البيت وعلماء المذهب الشريف دروساً في كيفية النظر الى الاحداث بعيدا عن بعض التفاصيل المؤدلجة والتي تحاول التركيز على الجزئيات والتغافل عن الادهى والامر بالنسبة للمواطنين ، فالموصل التي يصل عدد نفوس سكانها (4) ملايين نسمة والتي تعد ثاني اكبر المدن بعد العاصمة بغداد وقعت فريسة لجلاد لا يرحم ومتخلف وهمجي ، تلك المدينة الرحبة والتي تضم في نسيجها الاجتماعي اغلب مكونات الشعب العراقي فعلى الصعيد الديني يوجد ( المسلمون (سنة وشيعة )– المسيح (طوائف متعددة) – الايزدية ) وعلى الصعيد القومي هنالك ( الاكراد – التركمان – العرب – الاكراد – الشبك ) تحولت الى مسلخ وخراب يعيث فيه المرتزقة الوهابيين ومن التحق بهم من البعثيين وغيرهم من الجهلة والحاقدين ،واسفر عن تلك الهجمة البربرية الداعشية هجرة اكثر من مليون موصلي وقتل المئات من المدنيين والعسكريين وحتى ائمة الجوامع السنية لم يسلموا من غيل وبطش التكفيريين حيث تمت تصفية خمسة من علماء السنة في الموصل في نهار واحد لرفضهم قراءة بيان حكومة الدواعش الجاهلية .
وبالعودة الى الخطاب الذي اصدره المرجع اليعقوبي بعد احداث الموصل بيومين نجد ان المرجعية الرشيدة حددت ايضا اسباب التدهور العام الذي تشهده البلاد وتمر به العباد على جميع الاصعدة والذي يحدده سماحة المرجع اليعقوبي بـتشخيص واضح ودقيق ( ولا تعالج مشاكله ( الشعب العراقي) بالحلول الناجعة وإنما بالترحيل والهروب الى الامام واستحداث مشاكل جديدة أفضع من سابقاتها) ,هنا نقف باجلال واكبار لهذا التعبير والتشخيص الدقيق للمشكلة العراقية والتي أصلها ومنبت جذورها هم السياسيين الذي فشلوا في معالجة الازمات المتلاحقة والمشاكل المستفحلة وزادوا فشلهم فشلا اكبر في تجاوزهم للحلول وعدم التفكير الجدي بها والالتفاف عليها والهروب منها من خلال خلق المشاكل والازمات بصورة شبه دائمة من اجل اشغال الشعب بمشاكل أكبر وأزمات اكثر .
ثم يشير سماحة المرجع اليعقوبي الى ان اسباب الانهيار ومكامن الخلل فيه عبر تحليل واضح يتلخص بـ ( الانهيار ليس وليد الساعة ، العدو ليس اكثر قوة ولا امكانية ولا شجاعة ولا عقيدة من افراد قواتنا المسلحة المعروفين بالتضحية والتفاني من اجل الدين والوطن ) ويعبر سماحته من خلال هذه العبارات عن ثقة المرجعية وزرع تلك الثقة ونشرها في صفوف المجتمع اتجاه قواتنا المسلحة بمختلف صنوفها ويعزز المرجع اليعقوبي تلك الاشادة بالقوات الامنية العراقية باستعراض لبعض مواقفهم ومشاهدهم البطولية بقوله ( اليسوا هم من يحتضن الانتحاريين العفنين ويتفجرون معهم وتتناثر أجسادهم ليحموا الاخرين من هذه الوحوش) وبذلك يصل المرجع اليعقوبي بخصوص افراد ومنتسبي قواتنا المسلحة الى نتيجة مفادها ( ليس عن ابطالنا تقصير) ثم يبين سماحته جهات القصور في الازمة الاخيرة والاخطاء المتراكمة التي أدت الى اندلاعها بقوله ( وانما حصل الذي حصل ) لـ :
( 1- تخلي اغلب الكتل السياسية الحاكمة وغير الحاكمة عن اخلاقيات المهنة والشعور بمسؤولية المواقع التي ائتمنهم الشعب عليها ، 2-عدم مهنية واخلاص الكثير من القادة العسكريين ).
وربما لا يحتاج كلام المرجع اليعقوبي الى مصاديق لأن الشواهد غنية على التقصير والقصور الذي يتميز به السياسيين على صعيد روح المسؤولية ويتجسد ذلك بوضوح من خلال التنافس المحموم على السلطة والتسقيط السياسي المتبادل بصورة مستمرة والتحريض الطائفي الذي لم ينقطع سواء من خلال التصريحات الاعلامية من على شاشات الفضائيات وغيرها من وسائل الاعلام او منصات الاحتجاج التي نصبت في بعض المناطق السنية بالاضافة الى كل ذلك فأن سقوط الموصل وحده وهروب واستسلام وتسليم القيادات المرابطة قبل السقوط لكامل عدتها وعددها للقوى التكفيرية خير دليل على التورط الكبير والفساد المنتشر في صفوف القيادات العسكرية خصوصا ان اغلب تلك القيادات تسلمت مواقع المسؤولية آنذاك دون استحقاق ومن بوابة المصالح السياسية والاستحقاقات الحزبية التسلطية .
آلاليات الاستراتيجية لحل المشاكل والازمات في العراق
بعد ذلك يصل المرجع اليعقوبي الى علاج تلك الثغرات والمشاكل عبر آليات متعددة عسكرية واجتماعية وسياسية تشترط لتحققها ان يتحلى الجميع بروح المواطنة والشعور بالمسؤولية تنتج الثقة المتبادلة التي تترتب عليها آثار تسهم في القضاء على الارهاب بصورة نهائية والشروع بعملية بناءة وتنمية شاملة بمشاركة جميع العراقيين .
ويستهل المرجع اليعقوبي تلك الاليات بقوله ( ولا يمكن ان تحل المشاكل والعقد الا بحلول جذرية استراتيجية يطمئن اليها الشعب بكل مكوناته ويشعر أنه بأيدي أمينة ورؤوفة وكريمة شفيقة كفؤة قادرة على أداء المسؤوليات المكلفة بها ).
فعلى الصعيد السياسي يضع سماحته في خطابه الثاني والمعنون (لا بديل عن الحوار والقبول بالتنازلات العادلة) والذي اصدره سماحته تعقيبا على قرار المحكمة الاتحادية بالمصادقة على نتائج الانتخابات البرلمانية الاخيرة يشير الى اهمية تلك المصادقة وتوقيتها بالنسبة للوضع المتأزم في العراق وامكانية تحويلها الى منعطف تاريخي بقوله ( ان المصادقة على النتائج يمكن جعلها منعطفا تاريخيا في حياة العراق وشعبه ووجودهما بأن نجعل منهما تحولا في العملية السياسية فننقلها من حالة التشرذم والانقسام والصراع الى حالة الانسجام والشراكة الحقيقية والانصاف والمرؤة في نيل المواطنين بكل أديانهم وطوائفهم وقومياتهم وأجناسهم وايديولوجياتهم حقوقهم كاملة غير منقوصة على اساس المواطنة فقط دون ملاحظة اي اعتبار) وهكذا نجد المرجع اليعقوبي يشير وبوضوح للسياسيين الى العلاج الحقيقي والاستراتيجية الدائمة للقضاء على حالة الاحتراب السياسي المستمرة بين المكونات السياسية بمختلف اطيافها والتي طالما انتجت صراعا دمويا يكون دائما وابدا ضحيته الشعب العراقي المبتلى بصنوف البلاءات والمحن .
اما الاليات المناسبة لمعالجة مشاكل اختلافات السياسيين والتي طالما شكلت عائقا وحاجزا امام اي تطور ايجابي وبناء على هذا الصعيد فيحدد المرجع اليعقوبي مراحله كالأتي (بدء حوار شفاف بين الكتل السياسية الممثلة لفئات الشعب وفق الخارطة التي صودق عليها ، ان يقبل الجميع بكل ( التنازلات ) التي يتطلبها أنقاذ العراق وشعبه من محنتهما ، مهما كانت تلك التنازلات صعبة من وجهة نظر أصحابها ) وهذه النقطة المهمة والحساسة التي اثارها المرجع اليعقوبي ربما تكون حافزا لجميع الكتل للشروع في الحوار فيما لو تفهم بعض القادة وخصوصا المتصارعين حول مقاليد السلطة أن مصلحة العراق وشعبه ومستقبله وأمنه متوقف على الايثار والتضحية وان التعنت والتصلب والتشبث بكراسي السلطة لن تنتج سوى مزيدا من الدماء والقتل والضياع مع مراعاة ان تكون تلك التنازلات عادلة مراعية للاستحقاق الانتخابي وما تمخض عنه من نتائج للكتل السياسية .
بعد ذلك يستبق المرجع اليعقوبي الاشكالات او الاشكال ارئيسي الذي قد يطرح بشان الضمانات لتحقيق العدالة والانصاف التي يطالب بها الجميع ويتحدث عنها الجميع ويشترطها الجميع ايضا قبل الشروع بأي حوار ، فيحدد المرجع اليعقوبي ان الجهة الكفيلة برعاية هذا الحوار هي المرجعية الدينية التي تمتاز بأبويتها وحكمتها وشهورها العالي بمسؤليتها وثقة الجميع بها ، ثم يدعوا المرجع اليعقوبي الامم المتحدة الى المبادرة لبعثتها في العراق بالمشاركة البناءة لتحقيق مثل هذا الحوار وان يكون موقف البعثة استنادا الى الموضوعية والحيادية وان تسعى لاستغلال خبرتها في تعجيل انعقاد مثل هذا الحوار الذي يحذر المرجع اليعقوبي من أن نتائج تأخيره سوف تعني ( مزيدا من الدماء والخراب).
الحلول الآنية للأزمة الراهينة اجتماعيا وعسكريا
ثم يبين سماحة المرجع اليعقوبي بعد استعراضه للحلول الإستراتيجية اعلاه عدم امكانية المباشرة بها او الخوض فيها الان وان الواجب في هذه المرحلة ونظرا لما تشهده من احداث وهجمات وحشية ومنعطفات خطيرة على العراق وشعبه تستدعي حراكا عاجلا من قبل الجميع ، فعلى الصعيد الاجتماعي يتطلب ( تكاتف الجميع من علماء الدين والقادة السياسيين وزعماء العشائر وابناء الشعب كافة لطرد الهمج الرعاع واستئصال وجودهم الخبيث وحماية اهلنا ومدننا ومقدساتنا من غزو البرابرة)
ويعبر المرجع اليعقوبي عن اعتقاده بأن مثل هذا التكاتف سوف يكون بادرة عملية وحافزاً ناجحا للبدء بمرحلة جديدة من التلاحم والانسجام بين العراقيين بمختلف مكوناتهم يسوده ( الاخوة والشفافية والثقة المتبادلة ) وان النتيجة الحتمية لمثل هذا الترابط والتلاحم الوطني سوف يكون ( حل مشاكل البلاد وفك العقد المستعصية) .
اما على الصعيد الميداني العسكري فانه وبملاحظة ان الخطاب الذي صدر من المرجع اليعقوبي بعد سقوط الموصل بيومين وهو بذلك كان السباق في المبادرة للتصدي للازمة وكيفية مواجهة العصابات البربرية التكفيرية وقبل ان يطرح المرجع اليعقوبي فكرته يعبر عن تجديد ثقة المرجعية بقدرة قواتنا المسلحة على فرض الامن في ربوع العراق والقضاء على الزمر التكفيرية وكل من يريد النيل من امن العراق والعراقيين الا انه يؤكد ونظرا لحجم التحديات الكبيرة فأن المبادرة للمواجهة تكون عبر الدعوة الى تشكيل جيش رديف للقوات المسلحة يكون مساندا لها في عملياتها وفق الاليات التالية ( يكون له قادة مهنّيون وأفاء ، يزود بتجهيزات متطورة ، يحظى بتدريب عالٍ ) اما عن افراد ذلك الجيش الرديف فيحدد المرجع اليعقوبي فئاته بـ ( الشباب العقائديين المتحمسين للدفاع عن أهلهم ووطنهم ومقدساتهم ) وتكون اهداف ذلك التنظيم العسكري واهم واجباته ( حماية المراكز الحيوية ومشاركة القوات المسلحة في العمليات الساخنة ) ، اما نتائج استيعاب امثال هؤلاء الشباب الابطال في قواتنا المسلحة فهو بالاضافة الى الزخم الكبير المتوفر في نفوس اولئك الشباب التواق للدفاع عن وطنه وناسه ومقدساته سوف يكون احتواء هؤلاء الشباب وسحب البساط امام الجهات المجهولة القيادة والتنظيم التي تريد توظيف هؤلاء الشباب لاستراتيجيات خارج اطار الدولة وهذا الخطر الذي التفت اليه المرجع اليعقوبي نجد ان عدم الانتباه اليه او تجاهله ادى لما اشار اليه المرجع بعد ان تابعنا تشكيل العشرات من التجمعات والتنظيمات العسكرية من قبل جهات سياسية وعشائرية وغيرها في العديد من المدن بصورة فوضوية وبعيدا عن التنظيم والسيطرة ودون وجود اليات واهداف محددة لها .
وفي خطابه ( لا بديل عن الحوار والقبول بالتنازلات العادلة) يشير سماحة المرجع اليعقوبي محذرا جميع العراقيين بمختلف طبقاتهم وخصوصا السياسيين من الحرب الطائفية التي يلوح شبحها بوضوح في الافق وقد يتطور مسارها وحجمها لا سمح الله فيما لو اصر الجميع على مواقفهم ويبين ان الرابح الوحيد من تلك الحرب هم المتربصين بالعراق من اعداء وطامعين وان اجندتهم عبارة عن همج رعاع معادين للحياة والانسان بقوله ( ان حالة الاحتراب وتجييش كل فئة لشارعها لا يخدم أحداً من هذا البلد وهو يحقق مآرب اعداء العراق والطامعين فيه والساعين لتمزيقه واضعافه وقد أستخدمت التنظيمات الارهابية المعادية للحياة والانسانية كأداة لتنفيذ تلك الاجندات والسيناريوهات المؤلمة)
وهكذا يضع المرجع اليعقوبي الحلول امام طاولة كل وطني غيور على وحدة العراق وشعبه للمبادرة باخراج البلاد والعباد من نفق مظلم لن يوصلنا سوى الى طريق مسدود نهاياته عبارة عن حروب ومجازر وخراب وتقسيم لا ينفع سوى الاعداء ومشاريعهم ومخططاتهم الاستراتيجة الشيطانية .