17 نوفمبر، 2024 5:40 م
Search
Close this search box.

اليزابيث

جارتي اليزابيث البالغة من العمر 86 سنة عادة ما تمرّ مرتين أو أكثر أمام واجهة محل الحلاقة الذي أعمل فيه كي تنال شيئا من أشعة شمس الصباح التي تغمر الجانب الغربي من شارع 3 ستريت الواسع والضاج بحركة السيارات المسرعة حيث البلازا التي يقع المحل في منتصفها. ثم تدب إلى مسكنها الغارق في ظلال الأبنية الشاهقة على مبعدة حوالي 50 مترا إلى الخلف.
أو أحيانا أراها تعبر إلى الجهة الأخرى من الشارع حيث المطعم الصيني، ثم تعود متمايلة بعلبة طعام وهي تجرجر خطواتها القصيرة باتّجاه الشارع الفرعي الذي يقع مسكنها فيه. وفي بعض الأوقات تتوقف عند باب المحل لوقت قصير بقبعتها المكسيكية العريضة وعويناتها السميكة وثيابها الزاهية الألوان والصليب الخشبي المتدلي من سلسلة برقبتها متطلعة إلى الداخل ثم تفتح الباب لتجلس على أحد المقاعد بالقرب مني، باثةً لي همومها وأشجانها وهي تتحدث بالإنكليزية والأسبانية التي أعرف شيئا منها، وقبل أن تغادر ترسم علامة الصليب ثانية مردد بالأسبانية الله يحفظك أو يباركك “Dios te bendiga”، في البدء لم أكن أعرف معنى هذه الجملة ولا كيفية لفظها لكني تعلمتها من اليزابيث بعد أن سألتها عدة مرات في أوقات مختلفة عن معناها وكيفية لفظها، وحينما تتعب مني تكرر صيغتها الإنكليزية ” God bless you”، وتغادر.
إني أعرفها منذ أكثر من سنتين، أي منذ الأيام الأولى التي فتحت فيها محل الحلاقة الجديد هذا في المنطقة التي تسكن فيها، ولقد أخبرتني في إحدى زياراتها لي بأنها مكسيكية الأصل لكنها مولودة في أريزونا، وكان أبوها يعمل في أحد مناجم الذهب وأمها ربة بيت؛ امرأة جميلة شقراء بعينين زرقاوين وشكل جذاب، وإنها أي اليزابيث تزوجت في وقت مبكر من حياتها حيث كانت تعمل مدرسة وأنجبت ولدين وبنتين نادرا ما يزورنها.
إنها الآن تسكن مع رجل آخر؛ أميركي أبيض بجسد قصير وشعر بني سرح في السابعة والستين من العمر وبسلوك على شيء من الغرابة إذ أراه أحيانا حينما أقوم بنزهة التمشي شبه اليومية يصلح شاحنته الصغيرة في كراج البيت ويتحدث مع نفسه بصوت عال. قال لي ذات يوم بينما أقص شعره:” أعرف أن اليزابيث تزورك بين حين وآخر، أتمنى أنها لم تزعجك بأحاديثها”. قلت له:” لا، أبداً، أرى أنها لطيفة وودودة”. ثم أردف” إنها كانت جميلة جداً في شبابها وبقوى عقلية ممتازة، لكن وضعها الذهني تدهور خلال العشر سنوات الأخيرة فأخذت تتوهم أموراً لا حقيقة لها، كما أنها تحب أن تكدس في البيت أشياءً غير ضرورية ولا تحتاج إليها”. لقد التقى بها قبل حوالي أربعين سنة، ومازال يعيش على أطياف جمالها الغارب ومجد جاذبيتها السابقة.

في الأيام الأولى من معرفتي بها جاءت لتقول:” إن مجموعة من النساء جئن إليها هذا الصباح وأردن أن يحولن بيتها إلى “مبغى” كدت أنفجر من الضحك لكني كبحت جماح نفسي قائلا: اليزابيث أعتقد أن هذه فكرة جيدة لكون المنطقة التي نحن فيها تخلو من النساء الجميلات، إلا أنها انزعجت وغادرت معلقة عليّ أن لا أتحدث بهكذا أمور شريرة.
ثم بين فترة وأخرى تأتي لتقف قرب الباب وتقول مكررة الوهم نفسه إن آخرين كسروا أبواب بيتها وسرقوا أشياءها.
وقبل أيام جاءت لتقول:” هل بمقدورك أن تصلي معي كي يعاقب الله جاري ويبعده عني؟”. فقلت:” لماذا؟ وماذا فعل لك؟” قالت:” إنه يريد أن يأكلني حيّة؟” رددت: “لا يمكنه فعل ذلك، كيف يأكلك وأنت حية ولماذا؟” فأجابت: نعم يقطعني بالسكين ويتناولني، والسبب لأنني امرأة طاهرة عفيفة وأنتمي إلى الرب وهو مجرم قذر ويعبد الشيطان”.
وبالرغم من تقدمها بالسن كثيرا وان التجاعيد قد دمرت وجهها كله تقريبا وان ويديها معروقتان جدا وثمة شعرات شائبة تتناثر حول جانبي خديها وفي اسفل حنكها لكن حينما أتطلع إلى وجهها أرى بعض أطياف جمال تحوم حولها حيث تتوهج عيناها باللمعان حينما تتحدث، ومازالت تحتفظ بمعظم أسنانها الصغيرة، كما تحتفظ بشعرها الفضي، فضلا عن ذلك ان حضورها فيه شيء من الجدية أو الإجلال، لذا أحدث نفسي أحيانا حينما تجلس بالقرب قائلا: أولا من يعلم بأنك ستعيش لتصل عمرها؟ وثانيا من يضمن بأنك ستُبقي شكلا مقبولا نسبيا كما هي الآن؟ فلا تسخر منها رغم كل شيء واحترمها وقدرها وكن جادا معها، هذا من جانب ومن جانب آخر أنها بشخصية طيبة وكثيرا ما علمتني بعض المفردات والجمل الأسبانية التي أواظب على تعلمها منذ سنوات عديدة.
من المفردات الأسبانية التي علمتني إياها اليزابيث ” aunque برغم ذلك أو مع أن ” quizas ربما”،” you naci aqui أنا مولودة هنا”، ” amor حُب”،” gracias شكرا”، ” perdoname سامحني أو اغفر لي”. وذات مرة تعلمت جملة طويلة ركبت مفرداتها بصبر شيئا فشيئا خلال عدة أيام وأخبرتها بها وكانت بهذا الشكل:” رغم أنها جميلة ليس لدي رغبة في النوم معها لكونها فظةaunque ella es Hermosa no tengo deseo de dormir con ella porque ella es grosero. فاعترضت بقوة لتقول لا تستخدم هكذا مفردات لتضع الآخرين بمنزلة واطئة أو دنيا، فلزمت الصمت قبل أن تغادر هي منزعجة بعد وقت قصير.

وقبل حوالي أسابيع قليلة جاءت لتسألني أن أساعدها بحمل باب خشبي إلى بيتها كان مرميا قرب حاوية النفايات القريبة من بيتها، وبعد أن حملنا الباب ودخلنا البيت رأيت من الصعوبة الخطو في الداخل بسبب تكدّس الأشياء في كل الزوايا.
كانت ساحة البيت تعج بفوضى عارمة واليزابيث ترتدي أثوابا رثة تحتها أقمصة بياقات عريضة وقبعة مكسيكية برزت من تحتها خصلات شيباء نافرة، فضلا عن الصليب الخشبي الكبير. كانت ثمة قناني عصير فارغة وعلب حليب ورقية قديمة تتراكم على الطاولات المكسوة بالغبار والكراسي القديمة المتهالكة ومن الصعب تبين طريق إلى داخل غرفتها.

وبعد أن وضعنا الباب جانبا، قالت: لا تحزن كثيرا لكونك تعيش وحيدا في بلد غريب، أشعر بأن الله سيبعث لك المرأة الطيبة التي طالما حلمت بها قريبا، لكن لا ترتكب المزيد من الخطايا، عليك أن تنقّي قلبك وتعظ الناس بالإنكليزية، دعك عن اللغة العربية، كما دعك أيضا عن الأسبانية التي تريد أن تتعلمها، عليك أن تعظ بالإنكليزية التي تجيدها جيدا هل تفهم ذلك؟ رددت عليها ليس لدي شيء مهم كي أقدمه للآخرين وأرى أنا من يحتاج إلى الموعظة وليس العكس. قالت لماذا تشكك في قدراتك؟ لديك الكثير، لكنك لاتقنع وتطمح إلى المزيد. المهم أن لا تصمت، لديك رسالة في الحياة فلا تضيعها عبثا.
سألتها أي نوع من الرسائل؟ قالت لا أعرف لكن لا تبق صامتا. كنت ألبس نظارات شمسية، فقالت زل عن وجهك هذه، ثم قدمت لي زجاجة عصير لكني لم افتحها، قلت هل لديك صابون كي أغسلها فأخذت تتطلع بانزعاج لتقول: اغسلها بماء الحنفية، لا تكن وسواسيا. وضعت الزجاجة على جهة وعلقت بوقت آخر سأشربها. ثم قدمت لي ثمرة ليمون كبيرة. فشكرتها قائلا لا أتناول الليمون في الصباح.
قالت إذن انهض لأريك الفناء ومررنا عبر أغصان الأشجار المتداخلة التي تخللتها أشعة الشمس، ثمة الكثير من المزهريات بألوان مختلفة منها بورد ذابل ومنها بورد نضر. قادتني إلى الحديقة حيث باب خشبي أو شباك يتكون من عدة ألواح مربعة صغيرة علقت على جانبيه وردتان بلاستيكتان رُكن إلى السياج قرب شجرة نخل مكسيكية تنتصب عاليا تكاثفت حولها الأحراش، قالت التفت وضع يديك على الشباك ففعلت ما سألتني إياه، ووقفت خلفي وراحت تردد بعض الصلوات ومقاطع من الإنجيل بالأسبانية والإنكليزية وهي تمسك بظهري وكتفي. بعدها علقت: التفت نحوي الآن، وبعد أن فعلت لمست رأسي وجبهتي، كنت انظر جانبا متقصدا عدم التطلع في وجهها، فعلّقت لا تزع ببصرك عني، انظر في وجهي فنظرت، كانت بوجه محطم منفّر، عينان بنيتان متلامعتان قليلا غائرتين في محجريهما ووجه خدّدت التجاعيد كل زاوية فيه وتهدلت أوتار رقبتها متدلية إلى أسفل.

أمضيت حوالي نصف ساعة في بيتها، وكان عليّ أن أعود إلى عملي لكنها كانت تصر على أن أبقى معها أكثر، وكنت كلما أردت أن أغادر تمسكني قائلة انتظر دقيقة أخرى، لكني في النهاية اعتذرت وخطوت نحو الخارج وتبعتني لتعلق بأنها لا تدع أحدا بطاقة روحية غير نقية يدخل بيتها سواي، ثم أردفت بينما أخرج من الباب” عليك أن تكون مرنا ومتسامحا أكثر مع نفسك أولا ثم مع الآخرين، وتبارك الذين أهانوك، ألم يقل المسيح اغفروا حتى لأعدائكم”.
بعد ثلاثة أيام من ذلك اللقاء، وتحديدا بين الثانية والثالثة من الظهر بينما كانت اليزابيث عائدة من المطعم الصيني وهي تحمل بيدها علبة طعام صغيرة صدمتها سيارة وتجمع الناس حولها. ارتبكت كثيراً وحزنت بعمق بعد أن عرفت بالحادث عقب دقائق قليلة، ركضت مسرعا إلى المكان والحزن يعصرني عصرا؛ السيارة التي صدمتها وقفت في جانب الشارع بينما سائقتها الفزعة تقف قرب اليزابيث التي كانت تتمدد بسلام دون أي حركة، انقطعت سلسلة الصليب الذي تهشم بجانبها وارتمت قبعتها وعلبة الطعام إلى الخلف من رأسها، وشكّل الشارع العام الذي تمدد جسدها في منتصفه مع الشارع الفرعي المفضي إلى بيتها صليبا حمل جسدها العجوز بذراعيه المفتوحتين على اتساعهما وساقيها الملمومتين بالبنطال الزهري المكوي حديثا.

لقد ماتت في الحال ثم قدمت سيارة إسعاف ونزل منها بضعة رجال ووضعوها فوق نقالة وحمولها إلى داخل السيارة وانطلقوا بها إلى المستشفى القريب. بكيت وأنا انظر بذهول لبعض الوقت إلى وجه اليزابيث المسالم قبل أن تأتي الشرطة وتضع شريطا أصفر وتغلق الشوارع المحيطة بمكان الحادث وتحقق في الموضوع. وهكذا افتقدت صديقة كانت تزورني وتدعو الله أن يحفظني ويبارك بي وتعلمني الأسبانية، وأحيانا تبحر بعيدا بحكاياتها المسلّية المتأرجحة بين الواقع والمتخيل كما يفعل الكتاب المبدعون أغلب الأحيان.

أحدث المقالات