23 ديسمبر، 2024 4:46 ص

اليابانيون وطريقة اتصالهم بأحبائم الأموات

اليابانيون وطريقة اتصالهم بأحبائم الأموات

ننظر لليابانيين على انهم سكان كوكب مستقل بذاته ، نتعجب من تقدمهم العلمي والتكنولوجي الرائد في العالم ، نستغرب من أدبهم الجم وأحترام الغير ، انها تلك الأنحناءة المشهورة للغرباء ، ذلك البلد الذي مرّ بأسوأ كارثة مرّ بها  بلد ما ، انها الأعتداء النووي الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الثانية ، ولكن ما أن أنجلى (الغبار النووي) ، حتى بدأ البناء وتنظيف مخلفات الحرب ، فتحولت من قوة عسكرية ، الى قوة أقتصادية كبيرة ، وأكبر مصدّر للتكنولوجيا المتقدمة في العالم .
هؤلاء ، رغم تقدم وتعقّد صناعتهم المتقنة بشكل يدعو للذهول ، الا أنهم بسطاء ، فلا يجلسون الا على الأرض ، والزوج في بيته مقدس كما الزوجة ، انه التقليد الشرقي النمطي المختلف تماما عن الأوربي ، نتعجب من أخلاصهم ووطنيتهم ونزاهتهم ، خصوصا بعد سماعنا الكثير عن أزمة فوكوشيما وتداعياتها عام 2011  ، وقد تداولت وسائل الأعلام حادثة الخزانة المالية التي خرجت مع محتويات أحد المؤسسات من الأثاث بفعل الطين والمياه الى الشارع وهي مفتوحة ، وبداخلها ملايين الدولارات ، وكانت تلك المنطقة ذات تواجد كثيف لعمال الأنقاذ والمتطوعين لعدة أيام ، ثم جُرِدت هذه (القاصة) ، فلم يجدوا فيها نقصا ولا دولار واحد ! ، فتعجبنا من تلك الأمانة ، خصوصا وأن لدينا سياسيين يفترض بهم حمل أمانة البلد ، لكنهم أقل شرفا من قطّاع الطرق ! ، وكيف وقف طابور من كبار السن أمام مركز التطوّع ، للعمل الخطِر في منطقة ملوّثة أشعاعيا ، لأنهم عاشوا حياتهم ، وليفسحوا المجال أمام الشباب ، ليعيشوا حياتهم على حد زعمهم ، حتى شيوخهم ذوو عطاء وشعور بالمسؤولية  بشكل يدعو للحسد ! ، كل ذلك وشعب اليابان محسوب على الشعوب الوثنية !.
كلنا يتذكر الطيارين الأنتحاريين (الكاميكاز) ، تلك الشريحة المشهورة التي شدَخت أنف أمريكا نهاية الحرب العالمية الثانية ، فأنتحاريهم يقتل الغازي المحتل ، وهو معبأ بقيم الشرف والنبل والمواطنة ، وأنتحارينا ، فطيسة معبأة بالقاذورات ، مهمته استهداف الأبرياء الآمنين ، فقد عزمت أمريكا على غزو اليابان لكسر سيادتها وكرامتها ، وهي ستراتيجية أمريكية نمطية في التعامل مع الخصم المهزوم ، فمبدأ (العفو عند المقدرة) غائب تماما من أدبياتهم ، فكيف ذلك وأرض اليابان لم تطأها قدم غازٍ طيلة التاريخ؟ ، فكان الطيار الياباني ، يصدم طائرته المحملة بالذخيرة جوا بقاصفة أمريكية ، أو يدخل مدخنة مدمّرة بحرية ، فيزيلها من الوجود ، أنه شرف (الساموراي) الشهير ، حيث لا تُعد الحياة شيئا أزاء الكرامة .

ولكن ثمة ما يقهر هذا الشعب ، انه الموت ، وسبحان مَنْ قهر عباده بالموت ، ذلك اللغز الأكبر الذي واجه البشرية ، انه اليقين الناصع الوحيد في هذه الحياة ، انه النهاية الغامضة السائبة والحتمية التي سنسلكها جميعا ، فقد تعلّمنا أن الموت حق وناموس طبيعي ، تُرى كيف سيكون حال البشرية لو لم تضع في حسبانها هذه الحتمية الأكيدة ؟ !.
قناة NHK  اليابانية ، بثت تقريرا عن طريقة لأتصال اليابانيين بأحبائهم الأموات ، طريقة بعيدة جدا عن الدجل وطقوس تحضير الأرواح ، أنه كشك هاتف تقليدي بسيط وأنيق ومتواضع ، نُصب وسط ساحة واسعة في قرية كانت قد نُكبت في تسونامي عام 2011  في شرق اليابان فقتل المئات ، يذكرنا الموقع بالوحدة والفراغ الذي لا يمكن ملؤه ، ذلك الذي نرثه بعد موت حبيب ، هذا الكشك كشف لنا قوة الأرتباط العائلي بين اليابانيين ، وكيف أنهم لاينسون أحبائهم ، فهم لا يستخدمون الجوال ، ولا الحاسب اللوحي ولا تقنيات الأقمار الصناعية التي طالما برعوا بها ، وما دام الموت قانون وناموس وطبيعة ، فلم لا يكون الأتصال بالأموات بأبسط السبل ، وأكثرها عراقة ، انه هاتف يعود للقرن الماضي ، والفكرة كانت لأحد سكان القرية وقد فقد من أقاربه وأصدقائه ، فما كان عليه الا نصب هذا الهاتف ، ليكون متنفسا وعلاجا لخواء حياته من أحبائه ، فيدخل الكشك ، ويسترسل بالكلام باكيا ، وانتشرت الفكرة ، وصار كشك الهاتف هذا مزارا من جميع أنحاء اليابان ، يأمّه المفجوعون بأحبائم ومن فقد عزيزا له .
استرعى انتباهي ذلك الصبي المراهق الذي يهاتف والده المتوفى في (تسونامي) 2011 ، والذي كان يعمل سائق سيارة حمل ، فجرفه (التسونامي) ولم يُعثر على جثته ، فنراه يسترسل بالحديث الى أبيه قائلا (أبي ،انهم لا يتحدّثون عنك أمامي ، وباعتقادهم أن ذلك مراعاةً لشعوري ، وهذا يقتلني ، أبي ، لماذا أنت بالذات ، أشعر أني الفتى الأقل حظا في العالم ، ما الذي يحدث لي ، أين أنت ؟) ، شيخ يتحدّث الى حفيدته الميتة ويقول (كُلي جيدا ، تدفئي يا أبنتي ، لا أريدك أن تمرضي)! .
فتاة تتحدّث الى والدها ، وتذكُره أن يفي بوعده ويشتري لها (كمان) ، فتقول له (علمتنا أن تفي بكل وعودك ، لا يمكنك أن تموت ، لقد وعدتني بالكمان ، أنا أعلم أن وعودك أقوى من الموت) ! ، البعض يكتفي برفع السماعة ، وكأنه ينصت لشيء ما ، ثم يبكي ، الجميع يبكي وكأن لديهم القناعة ، أن الأرواح تنصت له ، أنه الجانب الدرامي من اليابان التي طالما بُهرنا بها ، لكنهم ابتكروا طريقة يمكن بها التخلص الى حد ما من وزر الحزن والفراغ ومئات الأسئلة ، وأن بقيت بلا جواب ، حقا أن الحزنَ لغةٌ عالمية ، لطالما جربناها !.