حين لفظت َأنفاسكَ وودعت الحياة التي تحب وتشتهي، َحملكَ مُحبوك وطلابك ورفاق دربك الطويل في ضمائرهم وقلوبهم قبل أكتافهم في موكب تشييع يليق بك ايها الكبير ..
وانتَ تنهي إطلالتكَ على الحياة التي وطأت غمارها قبل أثنين وثمانين عاما .. نكون قد فُجعنا بتوديع علم من أعلام الحياة الإنسانية والإبداعية والإخلاقية العراقية والعربية ..
هل سترقد محشورا في قبر يضيق بقامتك يا عاشق الحياة الأول !!؟
سوف تكون أمسيتك الأولى قي “مقبرة الحسن البصري” حافلة بالشعر وأسئلة الوجود وقلقها ، حيث سيُحييّ لكَ بدر بن السياب ومحمود البريكان صديقا عمرك ، اللذان سبقاك لكأس المنية، .. أمسية لتبديد وحشة الليلة الاولى .. وسنرفع نحن تلاميذك أنخابا من خمرة العيون و نبيذ القلب بصحتكم ..
هنيئا لك شيخنا الحسن البصري بمريدٍ عاشق كمحمود بن عبد الوهاب .
اليوم إنتهت قصة الحياة التي كافحتَ لتلسقها بكلّ مجدها وشقائها ، بخيرها وبقحطها ، بجمالها وتكشيرة أسنانها .. مضيت الى الضفة الاخرى من الزمن .. لكنك ستخلد هنا أبدا ….
خمسون عاما أنتظرتَ وأنتظرنا لنرى مجدك في ” رائحة الشتاء” .. كم كنت وفيا وأمنيا وقلقا على الأدب والقصة تحديدا لتصبر كلّ هذه السنين لولادة أبنك السردي البكر ..
أيها الفتى الذي أغتسل بماء الجمال سحرا وتمرأى بطين الجنوب قامة .. كنت حالما كبيرا وحكيما عتّقتَ الزمان في روحك َ لينضح قلمك ” رغوة السحاب” رواية …
أشمّكَ اليوم رائد حكواتيا متفردا تنحت القصة بأزميل روحك وطراوة موهبتك بدقة متناهية ..
سانتظر ” شعرية العمر” كتابك َ الذي سيصدر بعد أيام .. أنتظرك في رواية ” سيرة بحجم الكف” لارى كيف أختصرت فبل الموت ،سيرةً طويلة لحجم كف .. ربما ستكون نبؤة لحجم قبرك الآن ..
ها أنت تضع رأسكَ الجليل المتوقد جمالا وخيرا وأدبا داعيا دود الأرض لطبق شهي .. بعد أن كنت فاكهة الجلسات ونور القلوب ورائد الدرس وفارس القص!!!
أيّ شعورٍ يخالجني وأنا أرقب من بعيد بعيد نعشك المهيب وصورتك الكبيرة وحناجر الأصدقاء المتيبسة وعيونهم الدامية وهم يذهبون بك الى حيث تعلم ونعلم ..
أأتذكر نوادرك في مواقف مماثلة كنت فيها مشيعاً لاحبائك ؟؟ أأتذكر طاقتك الخلاقة لتحويل الحزن الى أسئلة مرحة ودعابات مرّة؟؟
لم يخبرني الأصدقاء عن أخر الكلمات التي نطقت بها قبل رحيلك ولكن الأكيد انك كنت ساخرا من هجوم الكبد والكلى على صفاء حياتك..
أعتقد أنك كنت تسخر من تجاعيد وجهكَ كما كان الشاعر الحطيئة يهجو وجهه .. وتقول في سرك :
أرى اليوم لي وجهاً فلله خلقه … فقبح من وجه وقبح حامله !!
حاشاك قبحا ولكنك ساخرا من كلّ شيء ولكن بمحبة عالية ..
، كما كنت ساخر يوم أُصيبت أختك الحبيبة ب” جلطة الدماغ” !!!
حزنيّ عليك أعمق من خيوط الشمس لأنك شعلة من حب ..
حزني عليك اليوم يتخطى مصيرك الوجودي الحتمي .. لأستشرف صومك عن الزواج وإنجاب ذرية بايولوجية فتزوجت الحياة وأخلصت لها أيما أخلاص وجنون معا .
لم تنقطع يا أبن عبد الوهاب عند ربك َ كما يقولون ، لستَ أبترا ولا أقطعا أبدا .. أنت الولود الولود حتى في موتكَ. .
كنت تلد كلّ يوم معنى وتزرع في كلّ قلب شهقة وفرحة . كانت سبورتكَ مديدة لولادة الأجيال .. يا أدم “البصرة ” ونوح” العشار”.
لا أرثيك أبدا لإنك َ حيّ في عمق شعورنا ..
لأ ابكيك لأن بحر دموع لا يوازي غيابك
سأدعو ظرفاء البصرة وكبيرهم كاظم الحجاج أن يحفظوا العهد ويصدروا كتابا عن نوادر محمود بن عبد الوهاب لانها شاهدة على تاريخ وأحداث وهي وثيقة لها وزنها التاريخي والإجتماعي . والجمالي .
أطلب من صنوك وتوأم روحكَ الكبير محمد خضير أن يشرف على” تراث محمود ومقتنياته وملابسه ومكتبته واقلامه وارشيفه وكل شوارده .. لتكون مادة اساسية عندما يتحول بيته الى متحف لاحقا .. “
محمود كنت كائنا استثنائيا بمرورك في هذه الحياة .. لنجعل من غيابكَ الطارىء وجودا يليق بكَ .
أيها المعلم .. الصديق .. المربي .. الحكواتي .. الظريف .. المشاكس .. البطل .. الضحية .. الجثمان المسجى للصلاة المعقوفة لمآربها …
يا محمود بن عبد الوهاب .. أنت أمام صاحب الموت فلا تكتم ُظرفكَ .. ولا تضع روحك في برزخ ..
هكذا سأتذكرك لا أُرثيك :
” في عام 2001 ،يوم السبت من شهر آب .. نشرت ُفي جريدة الزمان نصا عنوانه ” حديقة الأصدقاء” وكنت أنتَ مع مجموعة من الاصدقاء . بدر السياب .. محمد خضير .. محمود عبد الوهاب ، خالد عبد الزهرة ، قصي الخفاجي ، فايق حنون ، وهو جزء من مشروع شعري طويل انتظر انجازه ..
قلت فيك ” محمود عبد الوهاب :
من صحنك أكلّ تلاميذ البصرة ” لسان اللغة”
كنت فينا القطار الصاعد .. نفتح الشبابيك لنشمّ “رائحة الشتاء”.
سبورة بخمسين جناح .. ايها العابر الاستثنائي .. تركتنا وحّّلقت – يا سندباد البصرة الطائر- بعيدا عن الحياة التي تبغي
ما علّمتكَ المدن أن تكون أنت وما خدعتك الحكمة بثمارها ..
أنت حلو ومرٌّ
يعبرون كلهم .. وتبقى ” العابر الإستثنائي”
لم يتعشى العشاء الأخير ..
لن يشي به أحد .. لأنه سارق أخر ورقة من الحياة ..”
في عام 2000 بدأت بكتابة روايتي ” العودة الى البيت” وانهيتها عام 2004 وكان ” لمحمود عبد الوهاب حصة الاسد فيها ” والرواية ستصدر قريبا .
هل أبكيك .. نعم ..
هل أوفيت َ حقك َ….
لا
أنت خسارتنا الجمعية ..
كيف ُنرمّم الخلود ؟؟