ابتلاع شركة توزيع المنتجات النفطية انموذجا
عندما نتحدث عن الخصخصة التي يحاول السيد وزير النفط تسويقها للرأي العام, فأن المقصود يتمثل في تحويل هذا النشاط للقطاع الخاص على فرض انه تابع ابتداءا للقطاع الحكومي. لكن لو قمنا بمراجعة معمقة لمجمل مشاركة القطاع الخاص في نشاط التوزيع, فأننا سنخرج بتفاصيل ملفتة للنظر تتمثل في ان القطاع الخاص يدير اصلا ما يقدر بـ75% من المحطات في العراق, الى جانب ما يقدر بـ85% من ساحات النفط و الغاز المشيدة في العراق, فضلا عن 100% من نشاط البيع الجوال الذي يديره الوكلاء الاهالي لبيع النفط الابيض و الغاز السائل في المناطق السكنية في العراق. يضاف الى ذلك ان القطاع الخاص يدير بحدود 90% من نشاط نقل المشتقات النفطية ما بين المحافظات فضلا عن عدد كبير جدا من معامل تعبئة الغاز الاهلية المنتشرة في محافظات العراق, الامر الذي يقودنا في النهاية الى خلاصة عميقة مفادها ان القطاع الخاص يدير حوالي 80% من اجمالي نشاط التوزيع في العراق, فما الذي يريد السيد وزير النفط العراقي خصخصته يا ترى؟
الى جانب هذا الكلام, تتولى و تتحمل شركة التوزيع مهمة و تكاليف استيراد الفرق ما بين الانتاج المحلي والاستهلاك المحلي كي لا تعاني البلاد ازمة او شحة في المشتقات النفطية لما لذلك من تأثيرات اجتماعية و اقتصادية كارثية على حياة الناس و اداء البلاد, حيث ان الشركة تستورد ما يقدر بنصف استهلاك العراق من البنزين المحسن و بحدود 10% من النفط الابيض الى جانب 35% من استهلاك مادة الكاز, لاسيما بعد ان خرجت مصافي بيجي و مصافي الشمال من العمل نتيجة احتلال تنظيم داعش لمناطقها, حيث كانت مصافي بيجي لوحدها توفر حوالي 40% من المشتقات النفطية المستهلكة في البلاد, و التي تولت شركة التوزيع تعويضها بكفاءه عالية و دون ان يشعر المواطن باي وطئة اضافية على كاهله, وهو ما يحسب لأدارة الشركة العليا التي تقلدت قيادتها منذ اكثر من 3 سنوات, و التي برهنت عن كفاءة متميزة في وقت عصيب حينما كان تنظيم داعش يبتلع المناطق و يفقد العراق منشآته النفطية الشمالية واحدة تلو الاخرى, منشآته التي تمس بانتاجها حياة المواطن بصورة مباشرة. لذلك, لابد من مواجهة السؤال المباشر المتعلق بموضوع قدرة شركة التوزيع على تعويض النقص, ومن سيقوم بمهمة التعويض المستقبلي للفرق ما بين الانتاج و الاستهلاك المحلي اذا ما تم خصخصة هذا القطاع يا ترى؟ ان رؤية عميقة و محايدة لما يديره القطاع الخاص من نشاط التوزيع حاليا, و التي تبلغ كما اشرنا بحدود 80% من اجمالي النشاط, تشير بدقة الى حقيقة ان كفاءة و ذكاء تحديد هذه النسبة التي يضطلع بها القطاع الخاص من جهة, في مقابل ان نسبة الـ20% المتبقية من اصل النشاط التي تديرها شركة التوزيع, انما ابقت هذه الـ20% الحكومية في موقع قوة التحكم الشاملة بمقاليد العملية التوزيعية, هذه القوة التي تتولاها شركة التوزيع حفاظا على دعم المواطن و مساعدة له و تخفيفا عن كاهله في ظل ظروف الحياة الصعبة في العراق اليوم. اذن كيف يقرر السيد الوزير المحترم التضحية بهذه الـ20% المتبقية تحت سيطرة الحكومة و لصالح من. ان الموضوع تعتريه شبهة كبيرة جدا, شبهة الى جانب علامات استفهام كبرى لا يستوعبها المنطق السليم لقراءة و فهم الاشياء. و من الطريف كذلك ان يخادع السيد الوزير نفسه بالحديث عن تطوير شكل و واجهات و انشاءات و حتى تكنولوجيا العمل بالمحطات في العراق حينما يركز على اهمية وجود مطاعم صغيرة و محلات بيع داخل المحطات وهو ما يمثل فكرة غير منطقية اخرى يراد منها تسويق مشروع الخصخصة المشبوه. وانني اود ان اسال السيد الوزير المحترم اذا ما كان صاحب الفكرة شخصيا: هل سمعت بحياتك ان احدا قام بالدخول الى احدى المحطات داخل المدن و شعر بحاجة للجلوس داخل المحطة بغية شرب قدح من القهوة او الشاي او تناول مرطبات او حلويات او اي طعام يا ترى؟ وهل تتصور ان الناس الذي يدخلون للتزود بالوقود في المحطات هم مرتاحون و يشعرون بالاسترخاء الى درجة اطفاء سياراتهم داخل مساحات المحطات الصغيرة نسبيا ليقضوا بعض الوقت في احتساء المشروبات و تناول الطعام في المحطات حيث يسرحون امام مشهد جميل عن حركة التزود بالوقود داخل المحطة يا ترى!؟ انني استغرب هذه الافكار الغريبة التي تطرحونها سيادتكم بهذا الشكل المضحك لتسويق مشروع الخصخصة المشبوه حيث لا مساحات المحطات الداخلية في المدن تسمح باضافات و انشاءات من هذا النوع و لا تسمح هذه المساحات بوقوف السيارات داخل المحطات اذا ما اراد المواطن الدخول والشراء, فضلا عن عدم جدوى هكذا مشاريع اقتصاديا, عدا عن ان مزاج المواطن العراقي لا يحب ولا يرغب بذلك لان عملية التزود بالوقود عادة ما تكون مهمة “بينية” يقوم بها السائق ما بين مكانين ينتقل بينهما, كأن يكون متوجها من مسكنه الى عمله او بالعكس او متنقلا ما بين مكانين, اي ان وقته لا يسمح بالتوقف و اضاعة وقت اكثر من الدقائق الثقيلة القليلة التي يقضيها بالتزود بالوقود اصلا, تلك الدقائق التي يتمنى المواطن تقليصها الى اقصى حد ممكن, فكيف تتوقع منه سيادتكم التوقف لشراء اشياء من المحطة غير الوقود. اذن لم هذا التحايل و الالتفاف على الحقيقة و محاولة تسويق هذا المشروع الفاشل بهذه الحجج و المبررات الواهية والمضحكة سيادة الوزير؟ و من نافلة القول ان هنالك محطتين مشيدتين جديديتين نسبيا على طريق المرور السريع في الدورة و تقعان خلف المجمع النفطي لمصافي الدورة مباشرة و كلاهمها تضم محلات لبيع بعض المستلزمات الغذائية و المشروبات الا ان احدا من السائقين لا يفكر بالنزول و الشراء منهما كون احدا لا يرغب باضاعة وقته بكل بساطة هناك ما خلا الصدفة ربما. فأذا كان هذان المثالين البسيطين على هذه الدرجة من القرب من واحدة من اهم المجمعات النفطية في بغداد و اثبتا كلاهما عدم جدوى فكرة اضافة خدمات اضافية للمحطة (عدا ما تسمح به المساحة من اضافة غسيل للسيارات التي تعد الفكرة الناجحة الوحيدة عمليا) فلمن نريد تسويق فكرة الخصخصة بهذه المنظورات الساذجة يا ترى ؟
سيادة الوزير, ان افكار اضافة محلات بيع في المحطات غير مجدية بالمرة مالم تكن على الطرق الخارجية حيث المساحات قد تسمح بذلك, و هو امر مستبعد بدوره لان مشيدي المحطات الاهلية عموما, و الذي يملكون 80% من المحطات في العراق, لم تكن تدور في بالهم افكار من هذا النوع و لم يحسبوا حسابها مطلقا, عدا عن كونها غير مجدية اقتصاديا في الاغلب الاعم و الا كانت طبقت في المحطات الخارجية الاكبر حجما عموما من تلك الداخلية منذ عشرات السنين, لاسيما ان القطاع الخاص يهدف للربح و حسب, و هو ما يعني انه يسعى لزيادة موارده بكل الوسائل المتاحة.
ولو فرضنا ان القطاع الخاص اراد ان يتوسع في نشاطاته لبناء محطات فما الذي يمنعه من شراء اراضي سواء داخل او خارج المدن و حسب امكاناته المادية بغية تشييد ما يريد من المحطات و بالمواصفات العالمية التي ترغبون انتم اعتمادها كمعيار قياسي لجودة المحطات. و لماذا تريدون سيادتكم التضحية بقوة الرفع و التأثير التي تملكها شركة التوزيع عبر التفريط, عفوا الخصخصة, بالمتبقي من نشاط الشركة البالغ 20% من اصل نشاط التوزيع, تلك النسبة التي تمثل عنصر التحكم و الموازنة الدقيق و القوي الذي تستخدمه شركة التوزيع لضبط ايقاع العملية التوزيعية بما يضمن مصلحة المواطن و الحكومة في آن واحد يا ترى؟
ويستمر مسلسل نقد خصخصة قطاع التوزيع في العراق الذي يثير اسئلة و شبهات كبيرة حوله. من المعروف ان شركة توزيع المنتجات النفطية تشتري منتوج البنزين من المصافي بعد مروره بانبيب شركة الخطوط و النفقات الاخرى, تشتريه بما يعادل 200 دينار تقريبا للتر الواحد لتقوم ببيعه بسعر 450 للمواطن. و كما هو معروف, فأن ربح الـ250 دينار المترتب على عملية البيع يعود لتمويل نفقات الشركة و الوزارة فضلا عن دفع رواتب الموظفين الى جانب الفائض الذي يعود الى الميزانية العامة للبلاد. و من المعروف كذلك ان الكثير من نفقات الوزارة يتم تمريرها من خلال ما تدفعه شركة التوزيع كونها تمثل مصدر القوة المالية الابرز من بين تشكيلات وزارة النفط. في الوقت ذاته, فأن شركة التوزيع تقوم ببيع البنزين لمحطات القطاع الخاص بسعر اقل من السعر الرسمي و الذي يبلغ 430 دينارا للتر, اي بربح صافي يبلغ 20 دينارا للتر الواحد لمحطات القطاع الخاص. لكن واقع الحال يشير الى ان احتساب هذه الارباح بحسب نسبة الـ20 دينار لا يمثل شيئا يستحق الاستثمار في محطة تعبة وقود بكل ما تنفق من مصروفات و تكاليف عمل وتشغيل باهظة و غيرها. و لهذا السبب الرياضي البسيط, نستطيع ان نفهم السجل التاريخي الحافل للمحطات المشيدة و الاهلية بالمخالفات التسعيرية و التلاعب و السرقات كون الارباح التي تقدمها الدولة لهم بقيمة 20 دينار للتر الواحد لا تغطي شيئا يذكر. ولذلك تقوم محطات القطاع الخاص بتعيين عاملين يعمدون الى مجادلة المواطن بغية فرض مبالغ اضافية على اصل المبلغ, الامر الذي يصل الى 15 – 20 دينارا اضافيا عن كل لتر بنزين. و لنا ان نذكر ان المحطات الاهلية لطالما سجلت ضدها مخالفات تسعيرة بلغت زيادة عن السعر الرسمي بمقدار 15 دينارا و حتى 20 دينارا على سعر اللتر الواحد حتى يصبح ممكنا القول ان المحطة باتت رابحة لمالكها. و بطبيعة الحال, فأن جشع القطاع الخاص و المالكين لا يقف عند حد معين, حيث ان خصخصة المحطات سوف تقود الى نتيجتين سلبيتين رئيسييتين تتمثلان في:
اولا: سوف ترتفع وتيرة ابتزاز المواطن العراقي من عاملي المحطات الاهلية نتيجة لزيادة عديد المحطات العائدة للقطاع الخاص التي سيضطر المواطن للتزود بالوقود منها.
ثانيا: يجب الانتباه الى الارقام التي ستخسرها الدولة, حيث ان زيادة عديد محطات القطاع الخاص سوف يعني خسارة مبدأية بمقدار 20 دينار عن كل لتر بنزين يباع من خلال منافذ القطاع الخاص, الامر الذي يمثل خسارة غير مبررة لموارد الدولة التي تعاني الامرين جراء انخفاض اسعار النفط و تكاليف الحرب الهائلة على الارهاب, فضلا عن تضخم النفقات الحكومية المستمر.
في سياق متصل, فأن خصخصة قطاع التوزيع سوف تدفع المالكين الجدد لهذا القطاع المتخصص الى المطالبة بزيادة نسبة الارباح التي تقدمها لهم الدولة كونهم سيصبحون قوة مهيمنة تفرض نفسها و رأيها على الوزارة و شركة التوزيع الذين سيفقدان بالخصخصة قدرا هائلا من قوتهما التأثيرية المتنفذة التي تستخدم لصالح المواطن و كبح جماح و جشع القطاع الخاص و مالكيه, و التي سيفقدها المواطن لتصبح قوة نفوذ في صالح المالكين الجدد. و بما ان سجل المحطات الاهلية التاريخي حافل بالمخالفات و الاساءات لحقوق الناس و التجاوز عليهم, فأن وجود نوعين من البنزين (محسن و عادي) سوف يدفع ضعاف النفوس منهم, على سبيل المثال لا الحصر, يدفعهم الى التلاعب عبر تفريغ بنزين عادي في خزانات البنزين المحسن و بيعه بسعر المحسن, حيث ان عمليات التدوير و التلاعب من هذا النوع سبق و حصلت في الماضي في اقليم كردستان نتيجة لكون القطاع الخاص يهيمن على نشاط التوزيع هيمنة كبيرة تسمح له بالتلاعب. فهل فكر السيد الوزير بتطوير وسائل علمية تسمح بمنع هذه التلاعبات يا ترى؟ ام ان الامتثال الوزاري امام املاءات الاحزاب المتأسلمة التي تريد ابتلاع و تجيير وزارة النفط سوف يسود الموقف بغية تمشية مشروع الخصخصة المشبوه هذا؟
في سياق متصل, هل فكر السيد الوزير المحترم و فريق عمله المتألق بمصير العاملين في مجال التوزيع الحكومي و اين سيؤول بهم الحال يا ترى؟ ان هذا سيكون بابا اخر للابتزاز و الضغط الذي سيمارسه السادة المسؤولون المتنفذون في الوزارة و الاحزاب بغية تحديد من هو الفائض و من هو الذي يستحق البقاء في القطاع النفطي ممن يجب تفييضه و نقله الى وزارات خاسرة اخرى (وزارات تستحق الخصخصة فعلا و ليس شركة التوزيع) و بالتالي يبدأ مسلسل جديد من المحسوبية و المنسوبية و الابتزاز و الفشل الذي يريد السيد وزير النفط اقحام الوزارة فيه. فهل فكرت في كل ذلك سيدي الوزير المحترم؟!