24 ديسمبر، 2024 4:45 م

-1-
قراءةُ التاريخ بتدبرٍ وإمعان، عمليةٌ ذات أبعاد ايجابية عديدة ، ذلك أنَّها تجعل القارئ يعيش مع التجارب الحياتية النافعة، ويستلهم من سِيرَ العظماء ألواناً من الدروس والعبر ، ويشهد عواقب العدل والاستقامة ، كما يشهد أيضا عواقب الطغيان والظلم …

إنّ مرايا التاريخ تعكس ما يمور به المجتمع – شعباً وحكومةً – مِنْ حراك ، وترصد الأحداث رصداً دقيقا تمهيداً لإصرار الأحكام عليها بالسلب أو بالايجاب .

واذا كان التاريخ متهما بالانحياز الى الحكّام ، فانّ الباحث الحصيف يستطيع أنْ يستل من صفحاته – بالرغم من ذلك – ما يُوقفه على حقيقة الحال .

-2-

والمسؤولون بوجه خاص هم أشدّ الناس حاجة لتلك القراءات التاريخية الدقيقة .

انّ الوقاية – كما يقال – خيرٌ من العلاج

وانّ بمقدورهم أنْ يقوا انفسهم مما وقع به أسلافهم من أخطاء وخطايا دفعوا أثمانها الباهضة .

-3-

وقد قرأتُ في كتاب (تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والأعلام) للمؤرخ الذهبي ت 748 هجرية ، ترجمة أحد وزراء المعتمد العباسي ، وهو الوزير أبو الصقر الشيباني اسماعيل بن بلبل الذي تولى الوزارة عدّة مرات ، كان اولها سنة 165 هجرية ، ومما جاء فيها نقلاً عن ابن الفرات :

” حضرت مجلس اسماعيل بن بلبل ، وقد جلس جلوساً عاماً .

فدخل اليه المتظلمون والناس على طبقاتهم ،

فنظر في أمورهم ،

فما انصرف أحدٌ منهم الاّ :

بولايةٍ ،

أو صلةٍ ،

أو قضاء حاجة ٍ ،

أو إنصاف “

ثم انّ رجلاً طلب منه حاجة كان لابُدَّ له ان يستأذن فيها الأمير “الموفق” فقال له الرجل :

” متى تركني الوزير وأخرّني فسد حالي “

ثم ولىّ الرجل غير بعيد وعاد اليه قائلاً :

أياذن الوزير ؟

قال :

قل

فأنشأ يقول :

ليس في كلّ دولةٍ وأوانٍ

تتهيّا صنائعُ الاحسانِ

واذا أمكَنَتْكَ يوماً من الدهرِ

فبادرْ بها صروف الزمانِ

فكتب له ما يريد ،

وأمر الصيرفي ان يدفع له خمسمائة دينار

تاريخ الاسلام / ج2 / ص212

والسؤال الآن :

كم من وزرائنا اليوم مَنْ يجلس للناس مجلساً عاماً يُتاح للمظلومين على طبقاتهم الحضور فيه ، وعرض قضاياهم عليه بشكل تفصيلي ؟

وماذا سيكون جواب الوزير إن حضروا وطرحوا مظالمهم ؟

هل ينصرفون منه بقضاء حاجاتهم أو يكون نصيبهم الوعود بقضائها ثم سرعان ما تتبخر الوعود ؟!

انّ الوزير الشيباني استوعب الفكرة التي طرحها عليه صاحب الحاجة والقائلة :

انّ صنائع الاحسان لا تتهيا في كل الازمان .

وان المبادرة اليها هي المتعينّة قبل أنْ تمنع من ذلك صروف الزمان .

وبالفعل بادر واستجاب .

ثم لم يكتف بذلك البدار حتى دفع اليه خمسمائة دينار …

فكانت النتيجة ان حفظ له التاريخ هذا الموقف النبيل

ايها الوزراء :

لا تنسوا ان التاريخ يكتب ما تفعلون … ،

ويسجّل عليكم ما تصنعون ،

وبمقدوركم أن تدخلوا اليه من أوسع البوّابات عَبْر تفانيكم وإخلاصكم في خدمة الدين والشعب والوطن ، وعبر اسهاماتكم الفاعلة في مضامير البناء والاعمار والتنمية ….. فَتَكْسِبوا الحمد والثناء في الدنيا والنعيم في الآخرة .

[email protected]