-1-
قراءةُ التاريخ بتدبرٍ وإمعان، عمليةٌ ذات أبعاد ايجابية عديدة ، ذلك أنَّها تجعل القارئ يعيش مع التجارب الحياتية النافعة، ويستلهم من سِيرَ العظماء ألواناً من الدروس والعبر ، ويشهد عواقب العدل والاستقامة ، كما يشهد أيضا عواقب الطغيان والظلم …
إنّ مرايا التاريخ تعكس ما يمور به المجتمع – شعباً وحكومةً – مِنْ حراك ، وترصد الأحداث رصداً دقيقا تمهيداً لإصرار الأحكام عليها بالسلب أو بالايجاب .
واذا كان التاريخ متهما بالانحياز الى الحكّام ، فانّ الباحث الحصيف يستطيع أنْ يستل من صفحاته – بالرغم من ذلك – ما يُوقفه على حقيقة الحال .
-2-
والمسؤولون بوجه خاص هم أشدّ الناس حاجة لتلك القراءات التاريخية الدقيقة .
انّ الوقاية – كما يقال – خيرٌ من العلاج
وانّ بمقدورهم أنْ يقوا انفسهم مما وقع به أسلافهم من أخطاء وخطايا دفعوا أثمانها الباهضة .
-3-
وقد قرأتُ في كتاب (تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والأعلام) للمؤرخ الذهبي ت 748 هجرية ، ترجمة أحد وزراء المعتمد العباسي ، وهو الوزير أبو الصقر الشيباني اسماعيل بن بلبل الذي تولى الوزارة عدّة مرات ، كان اولها سنة 165 هجرية ، ومما جاء فيها نقلاً عن ابن الفرات :
” حضرت مجلس اسماعيل بن بلبل ، وقد جلس جلوساً عاماً .
فدخل اليه المتظلمون والناس على طبقاتهم ،
فنظر في أمورهم ،
فما انصرف أحدٌ منهم الاّ :
بولايةٍ ،
أو صلةٍ ،
أو قضاء حاجة ٍ ،
أو إنصاف “
ثم انّ رجلاً طلب منه حاجة كان لابُدَّ له ان يستأذن فيها الأمير “الموفق” فقال له الرجل :
” متى تركني الوزير وأخرّني فسد حالي “
ثم ولىّ الرجل غير بعيد وعاد اليه قائلاً :
أياذن الوزير ؟
قال :
قل
فأنشأ يقول :
ليس في كلّ دولةٍ وأوانٍ
تتهيّا صنائعُ الاحسانِ
واذا أمكَنَتْكَ يوماً من الدهرِ
فبادرْ بها صروف الزمانِ
فكتب له ما يريد ،
وأمر الصيرفي ان يدفع له خمسمائة دينار
تاريخ الاسلام / ج2 / ص212
والسؤال الآن :
كم من وزرائنا اليوم مَنْ يجلس للناس مجلساً عاماً يُتاح للمظلومين على طبقاتهم الحضور فيه ، وعرض قضاياهم عليه بشكل تفصيلي ؟
وماذا سيكون جواب الوزير إن حضروا وطرحوا مظالمهم ؟
هل ينصرفون منه بقضاء حاجاتهم أو يكون نصيبهم الوعود بقضائها ثم سرعان ما تتبخر الوعود ؟!
انّ الوزير الشيباني استوعب الفكرة التي طرحها عليه صاحب الحاجة والقائلة :
انّ صنائع الاحسان لا تتهيا في كل الازمان .
وان المبادرة اليها هي المتعينّة قبل أنْ تمنع من ذلك صروف الزمان .
وبالفعل بادر واستجاب .
ثم لم يكتف بذلك البدار حتى دفع اليه خمسمائة دينار …
فكانت النتيجة ان حفظ له التاريخ هذا الموقف النبيل
ايها الوزراء :
لا تنسوا ان التاريخ يكتب ما تفعلون … ،
ويسجّل عليكم ما تصنعون ،
وبمقدوركم أن تدخلوا اليه من أوسع البوّابات عَبْر تفانيكم وإخلاصكم في خدمة الدين والشعب والوطن ، وعبر اسهاماتكم الفاعلة في مضامير البناء والاعمار والتنمية ….. فَتَكْسِبوا الحمد والثناء في الدنيا والنعيم في الآخرة .