الحراك العربي الجماهيري ضد انظمة الاستبداد والدكتاتورية او ما سمّي بالربيع العربي، حققق اهدافه في عديد من البلدان العربية ومنها تونس ومصر واليمن وليبيا . وكان الحراك السوري المتمثل بالجيش السورى الحر على وشك اسقاط نظام بشار الاسد ، فقد سقطت مدن مهمة وعديد من القطعات العسكرية وبات الثوار يقاتلون داخل دمشق نفسها ، وحتى داخل المنطقة التي ينتمي اليها الاسد طائفيا ، اي منطقة العلويين في اطراف اللاذقية ، وانشق عن النظام العديد من رموزه وقادة الجيش والوزراء والدبلوماسيين ومن ابناء الطائفة العلوية نفسها . ورغم المساندة القوية التي قدمتها الجمهورية الاسلامية في ايران ، ومشاركة حرسها الثوري وكتائب حزب الله اللبناني القتال الى جانب جيش النظام السوري ،بات سقوط النظام العلوي الطائفي مسألة وقت .
وتغيّرت المعادلة وموازين القوى خلال اشهر ، وذلك عندما برزت على الساحة السورية ، جبهة النصرة ، اواخر عام 2011، والتي كانت فرعا من داعش . تنامت قدرات هذه الحركة سريعا في سوريا بعد مسرحية هروب الاف من سجناء ابو غريب المنتمين للحركة بتواطء من الحكومة الشيعية في بغداد ، والتي سهلت لها ايضا عملية تهريب اموال البنك المركزي .
كان الهدف المعلن لجبهة النصرة وداعش هو مساندة اهل سوريا السنة والقضاء على الحكم العلوي الطائفي والذي ارتكب مجازر رهيبة بحق السنة الذين يشكلون اغلبية الشعب السوري . لكن على عكس ذلك قاتلت جبهة النصرة الجيش السوري الحر وفصائل المقاومة السنية الاخرى ومنها الفصائل الكردية ، والحقت بها اضرار فادحة وشلّت قدراتها في مقارعة نظام بشار واسقاطه .
في شهر نيسان من عام 2013 ، وبعد ان انزلت جبهة النصرة ضربات موجعة بالجيش السورى الحر ( المتكون اغلبيته من السنة ) واضعفت قدراته ، واخرجت القوى الكردية من القتال ضد النظام ، للاكتفاء بالدفاع عن مناطقها المحررة ، اعلن ابو بكر البغدادي دمج جبهة النصرة والدولة الاسلامية في العراق في حركة موحدة باسم تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام ( داعش ).
لم تختلف مهمة داعش عن مهمة جبهة النصرة ، وهي توجيه بنادقها الى اهل السنة في سوريا ، ودخل التنظيم في معارك شرسة مع الجيش الحرالسوري ومع القوات الكردية التي سيطرت على مناطق الكرد في سوريا واقامت حكما ذاتيا ، بينما ابتعد الخطر عن النظام السوري واخذ يعيد تنظيم قواته ويكسب المعارك ويحقق المكاسب على الارض ، كما لم يعد المجتمع الدولي متحمسا لاسقاطه وتسليم حكم سوريا لمنظمة ارهابية .
في منتصف العام الجاري ، اطمأن التنظيم على ما يبدو على نظام الاسد والحكم العلوي الذي استقر نسبيا ، وسيطر على اغلبية المواقع التي كان قد خسرها لصالح الحركة السنيّة في الشام . بينما وجد التنظيم ان الحكومة الشيعية في العراق تعيش مأزقا حقيقيا بسبب طائفيتها ومظالمها تجاه السنّة وعلمائهم ورغبتها في تشييع العراق عنوة ، وجد ان اهل السنة قد فقدوا الثقة بامكانية قبول الامر الواقع والرضوخ لحكومة المالكي واصرارها على تركيعهم ، فانخرطوا في حراك عام للمطالبة بحقهم في المواطنة والمساواة والمحافظة على معتقداتهم واحترام رموزهم المذهبية . كما رأى التنظيم ان اقليم كردستان يخوض صراعا سياسيا مع حكومة المالكي ويوفر للسنة الملاذ والدعم للمطالبة بحقوقهم ، وان كل ذلك قد يؤدي الى الاطاحة بحكومة المالكي وتفقده الامل بالولاية الثالثة .
بذريعة مساندة السنّة ودفع شرّ الحكم الشيعي عنهم ، اقتحم التنظيم محافظة الموصل في لمحة بصر وانسحب الجيش العراقي مخلفا ورائه مستودعات تضم اسلحة متطورة لجيش كامل ، وهي عملية تثير الشبهات حول من يدعم داعش ويوفر له السلاح والعتاد والهمرات الامريكية .
اعلن التنظيم ان هدفه من الدخول الى العراق هو اسقاط الحكومة الشيعية التي تظلم السنّة ، وقال انه سيزحف على بغداد ويهدم المراقد الشيعية في كربلاء والنجف وسامراء . واستطاع ان يكسب الى جانبه بعض القوى السنية وعشائرها التي تعاني من اعتداءات جيش المالكي وميليشياته الطائفية التي تقتل اهل السنة على الهوية طيلة السنوات الماضية .
لكن التنظيم خدم حكومة بغداد الشيعية بامتياز ، فبعد ان فقد المالكي دعم حلفائه الشيعة ( المجلس الاعلى والتيار الصدري ) بصورة خاصة ، والاهم الاشارات والتلميحات التي صدرت عن مرجعية السيستاني بضرورة التغيير في الحكومة ، رأت هذه الجهات الشيعية ان الوقت غير مناسب لاشعال صراعات شيعية – شيعية ، حتى ان المرجعية افتت بوجوب الانخراط في الجهاد الكفائي الى جانب قوات الامن الحكومية وباركت على
نحو ما ، الميليشيلت الطائفية التي شكلها المالكي للانقضاض على اهل السنّة بتهمة مساندة داعش .
لم تضر داعش بالشيعة ، انما جعلت المناطق السنّية ميدان حرب ، وقضت الحكومة الشيعية على البنية التحتية فيها ، وشددّت من اجراءاتها القمعية . كما انها قاتلت الحركات السنية المسلحة ودعت الى مبايعتها ، ونتيجة لذلك خفّت المقاومة السنية للحكومة الشيعية ، واصبح المالكي ممسكا بابواب بغداد والمنطقة الخضراء ، وتزوّد بالسلاح المتطور بذريعة محاربة الارهاب وعقد صفقات ضخمة .
ولمّا لم يبق من خصم للحكم الشيعي الاّ حكومة اقليم كردستان والتي احتضنت قادة السنة المعارضين ، وطلبت من الحكومة الشيعية الرجوع الى الدستور والاتفاقيات واحترام حقوق المكونات العراقية .
لم تنفع كل الضغوطات التي مارستها الحكومة الشيعية ، لوقف كردستان عن مطالبتها بالتمسك بدستور العراق والاتفاقات الوطنية وضرورة حكم العراق بالتوافق بين مكوناته ، ولجأت حكومة المالكي الى اكثر الوسائل خبثا وهو قطع رواتب الموضفين وحصة الاقليم من الميزانية ، كما لم تنفع ضغوطات حلفاء الحكومة الشيعية الاقليميين لكبح جماح الكرد وثنيهم عن استعدادهم لاجراء استفتاء بشأن تقرير مصيرهم ،في حالة مواصلة الشيعة سياستهم الطائفية الفاشلة .
لذا كان لا بّد من اخافة الكرد والتاثير عليهم للتقرب من الحكومة الشيعية وطلب مساعدتها العسكرية في مواجهة داعش . وهكذا تلقت داعش الايعاز ( الى الوراء در ). وبغتة اعلنت الحرب على كردستان وهاجمتها من كل المحاور .
ممن صدر هذا الايعاز ؟ طبعا ممن له مصلحة في دعم التوجهات الطائفية لحكومة المالكي والحكم الشيعي بصورة عامة ، وممن يتحكم في السياسة الداعشية ويسيّرها .
ولكن هل حققت اللعبة الكارثية هدفها ؟ نقول لا ونعم .
لا ، لان الرئيس الكردي فؤاد معصوم قاوم الضغوطات والتهديدات الجدية بصلابة ، واسقط المالكي ، احد اللاعبين الاساسيين ، بضربة على الرأس بامتناعه عن تكليفه بولاية ثالثة واخرجه من المشهد السياسي وما يتبعه من محاسبة ومحاكمات عن جرائم خطيرة .
ونعم ، لان حكومة كردستان وجدت نفسها في مواجهة ( دولة) مدججّة بالسلاح المتطور ، ونزح اليها ما يقارب من مليون شخص . وكان عليها طلب مساعدة الحكم الشيعي بسبب احتياجها الشديد الى المعونات الانسانية
والعسكرية ، وامتناع المجتمع الدولي من تلبية احتياجاتها الا عن طريق بغداد وبالتنسيق معها ، وربما تكون مضطرة لقبول بعض التنازلات بعد كل هذه الخسائر التي لحقت بها .