بما أن لكل شيء سببا، وكما نقول: (ماكو دخان بدون نار) فإن هناك حتما سببا للتدهور الذي يعاني منه العراق اليوم، ولو أردنا حصر التدهور بحقبة معينة، فإنها ستكون حقبة الربع الأخير من القرن المنصرم، وعلى وجه التحديد بعد عام 1979. فمع أن مؤشرات التدهور بانت باقتراب سلطة البعث من كرسي التسلط والحكم عام 1968، إلا أنها ظهرت بشكل جلي، باعتلاء صدام حسين كرسي الحكم شخصيا، يومها صار التخريب نهجا رسميا، وسُنة متبعة، فانحدر خط التطور البياني بشكل مخيف، متزامنا مع خط التقادم الزمني. ومن المسلم به أن بزوال المسبب تختفي الأسباب، وباختفاء الاخيرة تتغير النتائج.. فيكون من المفترض إذن، أن بزوال صنم صدام تزول العلل، وبزوال الأخيرة تنعكس النتائج الى حيث يهوى المسبب الجديد، أي أن دور البطولة يُسند دورها الى الأخير في مسرح الأحداث والنتائج والتداعيات على حد سواء.
بعد عام السعد عام 2003..! تسنم دور البطولة شخص ثانٍ وثالث وعاشر… إلا أن الطامة الكبرى أن السيناريو بقي السيناريو ذاته، والسياسة والنهج تلبسا قواما آخر، مع الإبقاء على القطب ذاته ليدوران حوله، ولاينكر أن تغييرا كبيرا حدث في سينوغرافيا المسرح، كذلك هناك تغير جذري قام به “الماكير”، أما الإكسسوار فقد كان له الحظ الأوفر من يد التغيير، فكان لهذه التغييرات -مجتمعة- بهرج وبريق لماع، خدع المتفرجين وأغراهم بتأمل نهاية سعيدة للمسرحية. وتبوأ المتفرجون مقعدا لايحسدون عليه، لكنهم كما يقول مثلنا: “الغرگان يچلب بگشاية”، فراحوا يتابعون المسرحية التي طالت عليهم فصولها، مترقبين بشغف شديد نهاية سعيدة.
وبالعودة الى خط التطور البياني أٌقول، أن ماضي بلدنا يزخر بما تكتظ به ساحات العلوم والآداب والفنون، فقد ملأ أجدادنا المكتبات بأبحاثهم واكتشافاتهم واختراعاتهم في المجالات كافة، فيما اقترفت الحكومات المتتالية -بعد عام السعد- خطأ كبيرا في التعامل مع هذا الكم الهائل من الموسوعات، إذ ظن حكام العراق -السابقون واللاحقون- ان الإرث الحضاري يحفظ في الأدراج والدواليب، وعدّوه كنزا ضموه كملكية خاصة مع التيجان والأموال والقصور والضيعات، ليكون رصيدا يجيّر لحسابهم وحساب عوائلهم وأحفادهم وليس لأبناء هذا البلد. وبذا نهضت شعوب الأمم من حولنا وتنعمت بالرفاهية والحداثة في وسائل العيش، فيما حكام وادي الرافدين -الحاليون على وجه الخصوص- تشظوا في نياتهم وغاياتهم الى جهات عديدة، فمنهم من آلوا إلا أن يتعاملوا مع الظرف بانتهازية ووصولية وأنانية، بالتفاتهم الى مصالحهم الخاصة وإعلائها على مصالح البلاد وملايين العباد، ومنهم من تصرفوا بعدائية وضدية مع البلاد والعباد أيضا، بالتفافهم حول أعداء ومغرضين في الداخل، واستيرادهم آخرين من الخارج -وهم كثر-.
وبين التفاف هذا والتفات ذاك.. سجل البلد -ومازال- تأخرا في جانب وجمودا في آخر.. حتى باتت النسبة والتناسب جامحة في السلبيات.. وأضحت الخطوط البيانية في مجالات الحياة تنحدر بالعراقيين أيما انحدار، فيما يعج مسرح يومياتهم بأبطال و (كومبارس) يتبادلون الأدوار في الضحك على الذقون، وسط انعدام متعمد في الرؤية، وتشويش مقصود في السينوغرافيا، لتبقى تبعا لهذا نهاية المسرحية مبهمة، ويظل الحال في نكوص متتالٍ تحت إيعاز (الى الوراء در) وكأن لسان العراقيين يردد قول الشاعر:
حتامَ أخرج من ياس الى ياس
وكم أذوق وأبقى طافح الكاس؟
لا أبلغ الذروة العليا على قدمي
حتى أنكَس للوادي على راسي [email protected]