19 ديسمبر، 2024 12:41 ص

الى المفكرين العراقيين …مع التحية

الى المفكرين العراقيين …مع التحية

جمعني مجلس مع صديق واثناء الحديث قال ، لقد اثار موضوعك الموسوم ( مازال في العراق جيشاً وطنياً…. فيه رجال احرار ) الذي كتبته في موقع كتابات . وهجاً في ذاكرتي لموقف نبض في عروقي وتدفق في دمي . وشعرت به كدبيب الحياة يسري في جسدي ووجداني . في غرة هذه المحنة وخيبة الامل عما آل اليه حال الوطن في وسط هذا الليل المقفر المتمثل في الخوف من المستقبل والقلق من المجهول . اثر غياب الارادة السياسية الصادقة للاطراف المشتركة في العملية السياسية التي اختلطت فيها السياسة بالحماقة ،والتناقض بين هذه الاطراف . وفقدان قيم المواطنة فيها . وجعل المجتمع ، مجتمعاً احتفالياً ، كثير المناسبات ، قليل العمل . الى حد تدهورت فيه قيم بديهية مثل النظافة والنظام . هذا الوهج المتمثل في موقف اخذ له مكانة في ذاكرتي ، لا يمكن ان ينسى . وحتى ان تناسيته فهو يتوهج كلما احسست بركود الامل في نفسي . لتتجسد من خلاله فكرةً بان الجسد لا يستسلم الا عندما تستسلم ارادة الحياة فيه. وان من يمتلك القدرة على الاحتمال الى حد لا يجارى هو المنتصر دائماً . لقد كانت لحظة شجاعة تاريخية .
  قلت يا صديقي لقد جعلتني في شوق لمعرفة هذا الموقف ، عسى ان ارى فيه سلوى بعد ان عقد رياء الناس امام عيني سحابة سوداء يكاد ان يظلم لها بصري . واصبحت اشبه بطير في قفص يستطيع ان يحرك جناحيه ولكنه لا يستطيع الطيران .
    استرسل صديقي قائلاً كان التحاقي لاداء الخدمة العسكرية الالزامية اثناء الحرب . ونظراً لطبيعة اختصاصي نسبت الى وحدة السفن المساعدة ، وهي احدى تشكيلات قاعدة الخليج العربي البحرية في أم قصر . وكانت القطع البحرية المكونة لهذه الوحدة عبارة عن ساحبات يتلائم عملها للقطر ( السحب ) والنقل والتموين ، فهي ليست وحدات قتالية . وفي احد الايام استلم آمر الساحبة توجيهاً بتجهيزها للابحار . ابحرت الساحبة عبر خور عبد الله الى ان وصلت الى مدخله الشمالي . أُلقيت مرساتها في منطقة رأس البيشه والتي يؤدي مدخلها الى قضاء الفاو . اخذت الساحبة موقعها لتقوم بواجب الرصد والاستطلاع . وفي اليوم التالي حدث قصف على المنطقة وكان موقع الساحبة يجعلها ضمن مدى المدفعية والصواريخ ، وهي واقفة في موقعها دون مقاومة لعدم وجود ما يمكن ان تتجنب من خلاله تلك القنابل والصواريخ . وقد وصل الموقف الى توقع اصابتها من أي منها وفي أي وقت وهي متجهة باتجاهها .وبينما كنت اتأمل هذا الموقف الذي يحمل في طياته الموت المحقق في اية لحظة انتبهت الى من يربت على كتفي قائلاً ( انه حب الوطن ، وتحدي كرامة الرجال ، بغض النظر عن السياسة وما وراءها ) …. التفت لارى آمر السفينة وقد امتلات اسارير وجهه بالثقة والعزيمة والحزم ليسترسل قائلاً ( اياك ان تفقد ثقة وطنك بك . فموقفنا هذا هو حفاظاً على امانة اودعت لدينا والمتمثلة بوطن يمثل ايماننا به شرف يستوجب الدفاع عنه والحفاظ عليه . مما يجعل ولاءنا له سلوك دائم ).
  لقد كان كلام آمر الساحبة يمثل موقفنا الذي تجلى فيه حب الوطن الى درجة كأننا نلعب مع الموت . واستمر هذا الحال ثلاثة ايام لحين ورود امراً بعودة الساحبة الى القاعدة . عندها شعرت كأنني جبلاً من الكبرياء والشموخ ، لقد احسست باني اصبحت بطلاً …. رأيت دمعا يترقرق في  عينيه كأنه لألئ تنطق بنبل مشاعره .
  قلت لصديقي مواسياً .. لقد كان هذا الموقف نموذجاً لدفع الانكسار والمهانة والذل الذي اذا ما نزل في النفوس سلبها كل شئ حتى الشعور بالنزول عليها . وهذا ما نراه الان اثر المحاصصة السياسية المقيتة التي فقد الناس من خلالها الايمان برؤية دولة مدنية حديثة . يتجلى فيها تورة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والصحية . دولة يُحترم فيها التنوع القومي والديني والثقافي مؤطراً بتعايش سلمي يتمثل فيه التسامح والمحبة والاخاء . وفقد الناس من خلال هذه المحاصصة ثقتهم بانفسهم بشكل صارخ وغير مسبوق ليصبحوا أفراداً منكسرين محبطين ، استرخت هممهم ، وخارت عقولهم ، وتعلقوا بالخرافات ، وسقطوا في شرك التعصب القومي والطائفي وحتى العشائري وأنكفأوا على الذات . واصبح الوطن بلاد ثروة يرتع فيه اللصوص والاشرار، ووضع قاس ٍ لا يمكن أن ينفع الحماس وحدة بتغييره ، الا اذا تزامن مع هذا الحماس طرقاَ على هيكل المحاصصة بمعاول الحق المتمثلة باقلام المثقفين والمفكرين في مجالات الاعلام وعلم النفس والاجتماع والادارة والاقتصاد ، حتى يتهاوى هذا الهيكل . ليبنى بدلاً عنه هيكلاً اساسه ( أَشَرقْتْ أم غَرَبتْ ، فليس هناك افضل من الوطن ) .
  فألى ان يتحقق هذا دعنا يا صديقي نردد قول الشاعر أمل دنقل ..
   يا دقة الساعات ….
  هل فات ما فات ….
ونحن ما زلنا ….
 اشباح امنيات ….
 في مجلس الاموات ….