لم التق هذا الرجل ، ولا اعرفه سابقا ، ومعرفتي به لا تتعدى حدود مشاهدته على شاشات الفضائيات وهو يتحدث عن الانبار ، وفي كل مرة ومنذ شهور عدة لم أر هذا الرجل قد ارتدى بدلة انيقة او ربطة عنق مثل غيره ، وانما كان يظهر مرتديا ملابس بسيطة يحمل بندقيته وجعبته ، يغطيه غبار المعارك ، يحيط به نفر من الرجال امنوا بقدراته وبانه صادق العهد شريف الكلمة .
فالح العيساوي.. نائب رئيس مجلس محافظة الانبار هذا هو العنوان الذي يظهر به دائما على شاشات الفضائيات التي تذهب كاميراتها اليه ، ولم يذهب اليها باناقة المتأنقين الذي ينتظرون فرصتهم في استوديوهاتها ، لم يغادر الرمادي الا آخر رجل من الذين بقوا لشهور يقاومون من يريد بهذه المدينة العربية الاصيلة شرا ، واقفا مثل رمح ، هادئا في كلامه حتى في أصعب الظروف ، وعلى بعد امتار منه تتراطم قذائف الداعشية ويعلو الرصاص في احيان كثيرة المكان الذي يكون فيه ، لكنه لم يهتز ، ولم يتراجع ، ولم يذهب بعيدا عن مدينته الحبيبه التي قال كما روى لي احد معارفه انه ما زال مصّرا اما ان يبقى حيا في هذه المدينة ويحررها مع اصحابه واهله ، او ان يقضي فيها شهيدا .
هذا الرجل نموذج من الرجال القلة في عصر التزييف والخداع وبيع الكلام ، أراه وهو يتحدث فاشعر بعمق كلماته ، وعمق تفكيره بما يجري ، يقدم صورة حية وتحليلات مهمة عن الاوضاع في الانبار ، يبتعد عن الاتهام والمهاترات ، ينسج كلماته مصحوبة بحياء القديسين ، لا يلتفت للكاميرا ليظهر بطلا ، بل ليجلو أمرا التبس على الناس فيظهره بأدق ما في الكلمات من معان .
مثل فالح العيساوي مئات من ابناء الانبار يقفون ويضحون (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) ، هو ابن عامرية الفلوجة ، العيساوية تاريخا، الطائية كرما ، الانبارية فحولة ، النقية وفاء ، ظل ولعدة شهور لم يغادر الرمادي ، ولم يغادر مجلس المحافظة ، حتى تفجرت حوله مفخخات داعش ، ولكنه لم يبتعد عنها كثيرا ، بل ظل وحتى اللحظة صامدا الى جوار أصحابه ينتظر ساعة العودة لشن الهجوم لتحرير الرمادي الأصيلة النقية .
واعترف اني ولاول مرة في حياتي اتمنى ان التقي رجلا عشت معه عبر الفضائيات صوتا وصورة لا جسدا عيانا ، لأقبل جبينه ، واحيي وقفته ، والتمس فيه نخوة الابطال والشجاعة والمروءة ، ذاك الرجل الذي كان بامكانه ان يغادر المدينة الى أي مكان اخر وينعم بالضوء والرفاه وطيب العيش ، كما فعل آخرون حين التهب جبين الانبار ، لكنه لم يفعل وظل عنوانا واسما ورمزا وهوية .
تحية الى الشجاع فالح العيساوي .. تحية لمن معه حزاما من رجال الانبار ، تحية لنقاء الموقف ، ووقفة الرجال ، وعفة الكرامة .