البريطانيون لهم مع اليهود تاريخ حافل بالتهجير والاضطهاد..في سنة 1144م وجدت في ضاحية نورويش( Norwich )جثة طفل عمره 12 سنة مقتولا ومستنزفة الدماء من جراح عديدة وكان ذلك اليوم هو عيد الصفح اليهودي مما أثار شك الأهالي في أن قاتلي الطفل من اليهود وتم القبض على الجناة وكان جميعهم من اليهود وحدثة بعده ثلاث حملات تهجير لليهود…فقط للتذكير…وغيرها كثير ..فرنسا .اسبانيا.سويسرا.النمسا .ايطاليا..روسيا.المجر…والمسلمون عاملوكم باحكام اهل الذمة ايام زهوا سلطانهم..وقربوكم من بساطهم …ولم يفرقوا بين مسلم ويهودي او نصراني الا في شواذ من الحالات النادرة التي لا تذكر….وعلى هذا كانوا في العراق اخوان .(راجع بغداد في العشرينيات لعباس بغدادي…وتنزه العباد في تاريخ بغداد(تحقيق د.باسم الياسري)وغيرها كثير….فالعراقيين لم يعتدوا عليكم …بل المحتل البريطاني …وماوثقه وعد بلفور هو من غير سكنكم……..
وماذكره هادي جلو (( الحكومة الملكية التابعة لحكومة صاحبة الجلالة في لندن، ومجموعات بشرية عراقية، ومنظمات يهودية متطرفة تعمل بقوة على تدعيم الوجود الصهيوني وإنشاء الدولة على ارض فلسطين)) هو راي الباحث الحقيقي والمتتبع لدوران فلك الاحداث في منطقتنا..
)..دراسة لجامعة ذي قار ..) تناولت حقبة التهجير اليهودي (الفرهود)في العراق اثناء قيام الحرب العالمية الثانية ……وبيان الدور البريطاني المتعاون مع الصهاينة في سبيل جمع يهود الشتات باعتبارهم اقل مرتبة من يهود اوربا …وبما ان مناطق الشرق الاوسط تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي والايطالي وبلجيكي وبرتغالي ….مما يجعل زمام المبادرة والتسويق للحملات امر سهل جدا من باب كونهم اولياء النعمة في وقتها ……نود الاستفادة منها كونها موثقة توثيقا علميا دقيقا………
الاتفاق البريطاني – الصهيوني لافتعال أحداث 1-2 حزيران عام 1941( ) :
اندلعت الحرب العالمية الثانية في ايلول عام 1939 ، وحاولت الاطراف المتحاربة تأمين وضعها العسكري ضماناً لتحقيق اهدافها ، ولم تتردد في استخدام الاساليب القسرية غير القانونية ، والاخلال بحياد الدول الصغيرة والعدوان عليها لأدامة هيمنتها على المناطق الحيوية التي كانت ضمن مجالات نفوذها( ) . وبسبب الاهمية الاستراتيجية للعراق ، سعت بريطانيا لأعادة احتلاله متذرعة بميل رشيد عالي الكيلاني( ) نحو النازية ، على الرغم من اعلان حكومة الكيلاني مراراً تمسك العراق بألتزاماته وحرصه الشديد على تنفيذ ما ورد في المعاهدة العراقية – البريطانية لعام 1930. رافق ذلك تزايد اهتمام ألمانيا بالعراق( ) ، وخشية بريطانيا من اقامة تحالف عراقي – الماني ضدها( ). هذه التطورات دفعت السلطات البريطانية الى احكام قبضتها على العراق بسلسلة من الاجراءات التي نتج عنها اندلاع انتفاضة مايس الوطنية التحررية في العراق التي ادت الى توسيع المواجهة بين حكومة الكيلاني والبريطانيين( ).
لم يكن اليهود بعيدين عن هذه الاحداث. فقد ادركت الحركة الصهيونية ان التعاون مع البريطانيين من شأنه ان ينعش النشاطات الصهيونية( ) في العراق بعد ان اثبتت الدعاية فشلها في تحقيق نتائج ملموسة( ) ، وقد بدا هذا الفشل واضحاً عند مقابلة وفد يهودي لرشيد عالي في الرابع من مايس عام 1941 مبدياً تأييده لسياسة الاخير( ).
وقد تمثلت السياسة الصهيونية الجديدة بتعاون المنظمة الصهيونية العالمية مع السلطات الاستعمارية لخلخلة الوضع القانوني (ليهود الشتات) وارهابهم في اوطانهم لأجبارهم على الارتماء في احضان المنظمة الصهيونية العالمية( ) ، فكانت صفقة منظمة (اتسل) ( ) الصهيونية مع القوات البريطانية وبأشراف (ارشبالد ويفل Archibaid Wavell) ( ) القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الاوسط . وفق الصيغة الآتية :
– تقوم المنظمة بنسف مصافي النفط في بغداد( ) ، للحيلولة دون الاستفادة منها من قبل العراقيين او الألمان( ) .
– تتعهد بريطانيا بأطلاق يد المنظمة بالعمل ضد محمد امين الحسيني( ) وتنشيط الحركة الصهيونية بين يهود بغداد( ) .
يتضح مما تقدم نوايا كل من بريطانيا والحركة الصهيونية تجاه العراق بعد وقوعه مره اخرى تحت الاحتلال البريطاني المباشر اثر انتفاضة مايس وترك قادتها العراق في التاسع والعشرين من مايس عام 1941.
تولت لجنة الامن الداخلي( ) زمام الامور ، وقد ادعت في بلاغيها (4 و5) في الحادي والثلاثين من مايس عام 1941 ان حالة البلاد اعتيادية ، وطلبت من أفراد الشعب ان يستأنفوا أعمالهم بكل طمأنينة( ) ، مما دفع الطائفة اليهودية الى الاحتفال بعيد (الاسابيع)( ) كعادتها الذي صادف الاول من حزيران 1941 والذي تزامن مع يوم عودة الوصي عبدالاله الى بغداد( ) تحت حماية الحراب البريطانية( ) .
لم يكن اليهود وحدهم الذين خرجوا للتفرج على احتفال عودة الوصي ، بل كـان هنـاك معهـم فريـق من ابناء الشعب الاخرين بطوائفه المتعددة ، وقد فسر احتفال اليهود بهـذا اليـوم وبملابسهـم التقليديـة بأنـه تعبير عن الابتهاج بأندحار الجيش العراقي( ) مما اثار غضـب الجماهير المحتشدة( ) ، خصوصاً بعد ان استفز البعض منهم المحتشدين عندما اظهر شماتة علنية بهذه النتيجة( ).
على الرغم من مواقف اليهود الشاذة المتكررة عبر تاريخ العراق والتي تتناقض مع الموقف الشعبي العام ، الا انه من غير الممكن التسليم بأن احداث 1-2 حزيران كانت نتيجة لما ابدته الطائفة اليهودية او بعضها من تصرفات اثناء عودة الوصي ، فخروجهم محتفلين ومبتهجين لم يكن ليحصل الا بعد ادراكهم ان الوضع اصبح مستقراً ومطمئناً الى الدرجة التي جعلتهم يعبرون دجلة وينتقلون من جانب بغداد الرصافة الى الكرخ( ) ، ولم تكن مشاركتهم الجماهير في استقبال الوصي الا فضولاً شأنهم شأن بقية العراقيين وليس فرحاً بعودة عبدالاله ، لاسيما وان عودة الوصي قد تزامنت مع احتفال اليهود بعيدهم( ).
سيطـرت الشرطة على الاحداث في مستهل وقوعها في جانب الكرخ ، وعَدّ الحادث اعتيادياً وانتهى بأعتقال المعتدين( ) ، ولكن أيادي اخرى ارادت للاحداث ان تستمر وساعدها في ذلك مساهمة العشائر الفقيرة( ) القاطنة على مشارف بغداد التي اخذت تتدفق نحو العاصمة مما ادى الى تفاقم الاوضاع ، التي راح ضحيتها اعداد ليست قليلة من المسلمين واليهود( ) ، ولم تنته الا بتدخل الجيش بشكل حاسم وفرض حظر التجوال( ).
عالجـت المصـادر أسبـاب أحـداث 1-2 حزيـران وفقـاً لتوجهاتها وبالشكل الذي يخـدم ايديولوجياتها ، ففي تقرير (لمدير التحقيقات الجنائية والاقامة) حمل فيه اللاجئين العرب الفلسطينيين مسؤولية تحريض وإثارة الرأي العام العراقي ضد يهود العراق( ) ، ويرى التقرير ان حكومة الكيلاني وفرت اجواء مناسبة لهذه الاحداث ، مؤكداً : (( .. ان افراد الشعب كافة قد وجدوا في ظل الادارة السابقة جواً صالحاً لأظهار سخطه وانتقامه من اليهود حتى اذا ما غادر رجال الادارة السابقة البلد وجد هؤلاء الفرصة سانحة لأشباع غريزتهم فأشترك في ذلك الجندي والشرطي ورجل الشارع)) ( ). ان هذه الحجج تفند نفسها بنفسها ، فقد انتهت الانتفاضة من غير ان تسجل دوائر الشرطة والأمن حادث جريمة او سرقة واحدة في شهر مايس 1941 ( )، ولم يتعرض اليهود لأي اعتداء( ) .
اما لجنة التحقيق الحكومية التي أصدرت تقريرها في الثامن من تموز عام 1941 فقد اتهمت الجيش والشرطة بالتقصير والمشاركة بالأحداث ، كما حملت حكومة الكيلاني ومفتي فلسطين وكتائب الشباب مسؤولية ما حصل( ) . ان إخضاع هذين التقريرين للنقد يوضح انهما يعبران عن وجهة نظر السلطات القائمة آنذاك ، ويحاولان ايجاد تبريرات لمداهنة السلطة وكسب رضاها( ) . اما المصادر الصهيونية( ) فأنها تنظر بمنظار آخر لأحداث 1-2 حزيران مركزة على :-
1-التأثير النازي الذي وصل الى حد كبير في بغداد .
2-الفراغ السياسي الذي ولده انسحاب قادة انتفاضة مايس .
3-وجود العناصر (المحرضة) خصوصاً العناصر السورية والفلسطينية .
4-ان الدعم المتواصل من قبل اليهود للبريطانيين ولد شعوراً سائداً بين العراقيين بأنهم (اليهود) مع الانكليز وموالين لهم .
ولابد من التأكيد ان توجه العراقيين نحو ألمانيا امر طبيعي بعد استمرار بريطانيا وبأصرار على مواقفها السلبية تجاه العراق والقضية الفلسطينية( ) فوجد العرب وعلى نحو خاص الذين يخضعون للسيطرة البريطانية ان ألمانيا هي القوة التي يمكن الاعتماد عليها لنيل الاستقلال والتخلص من الاستعمار البريطاني .
لم يكن الاندفاع نحو ألمانيا مقتصراً على العناصر المعادية للسياسة البريطانية ، حتى ان قسماً من السياسيين الموالين لبريطانيا فكروا بالاتجاه نحو ألمانيا ، لاسيما بعد الاحتلال الالماني لفرنسا عام 1940، واحتمال انتصار الالمان في الحرب العالمية الثانية . ومما له مغزاه انه حتى نوري السعيد الحليف للبريطانيين ، حاول ايجاد قنوات للاتصال بقوى المحور ، وبوسائل متعددة( ).
ان التقارب مع ألمانيا لم يكن يعني ميلاً (للنازية) وانما استخدام ألمانيا كوسيلة لتحقيق الطموحات العربية. ورأى البعض ان موقف حكومة الانتفاضة بهذا الخصوص هو تعبير عن دافع قوي نابع من دور العراق القيادي في ذلك الوقت وشكلاً من اشكال الرفض الصريح للوجود البريطاني ، ولا يستبعد ان يكون هذا الموقف : (( … بداية تأثره مع المشرق العربي كله بالمد القومي في ألمانيا النازية)) ( )، لذلك فأن الادعاء الصهيوني بأن تقارب العراق مع ألمانيا يعني بالنتيجة اتجاها معادياً ضد اليهود ادعاء زائف وبعيد عن الواقع التاريخي.
ولم يختلف البريطانيون عن الصهاينة في تفسير احداث حزيران ، فالسفير البريطاني في بغداد آنذاك كنهان كورنواليس قد حمل الكيلاني وحكومته مسؤولية الاحداث مؤكداً : (( … ان من المحتمل ان رشيد عالي قام بتوزيع قطعات الجيش على المناطق المجاورة لكي يتسنى لها القيام بأحداث الاضطراب بعد مغادرته)) ( ) ، ويضيف الى اتهامه السابق : (( .. ان اشخاصاً خبثاء قاموا عن عمد بتشجيع التهجم على اليهود ، فتم سلب عدد كبير من محلات اليهود وبيوتهم .. )) ( ) ، كما اتهم كورنواليس عملاء المفوضية الايطالية بالمساهمة في الاحداث ، وادعى ان عملهم النشط كان له دوره في تأزيم الموقف ضد اليهود( ).
سعت بريطانيا الى تحميل ألمانيا وحكومة الكيلاني والمفتي مسؤولية الاحداث لتبدد الشكوك التي اخذت تحوم حولها لعدم تدخلها في الاحداث لوضع حد للاضطرابات التي حصلت ، وقد ساهمت الصحافة الموالية للحكومة في تأكيد هذا الموقف ، عندما بدأت تنتقد في مقالاتها ألمانيا( ).
إن الأسباب التي ذكرتها اللجنة الحكومية والمصادر الصهيونية والبريطانية لا تقدم الدليل على مسؤوليتها عن احداث الاول والثاني من حزيران ، لاسيما وان جميع ما ذكر كان موجوداً ولفترة زمنية ليست بالقصيرة ، ولكن لم يشهد العراق ما شهده في حزيران 1941 ، مما يعني ان هناك أيدِ خفيه عملت على تدبير ما حصل لتحقيق اهداف معينه حتمت اتباع هذا الاسلوب لغرض انجازها ، الصهيونية التي فشلت في انتزاع الطائفة اليهودية من العراق من خلال عملها الدعائي ، كما انها لم تكن راضية عنهم لعدم استجابتهم المطلقة وتعاونهم الكامل مع الصهيونية ، فكان لابد من اسلوب أخر يعبر عنه احد الصهاينة بالقول : ((تسعى الصهيونية لافتعال محنه ولا ضير في ان تكون هي المسؤولة عنها ما استطاعت الى ذلك سبيلاً على اعتبار يمثل جزء من خدمة العمل الصهيوني ، وتبرر هذا العمل بزعمها ان هناك من اليهود في المنفى لابد من هزهم وإيقاظهم من ارتخائهم وسباتهم في تعاملهم مع الصهيونية))( ) . ويرى صهيوني آخر ان ما حصل لليهود يمثل مساهمة في العمل الصهيوني( ) . مما يدلل على ضلوع العناصر الصهيونية في الاعتداء على يهود العراق .
أما بريطانيا التي بدأت تخشى ان تفقد العراق نهائياً وهذا ما يؤكده رئيس وزرائها آنذاك ونستون تشرشل Winston Churchil ( ) الذي يقول : ((.. وظهرت لنا مشاكل اخرى لم تكن في حسابنا البته. ففي العراق اصبح رشيد عالي الكيلاني رئيساً للوزراء وهو مؤيد متطرف لألمانيا ، وكان لنا في العراق قواعد جوية وتسهيلات كبرى لمرور قواتنا في زمن الحرب ، وقد طلب الينا الكيلاني اخلاء قواعدنا فوراً ، فرفضنا بالطبع … وقمنا بأحتلال جميع المراكز المهمة في البلاد بعد ان اعدنا الوصي على العرش في منصبه))( ).
كما كانت بريطانيا تسعى لأرضاء الوكالة اليهودية بعد ان اخذت الاولى تضيق الخناق على الهجرة اليهودية من اوربا الى مناطق نفوذها وخصوصاً فلسطين خوفاً من تسرب عملاء للحكومة الالمانية بينهم وما سينطوي عليه ذلك من تهديد للامن الداخلي في فلسطين( ) ، فسمحت لدعاة الصهيونية بالعمل من اجل تهجير يهود العراق الى فلسطين من باب التعويض .
يبدو كان هناك تعاون واضح بين الصهيونية والبريطانيين في تدبير أحداث حزيران ، يدعم ذلك الإشارات التي أخذت تظهر تباعاً ومن عناصر موالية للصهيونية . وعلى الباحث توخي الحذر من محاولة هذه المصادر جعل بريطانيا هي المسؤولة الوحيدة عما حدث( ) لان الصهيونية ادركت بشاعة أساليبها في حمل اليهود على اعتناق الصهيونية وتهجيرهم الى فلسطين .
ولتأكيد هذا الاستنتاج يشير (نعيم خالصجي) ( ) بخصوص الهجمات ضد اليهود فيقول : ((..هاجمت قوة من الافراد المسلحين يرتدون نفس ملابس الجيش والشرطة العراقية بيوت اليهود ومحلاتهم وقد تبين فيما بعـد هؤلاء لا يمثل الجيش ولا الشرطة ، ومن المرجح ان عدداً من المدنيين قد انضم الى تلك القوة ، وقد حدثت بعض الاعتداءات على اليهود ودافع الجيران من المسلمين عنهم ، وقد قدم احد هؤلاء المهاجمين (المزعوم انه من الجيش او الشرطة) شهادته بشأن هذا اليوم بالقول : … لاحظ الاطباء ان من الجرحى المرتدين لملابس الجيش او الشرطة يرفضون الكشف عن ابدانهم (صدورهم وأكتافهم وبقية أعضائهم) ، ولقد بذلت معهم محاولات كثيرة فقاوموا بشدة ، وكلاهما مثل دور الأبكم الأصم ، ولما شعر الاطباء بخطورة الموقف اضطروا الى تخديرهم ، ثم نزعوا ملابسهما بقدر الضرورة وكان احدهما مصاباً بكتفه والآخر في ركبته ، وشاهد الحاضرون ان احدهما يعلق قطعة معدنية باللغة الإنكليزية ، وقد تبين فيما بعد انه ضابط بريطاني برتبة متوسطة، والاخر قطعته المعدنية باللغتين الإنكليزية والهندية ، وتبين أنه هندي برتبة عريف في الجيش البريطاني ، وقام الاطباء بمعالجتهما حسب الضرورة من منطلق الواجب الطبي والانساني …. وفي صباح اليوم التالي حضر الى المستشفى ضابط بريطاني برتبة عقيد ليقابل هذين العسكريين … ولقد ذهل وفوجئ الاطباء والممرضين وجميع الحاضرين في المستشفى عندما وجدوا الجريح الانكليزي والهندي يتكلمان بطلاقه مع الضابط البريطاني))( ) .
وعند اخضاع النص أعلاه للتحليل نستنتج :-
1. دخول عناصر صهيونية مع الجيش البريطاني لتنفيذ عمليات الاعتداء بعد توفير الحماية لهم من قبل الجيش البريطاني( ).
2. يفند ادعاءات الوكالة الصهيونية في فلسطين من تسميم المصابين اليهود في المستشفيات بهدف قتلهم( ) .
3. ان الصهيونية لا تتورع عن اتباع اساليب القتل والنهب مع اليهود أنفسهم في سبيل تحقيق اهدافها( ) .
4. ويحتمل النص ان هذين الضابطين هما بريطانيان يهوديان او انهما متعاطفين مع الافكار الصهيونية .
وهكذا فأن الصهيونية لم تكن بعيده عن احداث حزيران ، بل كانت هذه الممارسات إحدى أساليبها لبث الرعب في نفوس يهود العراق تمهيداً لتهجيرهم الى فلسطين . ويمكن للباحث المدقق ان يدرك الدور البريطاني – الصهيوني في ترتيب احداث حزيران وتوظيفها لأهداف سياسية ، واتهام العراقيين بمعاداتهم وكرههم لليهود . ومما يؤكد ذلك ما اشار اليه احد افراد القوات البريطانية : (( .. كان هناك الجيش (يقصد الجيش البريطاني) الذي قرر انه لا يستطيع ان يشق طريقه الى بغداد على اساس الخطر بسبب الشوارع الضيقة .. ليس هناك دليل بأن هذا القرار صحيحاً في الحقيقة ، اتخذه القادة البريطانيون ، وكانت مذكرات الحرب صامته عن هذه المسألة))( ) . اما كوهين فيبرر عدم تدخل القوات البريطانية بسببين( ) :
الاول : ان الوصي عبدالاله لم يطلب منها التدخل .
الثاني : لان بريطانيا لم ترغب بمعاداة العراقيين في التدخل بشأن عراقي داخلي .
هل كانت بريطانيا تنتظر فعلاً (الاذن) من الوصي وهي التي اعادته تحت ظلال حرابها ؟ ، واحتلال العراق مره أخرى والمساس بسيادته وهو عضو في عصبة الأمم ، وتغيير نظام حكمه بالقوة لا يعد تدخلاً بالشؤون الداخلية للعراق بنظر كوهين ؟
ولم يكن مصادفة ان اعمال السلب والنهب والاعتداء على اليهود حدثت في مدن البصرة والفلوجة وبغداد ، اذا ما علمنا ان القوات البريطانية قد تواجدت فيها على نحو واسع الى جانب تشابه اسلوب التدخل في الاحداث( ).
ومما يدعم ويؤكد التورط البريطاني في احداث حزيران اخفاء الوثائق الخاصة بالموضوع ، وحجب الاطلاع على اعداد كبيرة من الوثائق حتى عام 1992 ، وتوسيع المدة الى عام 2017 بالنسبة للوثائق الاخرى( ). اما ما تم الاطلاع عليه من الوثائق المسموح بها فقد زادت الموضوع غموضاً طبقاً لملاحظة ولفسون( ) .
كـان باستطاعـة بريطانيـا ان تضـع حداً للاحداث( ) قبل ان تتطور ولكنها لم تقم بذلك( ) ، ويصف داود الحيدري احد رجالات العهد الملكي الدور البريطاني مؤكداً : ((ان كل ذلك قد جاء من البريطانيين ، ولا احد سوف يعتقد بأن ذلك قد جاء من البريطانيين)) ( ) ، ومما يدعم هذا الرأي نقد الكونغرس الامريكي للسلطات البريطانية وتحميل بريطانيا صراحة مسؤوليتها عن الاحداث، بتعمدها عدم التدخل لوقفها والحد من استمرارها ، وقد جاء هذا النقد في رسالة بعث بها اعضاء الكونغرس الى السفير البريطاني في العراق ومما جاء فيها : (( مهما تكن مصالح بلادك ، فأنك رجل أناني ودموي .. لقد طلب منا كتابة هذه الرسالة عدد من الاعضاء الذين لازال الحزن يعتصرهم نتيجة الاحداث التي حصلت في الثاني من حزيران 1941 ، عندما كان الجيش البريطاني (داخل) بغداد…))( ) . اما محاولة فرياستارك( ) تبرير موقف القادة البريطانيين فلم تكن الا دعاية ملفقة اثنى عليها كورنواليس مقترحاً توظيفها للعمل الدعائي لصالح بريطانيا( ).
واذا كانت بريطانيا متهمة في احداث حزيران ، فما هي الاهداف البريطانية من هذا الموقف ؟ يمكن اجمال الاهداف البريطانية بما يأتي :
1. توقيت الاحداث كان ضرورياً لاتهام رشيد عالي الكيلاني وحكومته وتحميلها المسؤولية( )
2. تعتقد بريطانيا ان تدخلها سيؤثر على مركز الوصي ، يشير احد قادتها بهذا الخصوص : ((…هناك قوة بريطانية … كانت تستطيع منع كل هذا .. ولكن مركز وصينا سوف يتعرض للاذى)) ( ) .
3. أرادت بريطانيا فرض إرادتها على الوصي والحكومة لتنفيذ معاهدة 1930 وفق تفسيرها لمواجهة متطلبات الحرب القائمة( ) (الحرب العالمية الثانية).
4. تعزيز مكانة الوصي ، بربط عودته بتحقيق الامن والاستقرار( ) .
5. صرف انظار الشعب عن المقاومة واشغال الرأي العام عن اعمال بريطانيا العدائية( ) .
ووفقاً للحقائق المشار لها سابقاً يمكن للباحث ان يستنتج ان ما حصل في (1-2) حزيران انما هو تدبير منظم ومنسق بين العناصر الصهيونية المرافقة للقوات البريطانية والموجودة اصلاً في العراق من جهة وبين المسؤولين البريطانيين( ) لتحقيق اهداف متبادلة . وكان لتصرف بعض اليهود دور في تأجيج الاحداث وسواء استدرجوا لهذا التصرف او انه حدث بمحض إرادتهم ، فأن ذلك لا يعفيهم من المسؤولية في المساهمة بتأزيم الاوضاع وتفجيرها( ) .
اما ما يخص الدور العراقي في الاحداث ، فانه لم يكن بالقدر الكبير الذي حاولت المصادر البريطانية والصهيونية تأكيده. فقد جاء موقف العراقيين رد فعل عفوي لفئات محدودة استغلت انفراط الامن ، وحاولت ان تحقق بعض المكاسب الآنية . وقد اسهمت مواقف اليهود السلبية من القضايا الوطنية في تحقيق ذلك . فلو تفحصنا بشكل دقيق نوعية الذين ساهموا في الاحداث من العراقيين لعرفنا انهم شريحة محدودة لم تمتلك من الثقافة والادراك ما يؤهلها لتفادي الانخراط في هذا الامر ، الى جانب فئة اخرى عائدة منهكه نفسياً من القتال لما آلت إليه أحوالها نتيجة الحرب ، فأستفزت بسهولة( ) ، وفئة ثالثة انهكها الجوع والعوز وجدت فرصتها في هذا الامر دون ان تفرق بين بيت مسلم او يهودي كما أثبتت الاحداث. ان هؤلاء جميعاً لا يمثلون حقيقة الشعب العراقي المعروف بتسامحه وشهامته.
وقد عبر العراقيون عن أصالتهم عندما فتحوا ابواب بيوتهم لحماية اليهود من الاعتداء( ) ، ومنهم من ضحى بحياته لحماية ممتلكاتهم( ) ، وكان للجيش العراقي وقواته الدور الحاسم في وضع حد للاضطرابات( ) . ولم تتوان قوات الامن من الجيش او الشرطة في معاقبة المعتدين واعادة الامور الى نصابها.
على الرغم من رفض ما حصل في 1-2 حزيران ، الا اننا نؤكد ان الاحداث التي حصلت في العراق كانت الاولى من نوعها بهذا المستوى على مدى مئات السنين، ولم تحصل كرها باليهود كونهم يهوداً( ) ، وانما باعتبار بعضهم صهاينة خانوا البلاد في ادق المراحل حراجة ، ومقارنة بسيطة بين ماحصل من مذابح واعتداءات في اماكن اخرى مثل روسيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبين الذي حصل في العراق لوجدنا بوناً شاسعاً بين الحالتين ، مع تأكيدنا ان الصهيونية والقوات البريطانية هما المسؤولتين عن الاحداث في العراق( ) .
بمفهوم الصهيونية القاسية المتمثلة بافتعال أحداث حزيران عام 1941 ، اراد الصهاينة ان يجسدوا فكرة (المغادرة !) لليهودي العراقي نحو فلسطين ، وإرغامه على البحث عن مكان اكثر أمناً ، بعد ان (فقده) في العراق. هكذا ارادت الحركة الصهيونية ان يكون إحساسه خطوة مهمة نحو التهجير، لاغية تاريخاً مشتركاً من التعايش السلمي بين الطوائف يمتد لقرون( ) .
لقد ارادت الصهيونية من اليهودي ان يعيد اختيار نوع العلاقة التي تربطه بأبناء الشعب العراقي الذي هو جزء منه بحكم التاريخ الطويل ، وفرض واقع واثر نفسي مؤلم يحتم عليه البحث عن حلول ومخارج سوف يجدها جاهزة لدى دعاة الصهيونية للإيقاع به في مهالك النشاط الصهيوني .
تؤكد الوقائع السابقة فشل النشاط الصهيوني الى حد كبير في مسعاه لان الاحداث لم تؤد على ما يبدو الى أي تحول خطير في الرأي المعارض للصهيونية ، بل سرعان ما أصبحت احداث حزيران جزءاً من الماضي ، استطاعت الطائفة اليهودية التغلب عليها ، حتى الذين غادروا العراق وتفرقوا في بلدان مختلفة وبشكل رئيسي في الهند سرعان ما عادوا ليمارسوا حياتهم بشكل طبيعي( ) بعد ما ادركوا ان ما حصل في حزيران كان مصدره الانكليز وذراعه الصهاينة .
2- دور بريطانيا في تسلل المبعوثين الصهاينة وقيام التنظيم الصهيوني السري في العراق
لم تتأخر المؤسسات الصهيونية في فلسطين بالخطوة التالية المخطط لها بعد احداث حزيران عام 1941 بعد ان هيأت الظروف المناسبة لها ، ومما عجل في ذلك ادراك الصهاينة ان يهود العراق سرعان مابدأوا يعودون لممارسة حياتهم ونشاطاتهم المعتاده .
كان من اولويات الحركة الصهيونية في الأقطار التي ينعم فيها اليهود بالاستقرار والاندماج مع شعوبهم هو تفكيك هذا التجانس بأشاعة الخوف ، وعدم الطمأنينة ، والقلق من مواجهة المستقبل . وادركت ان ذلك لا يتحقق الا بأفتعال ازمات تجعل اليهود يشعرون ان حياتهم اصبحت في خطر في البلد الذي يعيشون فيه( ).
كان المبعوثون الصهاينة يرسلون من فلسطين الى الأقطار الاخرى لبث الدعاية الصهيونية ونشرها بين اليهود ، وهؤلاء يمثلون الخطوة التالية لاحداث حزيران . فهم لا يعبأون بما ستؤول اليه دعوتهم من أخطار على اليهود من خلال نشر الدعاية الصهيونية بينهم ، وخصوصاً ان كثيراُ منهم قد اخذ دوره في الحياة ، مما أهله لأنه يتمتع بمكانة وظيفية واجتماعية يفتخر بها بين المجتمع( ) ، مما يعد خطراً يهدد الصهيونية .
يعد المبعوثون محترفون في الدعاية لتوجيه اليهود نحو المغادرة ، إذ اعتمدوا في أساليبهم على الترغيب والترهيب ، فكانوا يحذرون اليهود من انهم اذا لم يخرجوا فوراً فلن يستطيعوا الهجرة فيما بعد، واشاعوا بينهم ان جهاز الترحيل والعون الذي اقامته الحركة الصهيونية هو في خدمتهم لفترة محددة فقط ، وانهم بعد ذلك سيتركون وشأنهم( )، الى جانب وعود المبعوثين لليهود بحياة سعيدة ورغيدة في فلسطين ، وقد احتاطوا لهذا الامر الملفق بأن قطعوا كل اتصال محتمل بين من يهاجر الى فلسطين وذويه، الذين تركهم في البلد الذي هاجر منه ، حتى لا تنكشف الوعود المخادعة التي منحها الصهاينة لليهود بالتمتع بحياة سعيدة في فلسطين( ) .
اخذ المبعوثون الصهاينة يطوفون في جميع ارجاء الوطن العربي لكسب انصار للحركة الصهيونية والدعوة لتأييدها( ) ، وقد جعلت الطبقة المثقفة في مقدمة اهدافها لكسبهم للنشاط الصهيوني ، الا ان فشلها في ذلك( ) حتم عليها الالتفات الى الطبقات غير المتعلمة لسهولة استغلالها والتغرير بها .
أقدم (شاؤول افيغـور) ، رئيس قسـم الهجـرة غير الشرعية (علياه بيت)( ) على انتداب اسحق عزرياهو( ) للتوجه الى بغداد للقيام بمهمة تهجير يهود العراق بشتى الوسائل مع التأكيد على الهجرة الشرعية( ). وبعد وصوله الى بغداد في منتصف تموز عام 1941 ، وضع خطته لتنفيذ المهمة التي جاء من اجلها والمتضمنة :-
1. الحصول على تصاريح الهجرة من الوكالة اليهودية بصفتها الجهة المسؤولة عن ذلك( ) .
2. تسفير اليهود بطريقة شرعية الى سوريا ولبنان بجوازات سفرهم الاعتيادية ثم يتم تهريبهم الى فلسطين( )
3. الهجرة غير الشرعية عن طريق سوريا ثم التسلل الى فلسطين( ) .
ويبدو ان جهود عزرياهو قد باءت بالفشل ، فعاد في ايلول من العام ذاته( ) ، دون تحقيق نتائج ملموسة .
ان وصول مبعوث صهيوني الى العراق يمثل المؤسسات الصهيونية في فلسطين بهذه السرعة بعد احداث حزيران ، دليل بين على ان المخطط الصهيوني في العراق كان يجري بخطوات مدروسة وبأسلوب المراحل المتتابعة لتهجير اليهود الى فلسطين .
وفي اذار من عام 1942 ، وصل الى بغداد ، بمساندة القوات البريطانية التي تضم بين صفوفها الكثير من الصهاينة( ) ، مبعوث الوكالة اليهودية (شاؤول افيغور) حاملاً معه مجموعة من العناوين والاسماء والرسائل للاستعانة بها في تأدية مهمته( ) . وقد تمكن بمساعدة موشي تباح ، رئيس مجلس مدارس الأليانس في العراق ، وأبنه دافيد من الاتصال بمنظمة (شباب الانقاذ)( ) عن طريق احد اعضائها البارزين ويدعى (سليم خليفة) للبحث في إمكانية تنفيذ الاهداف الآتية :
1. انشاء منظمة صهيونية مسلحة في العراق( ) .
2. الارتبـاط بمنظمة الهاغاناه( ) ومؤسساتها في فلسطين وعلى نحو خاص قسم الهجرة اللاشرعية( )
3. نظراً لصعوبة العمل السري في العراق ، يتولى قسم الهجرة اللاشرعية الاشراف على جميع نشاطات الحركة السرية بما في ذلك اختيار المبعوثين الذين يتم ارسالهم الى العراق ، وتدريب اعضاء المنظمة على استخدام السلاح وتأهيلهم للهجرة الى فلسطين( ).
حاول افيغور صياغة الاتفاق بهذه الصورة لتجنب ما شهدته الحركات والاحزاب الصهيونية الاخرى في العالم من مماحكات وأنشقاقات وخلاف فيما بينها نتيجة تشتت القيادة بين اكثر من طرف( ).
أصبحـت عمليـة اعـداد يهود العراق لغرض تهجيرهم الى فلسطين تشغل حيزاً واضحاً فـي اهتمـام المسؤولـين الصهاينـة ، لذلك أرسل مبعوث جديد يحمل صفات خاصة تؤهله لقيـادة العمل الخطير الذي اوكل اليه( ). وكان هذا المبعوث هو (انزو سيريني Enzo Sereini)( ) الذي وصل بغداد في منتصف آذار 1942 متنكراً بمساعدة القوات البريطانية( ) بصفـة مسؤول شركة (سوليل بونيه)( ) ، وقد اوضح أهدافه التـي جـاء مـن اجلها الى منظمة (شبـاب الإنقاذ) ، وتتلخص بإنشاء منظمة صهيونية مسلحة، واعداد اليهود لتهجيرهم الى فلسطين( ) .
لم يكن طريق النشاط الصهيوني في العراق معبداً ، لذلـك سـارع انزو سيريني الى مطالبة (الموساد) ( ) بأرسال مبعوثين آخرين لمساندتـه فـي عملـه ، فوصل بغداد في نهاية آذار 1942 كل
من (شماري كوتمان)( ) و (عزرا خضوري)( ) تلبية لطلبه ، وهما من أعضاء (البالماخ) ( ) اللذان قررا الى جانب سيريني ، تكوين تنظيم صهيوني سري في العراق ، بعدما فشلت منظمة (شباب الانقاذ) في تحمل أعباء انشاء الهاغاناه فيه( ) ، والإشراف على عملية تهجير يهود العراق بشكل غير شرعي( ).
لقد فوجئ المبعوثون الصهاينة بأن الطائفة اليهودية في العراق قد تغلبت على ما اصابها نتيجة احداث حزيران وفشلت الاجراءات الصهيونية لإغوائها بالهجرة الى فلسطين ، فهي لا زالت راسخه مستقرة تتطلع للعمل ، وليست هناك رغبه بين أبنائها للهجـرة الـى فلسطيـن( ). وكتـب سيرينـي الى الوكالة اليهودية في هذا الصدد يقول : ((حدث تحول ملحوظ في الاسابيع الاخيرة في ميول السكان اليهود في العراق، حيث تلاشى حماسهم للهجرة الى فلسطين))( ) ويرتبط ذلك بما يأتي :
1. استفاد اليهود نتيجة الاضطراب الاقتصادي وارتفاع الاسعار بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية مما أدى الى انتعاش تجارتهم مع تزايد هوامش ربحية تبعاً لذلك ، كما كان لهم نشاط كبير في الوسط المالي( ) .
2. ايمان الطائفة اليهودية بحتمية انتصار الحلفاء على دول المحور في الحرب مما سينعكس ايجابياً عليها( ).
3. سياسة الحكومة العراقية المتوازنة في تعاملها مع الطائفة اليهودية ، حيث قامت بدفع (70) ألف باون كتعويضات الى ضحايا أحداث 1-2 حزيران( ) .
وجد المبعوثون الصهاينة شعوراً راسخاً لدى اليهود العراقيين بالأمن والاستقرار والاطمئنان على المستقبل وأدرك هؤلاء المبعوثون ابتعاد اليهود عن السياسة والأيديولوجيات القومية ، ولم يكونوا يفكرون ببدائل محتملة( ). ووفقاً لذلك ادرك هؤلاء ان عملهم سيكون شاقاً ولذلك قرروا التركيز على النشاطات الفكرية الصهيونية، وإنشاء حركة تبدأ من الأساس .
اصبح سيريني مسؤولاً عن (الهيحالوتس) ( ) التي تهتم بالتدريب الصهيوني والتعليم العبري ، وتولى خضوري اقامة الهاغاناه ، اما الهجرة غير الشرعية فقد عهدت الى (كوتمان) ( ) ، دون ان يلغي هذا التقسيم التعاون المشترك بينهم( ).
ويمكن القول ان دور المبعوثين الصهاينة الذين وصلوا بمساعدة القوات البريطانية الى العراق بعد احداث حزيران ، قد اسهم في تدعيم النشاط الصهيوني ووضع أسس الحركة الطلائعية السرية في العراق (المسلحة وغير المسلحة) التي عملت على دعم ونشر الثقافة الصهيونية الى جانب التمهيد للقيام بهجرة غير شرعية من العراق( ) .
أ. حركة الطلائع
تأسست هذه الحركة في بداية الأربعينيات ، وكانت مهمتها الاساسية اعداد الشباب اليهودي للهجرة الى فلسطين من خلال تثقيفهم صهيونياً( ) ، ووجدت ان اول عمل يجب ان تسعى اليه هو تعليمهم اللغة العبرية( ) ، لانها الاداة الرئيسية لتحقيق “الوحدة” بين يهود العراق ويهود العالم ، والوسيلة المهمة لتعميق الشعور بالمصير اليهودي الواحد( ) !
نشطت الحركة في بغداد وازداد اعضاءها تدريجياً ، وساهمت الكتب التي جلبت من فلسطين مثل كتاب (علياه أ – الهجرة أ -) وكتاب (علياه بيت – الهجرة ب -) لتدريب المبتدئين اللغة العبرية لتطوير اعضاء الحركة بهذا الجانب ، اضافة الى الصحف التي كانت تدخل من فلسطين بواسطة الجنود اليهود الذين يخدمون في الجيش البريطاني ضمن القوات المتواجدة في العراق ، بدور كبير ومؤثر في تعليم العبرية ونشر الثقافة الصهيونية بين اعضاء الحركة( ) .
سعت الحركة الى توسيع نشاطها وعدم الاقتصار على مدينة بغداد ، فأنشأت عام 1942 فروع لها في مدن العراق الاخرى مثل كركوك والبصرة ، ولكنها كانت متواضعة لعدم توافر الإمكانيات الذاتية التي تتمكن من إدارة هذا النشاط ، فاعتمادها بشكل أساسي على منتسبي شركة سوليل بونيه والجنود اليهود في القوات البريطانية لتزويدها بأحتياجاتها ادى الى فشل هذه الخطوة( ).
عقد اعضاء حركة الطلائع مؤتمرهم الأول في نيسان 1942 ، بحضور المبعوثين الصهاينة الثلاثة (سيريني – خضوري – كوتمان) لأعلان تأسيس فرع حركة (هيحالوتس) في بغداد رسمياً( ) ، وقد تم اختيار هذا الوقت للتمويه كونه يوافق عيد الفصح اليهودي( ) ، وحددت أهداف المؤتمر( ) :
1- توسيع المعرفة باللغة العبرية وبالأدب اليهودي .
2- تشجيع الهجرة الى فلسطين .
3- تحرير المرأة اليهودية من القيود والروابط الاجتماعية السائدة .
4- مواصلة التبرع لـ (الكيرن كيمث) .
5- توسيع نطاق الحركة واقامة فروع اخرى لها ، وإسناد القيادة الى الاعضاء المحليين بدل المبعوثين القادمين من فلسطين .
يتضح من دراسة أهداف المؤتمر ، لاسيما تركيزه على إحياء اللغة العبرية ، محاولة الحركة خلق صلة بين يهود العراق والصهيونية ، ليس بربط اللغة العبرية بالجانب الديني على اعتبار انها لغة التوراة والتلمود والتاريخ اليهودي المرتبط بالنشاط الصهيوني فحسب ، بل انتزاعها من صومعة الدين وجعلها لغة الادب والفكر والتخاطب اليومي بعد ان تبنى معظم اليهود لغة الاوطان التي يعيشون فيها( ) . كما انها حاولت ، بالتوجه نحو الشباب والنساء ، تفكيك روابط الاسرة اليهودية وجرها للنشاط الصهيوني، لارتباط العائلة الشرقية مع بعضها ارتباطاً قوياً ، فقد يضطرها انسياق احد أفرادها وراء اتجاه معين الى اللحاق به حفاظاً على الرابط الاسري وان كانت غير مقتنعة او مؤمنة باختياره .
ركزت الحركة جهودها على توفير كل ما من شأنه ان يساعد في نشر الثقافة الصهيونية بين اليهود لتهيئتهم للهجرة الى فلسطين ، فحددت موقعاً خاصاً لجعله مقراً ثابتاً لها في بيت (مردخاي بيبي)، كما اصبح لها نشاط إعلامي متكامل بامتلاكها مطبعتين باللغة العربية والعبرية واجهزة استنساخ ومخزن للورق وغيرها من المواد التي يتطلبها هذا الامر( ) ، مما ساعد في اصدار عدد من الصحف السرية ، الى جانب اهتمامها بترجمة الكتب والمؤلفات الصهيونية( ).
عدت الحركة الصهيونية مسألة التثقيف الصهيوني وتوسيع قواعده اللبنة الاولى في عملها لانه يشكل قاعدة ناجحة لتحفيز ابناء الطائفة اليهودية على الهجرة ، فأخذت تنشئ المكتبات في بغداد والبصرة وكركوك وتزودها بالكتب التي تصب في صالح الاهداف الصهيونية( ). وضمن هذا النسق ، حاول المبعوثون الصهاينة استمالة العناصر اليهودية المثقفة والمعروفة لدى ابناء الطائفة للعمل الى جانب الحركة في محاولة للاستفادة من مؤهلاتهم( ) ، ولكن يبدو ان هذه المحاولات لم يصبها النجاح( ) ، وتنقل الكاتبة (غادة المقدم) عن الباحثة الصهيونية (براشا حبس Bracha Habas) بهذا الخصوص قولها : ((ان المبعوثين الصهاينة في العراق ادركوا ان الايديولوجية الصهيونية لن تلقى قبولاً في معظم الدوائر اليهودية. وقد حاول هؤلاء المبعوثين تجنيد اتباع من بين المثقفين إلا انهم فشلوا))( ) .
ويبدو ان مؤهلات المبعوث الصهيوني (سيريني) وأصوله الغربية هي التي جعلته يبدي اهتماماً كبيراً بالعمل على ضم الفتيات الى نشاط الحركة ، ولأن هذا الامر لم يكن سهلاً خصوصاً وأن العائلة اليهودية في العراق لم تكن تختلف في كثير من طبائعها وعاداتها وتحفظها عن العائلة العراقية عموماً( ) ، من جانب آخر رفض الأباء اليهود توريط أبنائهم بالنشاط الصهيوني ، فكيف سيكون حالهم بالنسبة لفتياتهم( ) . هذه الصعوبات التي واجهت سيريني في مجال تجنيد النساء اليهوديات دفعته الى مطالبة الوكالة اليهودية في فلسطين لإرسال مبعوثه صهيونية للقيام بهذه المهمة ، فوصلت (ملكه روفيه) في نيسان 1943 بغداد متنكرة بزي جندي بريطاني( ) ، ورغم انها لم تمض وقتاً طويلاً في بغداد إذ عادت في العام ذاته الى فلسطين ، الا انها استطاعت ان تجند بعض الفتيات للعمل في صفوف الحركة الصهيونية( ).
اهتمت الحركة ايضاً بالفئات العمرية الصغيرة نسبياً لسهولة التأثير عليها اولاً ، ولرغبة هذه الفئة واستعدادها للمغامرة وتأكيد الذات بحكم التركيب النفسي الخاص بهذا العمر ثانياً( ) ، يصف مئير هذه الفئة بأنها : ((مادة خام من السهل التأثير عليها))( ) ، فجعلت وفقاً لذلك حركة (الطلائعي الشاب) او (الطلائعي الفتي) جزءاً منها ، ومنحها استقلالية في ادارة شؤونها( ) ، وحددت مهمتها بتوسيع التثقيف الصهيوني استعداداً للهجرة الى فلسطين ، وان تكون أعمار الراغبين الانضمام إليها بين (14-17) سنة( ).
ووفقاً لما تقدم يبدو ان الحركة استهدفت شرائح الطائفة اليهودية عموماً ، سواء على مستوى الفئات العمرية( ) ، او على اساس المستويات الاجتماعية والمهنية المختلفة ، كما عمدت الى التوسع الجغرافي طبقاً لتوزيع اليهود في مدن العراق( ) ، ليستطيع بذلك خلق استعداد جماعي للهجرة الى فلسطين .
لم تكتف الحركة بذلك ، بل أضافت الى برنامجها المعتاد أساليب اخرى لتطوير عملها( ) بما يتناسب وهدفها الحقيقي الخاص بتهجير اليهود لضمان تحمل الصعاب المتوقعة جراء الهجرة غير الشرعية ، ومن هذه البرامج (التدريب للسير على الاقدام لمسافات طويلة دون طعام وشراب ، واقامة مخيمات وتنظيم رحلات، الى جانب محاولات محدودة لتهيئة المهجرين للعمل الجسماني مثل الزراعة وغيرها)( ) ، كما ضم الهيكل التنظيمي للحركة لجنة خاصة تهتم بالهجرة وشؤونها( ) .
تعرضت الحركة لمشاكل عديدة ادت الى توقف نشاطها مؤقتاً( ) الا ان ذلك لا يلغي دورها المهم في تنشيط العمل الصهيوني وانتشاره بين يهود العراق وتهجير عدد منهم بصورة شرعية وغير شرعية ، ويلخص شلومو هيلل( ) دور هذه الحركة في الاقطار العربية عموماً والعراق على نحو خاص بقوله : ((.. لقد عملت هذه الحركات على تعليم اللغة العبرية سراً … واختراق حواجز الهجرة وراحت تبحث عن الطرق السرية للهجرة الى إسرائيل))( ).
ب. التنظيم المسلح ( منظمة الهاغاناه)
لم يغب عن قادة النشاط الصهيوني منذ بدايته ضرورة وجود قوات دفاعية مسلحة تعمل على المساعدة والإسراع في عملية تهجير اليهود الى فلسطين. وأبتداءاً من عام 1904 (الهجرة الثانية) وضعت الأسس الاولية للمنظمات العسكرية الصهيونية ، وشهد ربيع عام 1940 بداية التعاون المشترك بين الهاغاناه والقوات البريطانية( ) لفتح الابواب الفلسطينية امام الهجرة والاستيطان الصهيوني( ).
بعد أحداث 1-2 حزيران ، واتساع نشاط منظمة (الطلائعي) وجدت منظمة الهاغاناه الفرصة سانحة أمامها لتبرير وجود منظم لها في العراق ، وعلى اعتبار انها تعمل للدفاع عن اليهود امام أي هجوم محتمل يقع ضدهم في المستقبل ، الا انها في الحقيقة تسعى اساساً لايجاد الطرق السرية والمضمونة التي تؤمن من خلالها هجرة اليهود من العراق الى فلسطين( ) .
وضعت المنظمة اسساً خاصة في عملها التنظيمي ، منها ان الحد الادنى لعمر العنصر الذي يروم الانتماء اليها هو ثمانية عشر عاماً ، والانضباط التام ، وان يكون على استعداد لتأدية المهمات الملقاة على عاتقه ، ووضع بيته ونفسه تحت تصرف المنظمة ، والمحافظة على السلاح ، كما اعدت المنظمة قسماً خاصاً بها يلتزم به العضو الجديد( ) .
في نهاية عام 1943 ، تم تأسيس منظمة الهاغاناه في بغداد بشكل فعلي بعد ان ادى أعضاؤها القسم الخاص بها( ) ،وقد حاول الصهاينة تغليب الطابع العام على نشاط المنظمة لضم اكبر عدد ممكن من أبناء الطائفة اليهودية إليها دون الالتفات الى وجهة نظره وقناعته بالنشاط الصهيوني لان ذلك يحول دون اقناع الاغلبية في الانسياق وراء هذا الامر بعد ما ادركوا بشكل فعلي عدم وجود رغبة مشجعة وحقيقية بهذا الاتجاه وخصوصاً الهجرة( ) .
اخذ نشاط هذه المنظمة بالازدياد بقيادة عزرا خضوري ، بعد ان قامت منظمة الهاغاناه في فلسطين بتزويدها بالأسلحة والذخائر ، بواسطة مبعوثها (موشي دايان)( ) الذي وصل بنفس طريقة سابقيه بمساعدة القوات البريطانية الموجودة في العراق( ) ، والتي سهلت وصول هذه الاسلحة بعد تواطؤها مع المنظمة الصهيونية( ) .
حاول المبعوثون الصهاينة من خلال هذه الاسلحة اقناع اليهود ان المنظمة الرئيسة في فلسطين تهتم بشؤونهم لتوفير مسلتزمات الدفاع عن انفسهم( ) ،فبدأوا بتشكيل مجموعات منفصلة يتراوح عدد الواحدة منها مابين (10-15) رجلاً لغرض التدريب على القتال والسلاح الابيض( ) .
وبوصول (اربيه ايشلد) الى بغداد في آب 1943 وتوليه شؤون المنظمة بدلاً من (خضوري) ( ) اخذت عمليات التدريب طابعاً آخر ، من خلال استخدام السلاح بشكل جماعي ، واختير احد بساتين التي يملكها اليهود مدينة الحلة مكاناً لهذا الغرض ، الى جانب ذلك القيت المحاضرات عن تاريخ الهاغاناه ونشاطها العسكري( ) ، كما ارسل مبعوث خاص من بغداد يدعى (يحزقئيل يهودا) الى فلسطين للمشاركة في الدورة التي تقيمها منظمة الهاغاناه هناك لقادة الحضائر( ) .
اقتصر نشاط منظمة الهاغاناه على مدينة بغداد بشكل اساسي واعتمدت على منظمة الطلائعي في تزويدها بالعناصر البشرية( ) ، اما الفروع الاخرى في كركوك والبصرة فأنها لم تخضع للسيطرة المركزية في بغداد ، وإنما تولى اليهود المحليون إنشاءها والاشراف عليها( ) ، مما يدلل على ان الوجود البريطاني في العراق وما رافقه من عناصر يهودية صهيونية منضوية تحت لوائه وفر حماية وغطاءاً لهذا النشاط بعد ان تمكنوا من الاتصال بحرية بيهود العراق( ).
لم يكن نشاط المنظمة في العراق مرضياً بالنسبة للصهاينة في فلسطين ، لذلك سارعوا بأرسال مبعوث آخر يدعى (دان رام) وهو عضو في (البالماخ) الى بغداد في تموز 1945 ، الذي باشر بتنظيمها من جديد ، واخذ يدرب أعضاءها بنفسه ليختار أفضلهم للعمل كمدربين( ) ، وسعى ليكون عمل الهاغاناه الاساسي هو تهجير اليهود الى فلسطين وليس منظمة لتدريبهم على السلاح فقط( ).
وعبر رام عن اهتمام الحركة الصهيونية بيهود العراق بتوسيع نطاق عمله ليشمل الاحياء اليهودية الرئيسة في جميع انحاء بغداد ، مستعيناً بخارطة للمدينة احضرت له من فلسطين( ) ، كما جهز احتياطاً من السلاح لكل منطقه( ) ، تمكن من الحصول عليه من الجنود الصهاينة الذين كانوا يخدمون في الجيش البريطاني( ) ، الى جانب ما كان يصنع محلياً من قبل اعضاء المنظمة ، وعن طريق الشراء من داخل العراق خصوصاً وان الكثير من قبائل البدو كانت تتعامل به وتعتاش بهذه الطريقة ، وكانت الاموال الخاصة لتغطية عمليات شراء الاسلحة وتصنيعها تغطى من طرق مختلفة منها رسوم العضوية في المنظمة واقامة حفلات يخصص ريعها لهذا الغرض ، وعن طريق التبرعات الاخرى( ) .
وضمن الخطة الصهيونية المرسومة للتغلغل بين صفوف اليهود في كل مكان من العراق وخصوصاً المدن التي يتواجد فيها اعداد كبيره منهم ، سارع رام للتوجه الى البصرة لاقامة فرع للمنظمة فيها وتجهيز عدد من المدربين لمواصلة العمل من بعده ، وبدأ يدخل احتياجات البصرة ضمن قائمة احتياجاته من السلاح والمعدات التي يطلبها من فلسطين( ).
حاول المبعوثون الصهاينة اقناع اليهود ان الهدف من التنظيمات المسلحه انما هو للدفاع عن حياتهم وممتلكاتهم من احتمالات وقوع احداث مماثلة لتلك التي حدثت في حزيران( ) ، ولكن بمجرد اعداد مجموعة مدربة على السلاح يتم ايهامها بأنها اصبحت في خطر ، مما يحتم عليها ترك البلاد حفاظاً عليها ، وبذلك تتمكن من تهجير مجموعة اثر آخرى الى فلسطين لدعم العصابات الصهيونية هناك( ).
وهكذا كان التدريب على السلاح ، وايهام المجموعات المدربة بالخطر ، تكتيكا صهيونياً لأجبار اليهود على الهجرة الى فلسطين ، عن طريق التغرير بهم ، وجعلهم يصدقون ان السلطات العراقية قد اكتشفت امرهم ، فلم يعد لهم خيار إلا ترك العراق والارتماء في أحضان الحركة الصهيونية والتوجه الى فلسطين وهو المكان الاكثر اماناً كما يدعي لهم دعاة الصهيونية.
3- الهجرة الصهيونية من العراق الى فلسطين 1941-1945
اتخذ مسؤولو الحركة الصهيونية في فلسطين في بداية الأربعينيات قراراً يحث على ضرورة العمل جدياً للبدء بتهجير يهود الاقطار العربية ومنها العراق( ) ، الى جانب قرار حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين الذي خول المندوب السامي : (( بالاذن لأي شخص لا يستطيع ان يحصل على جواز او مستند سفر ، اما لعدم اعتراف أي دولة بأنه من رعاياها او تبعيتها او لاي سبب آخر ، بدخول فلسطين بصفته مسافر او عامل مؤقت او كمهاجر، اذا كان من رأيه ان ذلك الشخص لأئق لدخول فلسطين)) ( ) ، مما يعني تأييداً صريحاً ودعماً مباشراً للهجرة الصهيونية غير الشرعية الى فلسطين .
بدأ المبعوثون الصهاينة بتنظيم عملية تهجير يهود العراق بنوعيها العلني والسري لدعم القوات الصهيونية في فلسطين بعناصر فتية مدربة ومسلحة( ) ، واتبعت لتحقيق ذلك طرقاً عديدة ووسائل مختلفة ، تمثل ابرزها بواسطة السيارات التي كان يقودها الجنود الصهاينة الذين يخدمون في الجيش البريطاني المتواجد في العراق( ) ، واستخدمت شركة سوليل بونيه كوسيلة لتهجير اليهود من خلال استخدامهم بشكل وهمي كسائقين او عمال فيها( ) ، ونٌقل اليهود ايضاً عن طريق الناقلات التي تتولى نقل الجنود واحتياجات الجيش البريطاني من فلسطين( ) الى العراق وبالعكس ، يذهبون مع السائق كمساعدين او متخفين ثم يتركون في فلسطين مقابل مبلغ من المال يتولى المبعوثون الصهاينة تأمينه عن طريق التبرعات التي تجمع بطرق مختلفة( ).
ساهمت الحرب العالمية الثانية بما تركته من آثار سلبية على الشعب العراقي عدا اليهود وخصوصاً الضائقة الاقتصادية التي عانت منها الفئات الشعبية المختلفة من عمال وفلاحين وكذلك الموظفين واصحاب الدخل المحدود( ) ، في استشراء الفساد الإداري والرشاوي بشكل كبير بين موظفي الدولة( ) : ((يكاد لم يسلم منها احد))( ) . على حد تعبير احد أعضاء مجلس الأعيان .
استغل الصهاينة هذه الأوضاع فبدأوا باستخدام (الرشوة) للحصول على جوازات السفر المزيفة لاستخدامها للسفر الى لبنان وسوريا او أي بلد آخر بحجة السياحة او العلاج او الدراسة ثم ينقل هؤلاء الى فلسطين( ).
اما بالنسبة للطرق التي سلكها الصهاينة في تهجير يهود العراق فهي :-
الاول : بغداد – الرمادي – الرطبة – المفرق – جرش – عمان ، ثم فلسطين ويبلغ طول هذا الطريق 900 كيلومتر( ) .
الثاني : وهو عبارة عن محورين الأول( ) : بغداد – الموصل – القامشلي – حلب – حماه – حمص – دمشق وطوله حوالي 1446 كيلومتر . اما المحور الثاني فهو بغداد – الموصل – القامشلي – دير الزور – تدمر ، دمشق ، وطول الطريق حوالي 1436 كيلومتر وينقلون الى فلسطين عبر دمشق او بيروت( ) . ولخطورة الطريق الاول بسبب نقاط المراقبة من الحكومة العراقية والقوات البريطانية لانه يمثل خط النفط ، قرر الصهاينة عدم سلكه على الرغم من انه اقصر مسافة ، كما ان الطريق الثاني يتوزع على طوله تقريباً ابناء الطائفة اليهودية مما يعني توفير فرصة اللجوء اليها في حالة الخطر( ) .
4- موقف الطائفة اليهودية في العراق من التهجير 1941-1945
أكدت المصادر( ) ان عدد اليهود الذين تم تهجيرهم من العراق خلال الفترة (1941-1945) لم يتجاوز (624) شخصاً ، وعلى الرغم من ان هذا العدد يعد متواضعاً مقارنة بالدول الاخرى( ) الا انه يشكل دعماً مهماً للعصابات الصهيونية في فلسطين ويشكل خطراً على سكانها الأصليين . وتبرر المصادر الصهيونية( ) عدم إقبال يهود العراق على الهجرة الى فلسطين بالاسباب الآتية:
1- ان العائلة اليهودية تمتاز برابطة قوية بين أبنائها ، لذا لم يكن من السهل ان يترك الشاب أسرته ويهاجر .
2- صعوبة الطرق المتبعة في الهجرة وخطورتها الامنية .
3- كانت الهجرة تتطلب مبالغ مالية غير قليلة لم يستطع المهاجر تأمينها .
4- الصعوبات والعراقيل التي وضعتها بعض الحكومات العراقية امام اولئك الراغبين بالهجرة الى فلسطين.
5- قلة عدد تصاريح الهجرة المخصصة للعراق.
6- كان منهم من يخشى في حالة هجرته الى فلسطين تشغيله بأعمال جسدية شاقة لا يتحملها وهو الذي اعتاد على الأعمال التجارية التي لا تتطلب جهداً جسدياً كبيراً .
7- قدرة (الذاكرة) اليهودية على النسيان( ) ، وإيمان الطائفة بحتمية انتصار الحلفاء في الحرب ، جعل مسألة الهجرة الى فلسطين غير ذات أهمية بالنسبة لهم وفضلوا البقاء في العراق ، الى جانب حياتهم المزدهرة ورفاهيتهم .
هذه مجمل الاسباب التي ساقتها المصادر الصهيونية في احجام يهود العراق عن تلبية الدعوة للهجرة الى فلسطين دون ان تذكر السبب الحقيقي والمهم من بين كل تلك الأسباب المتمثل بعدم قناعة
ابناء الطائفة اليهودية في العراق بالفكرة الصهيونية التي تسعى من خلالها الى هدف وحيد لاغير الا وهو ((تهجير اليهود الى فلسطين لاقامة وطن قومي)) .
ارتبط وجود الصهيونية في العراق بمفهومها الإيديولوجي مع وصول المبعوثين اليه بعد احداث حزيران ، ولم تكن مهمتهم سهلة حيث واجهوا عقبات معقدة في محاولة تحويل يهود العراق الى عقيدتهم الصهيونية( ) ، حتى رأت الباحثة الصهيونية (براشا حبس) ان ما تحقق على أيديهم رغم تواضعه يعد إنجازاً يسجل لهم( ) ، مما يؤكد عدم رغبة اليهود في الانخراط في هذا التوجه .
ان الحالة الضعيفة والمفككة لوضع التنظيم الصهيوني في العراق دفع قادة التنظيم الى تحجيمه ويشير مئير في هذا الصدد : ((… ابعد عن الهاغاناه كل شخص لم يبد استعداداً لحضور التدريبات بصورة منتظمة وتأدية الواجب المطلوب منه .. وبقي في بغداد ستون فرداً فقط من اعضاء التنظيم))( )، لذلك اقدم المبعوثون على جعل التنظيم مقتصراً على الدفاع عن حياة اليهود وممتلكاتهم إذا ما تعرضوا للخطر دون ادراج (واجب الهجرة) الى فلسطين ضمن أولوياتهم( ) .
اختلفت دوافع المنضوين تحت لواء المنظمات الصهيونية في العراق بين فردية واجتماعية واهتمامات عامة غير سياسية ، الا ان الهجرة لم تكن من بينها ، فكانت دعوات تعلم اللغة العبرية والخوف من المستقبل اكثر اغراءاً في تجمع عدد من اليهود بصورة منظمة . ان فكرة الدفاع تلقى مدحاً واطراء عند عرضها ، اما الهجرة فلم يكن لها هذا الاغراء( ) .
استفز بعض المبعوثين الصهاينة أفراداً من أبناء الطائفة ، فحاول هؤلاء من خلال الانضمام الى التنظيمات الصهيونية ان يبرهنوا على رجولتهم وبطولتهم دون ادنى ايمان منهم او رغبة في التوجه الى فلسطين ، ويمدنا كوهين بقصة إحدى التجمعات الصهيونية التي تبرهن على هذه الحقيقة فيقول : ((…لكي تفهموا الامور اكثر فسأروي لكم قصة واقعية جرت هنا( ) قبل ايام ، وهي قصة عادية جداً اذ ان ابطالها ليسوا مجرد يهود فقط ، وانما اعضاء في الحركة تعلموا اللغة العبرية وسمعوا كثيراً عن البلاد وسيكونون عما قريب مرشحين للهجرة … تحدث المرشد معهم وكان الموضوع (الصهيونية وتحقيقها)… ونادى بالتمرد والهجرة بشتى الطرق . وفي النهاية سألهم بصوت مرتفع . أنتم صهاينة ؟ وصرخوا كلهم نعم … امستعدون لتكونوا طلائع ؟ نعم : أمستعدون لترك الاهل والعائلة لتهاجروا ؟ – نعم – نعم – أمستعدون للهجرة حالا اذا وجدت امكانية لذلك ؟ بكل تأكيد ! حالا نهاجر – حالا! وعندها القى المرشد قنبلته وسط جمهور طلابه : اذن فلدي بشرى حسنه لكم ، حصلت على سيارة كبيرة وقمت بأجراء ترتيبات خاصة وغداً تستطيعون كلكم ان تهاجروا وان تصبحوا طلائع … اعتقدوا ان الامر دعابة ولكنهم عندما وجدوا تعابير الجدية على وجه المرشد ورأوا انه يشدد على حقيقة ما قال تململوا … حتى ان احدى الطالبات وقعت عن مقعدها بينما لازالت (نعم) الاخيرة في حنجرتها واخذ كل واحد منهم يجد حالاً الاعذار التي تحول دون هجرته ..)) ( ) .
وقد عبر اليهود عن رفضهم للهجرة الى فلسطين ، من خلال رفضهم للتبرعات التي كانت تطلب منهم بواسطة نشطاء الحركة لتمويل عمليات التهجير ، ففي سبيل المثال عندما وجهت دعوات التبرع الى إحدى الشخصيات اليهودية المعروفة رفض الاستجابة وعدّ الصهيونية وسيلة لخداع الشباب ليس إلا ، مما جعل نشطاء الحركة يشعرون بخيبة أمل مريرة( ) . وما كان يجمع من أموال يستخدم لغرض تهجير بعض الفئات الفقيرة والمعدمة والفاشلة الذين عدوا هذا الأمر وسيلة لتحسين اوضاعهم ، وللتخلص من وضع سيء يعيشون فيه دون ان يكون له علاقة بغرض سياسي ، رأى هؤلاء في (تصريح الهجرة) بوليصة تأمين اكثر من كونها شيئاً يفرض عليهم الهجرة ، فاذا ساء وضعهم المادي استعملوه وان تحسنت احوالهم تركوه( ). ويؤكد كوهين هذه الحقيقة مشيراً : ((… كان هناك استعداد للهجرة الى فلسطين عند اوساط معينه ، ولكن ليس بين أوساط الطبقة المثقفة او الغنية))( ) .
حاولت الصهيونية تشويه الحقائق عن وضع الطائفة اليهودية في العراق ، ويؤكد المبعوث الصهيوني (جولاني) بعد وصوله الى العراق : (( ان ما يقال ويكتب عن يهود العراق ليس الا تضليلاً فادحاً ، فليس هناك توجه صهيوني ولا حنين لفلسطين ولا استعداد للهجرة)) ( ). مما يعني ان ما قامت به الحركة السرية انما هو عملية تهجير لعناصر لم تكن تعي فعلها بكل أبعاده الصهيونية ، انتزعت من عوائلها خلسة او رغماً عنها ، غير مكترثة بوضع الطائفة المستقر والرافضة لهم( ).
وشكل تحسن وضع الطائفة الاقتصادي خلال النصف الأول من أربعينيات القرن العشرين عائقاً جديداً امام الدعوات الصهيونية للهجرة ، فهم كانوا يسيطرون اثناء الحرب العالمية الثانية على حركة التجارة في العراق وكالاتي( ) :
أ- الاستيراد 80%
باستثناء العقود مع القوات العسكرية البريطانية
ب- العقود 10%
ج- التصدير 5%
انعكس الازدهار الاقتصادي الذي جاءت به الحرب على نحو كبير على الطائفة اليهودية التي كانت تسيطر على كل فروعه( ) ، مما جعل اهتمامها ينصب على تتبع عملها اليومي دون الاهتمام بأمور اخرى( ) ، والعودة الى حياتهم بشكل طبيعي وحرية بعيداً عن المخاوف الوهمية التي تحاول الحركة الصهيونية اثارتها( )
توصل المبعوث الصهيوني (سيريني) الذي يُعد من اهم الشخصيات التي ارسلت الى العراق ، والذي عولت عليه الحركة الصهيونية كثيراً لما يمتاز به من كفاءة وجرأة، الى نتيجة مفادها ان في العراق يهوداً ولكن ليس هناك صهيونية تستحق الذكر ولا وجود لرغبة حقيقية للهجرة الى فلسطين ، وما يحدث أشبه بعملية (تقطير) تمثل مهاجر هنا وآخر يظهر بعد حين هناك ، لذلك بدأ يفكر بمطالبة الوكالة اليهودية، بدعوة الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا ممارسة ضغوطهما على العراق لغرض تهجير يهود العراق بشكل جماعي( ) ، خصوصاً وان الولايات المتحدة الأمريكية أخذت تبدي اهتماماً متزايداً بالنشاط الصهيوني في العراق وأخذت مفوضيتها في العراق ترسل تقارير منتظمة حول ما ينشر في الصحف العراقية من مقالات معادية للصهيونية ، تتهم الحكومة العراقية تارة بإيحائها الى الصحافة لنشر مثل هذه المقالات( ) ، وأخرى تتهم بريطانيا في محاولة منها (حسب ادعاءها) لتشويه صورة الولايات المتحدة في العراق من خلال إثارة التعاون ما بين الاولى والحركة الصهيونية ، وتؤكد ان هذه الحملات تظهر ما كانت تريده بريطانيا بأظهار الولايات المتحدة الأمريكية تتعاون مع الصهيونية في حين أنها تتعاون مع العرب( ) .
ولم يختلف المبعوث الصهيوني (دان رام) عن سيريني فيما توصل اليه ، عندما بعث برسالة في التاسع من تشرين الاول عام 1945 الى (يغال الون) مسؤول نشاطات “الهاغاناه” في الخارج يقر فيها بفشل الحركة ويقترح العودة الى فلسطين( ).
جدول رقم (5)
يمثل عدد المهاجرين لبعض الدول خلال الفترة 1941-1945
ونسبتهم الى سكان فلسطين( )
الدولة 1941 1942 1943 1944 1945 المجموع( ) النسبة المئوية
رومانيا 733 30 137 3735 1158 5793 6.5
اليمن – 236 2419 1788 1024 5467 4
بولندا 441 257 1869 697 2456 4020 40.7
جيكوسلوفاكيا 14 7 6 343 632 990 3.1
ألمانيا 174 35 45 371 361 826 12.9
اليونان 24 33 26 453 246 782 2.1
النمسا – 5 20 116 627 768 2.8
العراق 1 351 169 100 2 623 1.7
يمكن استنتاج الملاحظات الآتية من الجدول أعلاه : ان يهود العراق حتى عام 1941 لم تكن لديهم دوافع حقيقية او رغبة ملحه للهجرة الى فلسطين ، ولكن بعد الاحتلال البريطاني الثاني للعراق ، وافتعال احداث حزيران شهد النشاط الصهيوني في العراق تطوراً ملحوظاً في أعماله المختلفة ، فأصبح اكثر فاعلية وتنظيماً مقارنة مع الفترات السابقة ، فظهرت الحركة الصهيونية السرية المنظمة التي كانت على صلة مباشرة بالمؤسسات الصهيونية في فلسطين ، وبدأت العناصر الصهيونية تركز نشاطها حول اعداد اليهود اعداداً صهيونياً لغرض تهجيرهم الى فلسطين ، لذلك نلاحظ تطوراً ملحوظاً في ازدياد عدد المهاجرين اليهود الى فلسطين وابتداءاً من عام 1942 الذي سرعان ما اخذ بالتراجع نتيجة عودة الحياة الطبيعية للطائفة اليهودية وشعورها بالامان من جديد ، خصوصاً وان الحرب العالمية الثانية قد بدأت ملامح نهايتها تظهر بشكل واضح لصالح الحلفاء مما خلق جواً مطمئناً لليهود بوجود القوات البريطانية في العراق مما انعكس بشكل واضح على عدد المهاجرين عام 1945 .
5- موقف الحكومة العراقية من تهجير اليهود
اتخذت بعض الحكومات العراقية عدة اجراءات للحد من اتساع النشاط الصهيوني عموماً وتهجير اليهود الى فلسطين على نحو خاص ، ولم تقتصر جهود هذه الحكومات في معارضتها لتهجير يهود العراق فحسب ، بل حاولت ايضاً التعاون مع أطراف خارجية للحيلولة دون زيادة الهجرة اليهودية بشكل عام نحو فلسطين .
تمثلـت أولـى الخطـوات بهـذا الاتجـاه برفـض الحكومـة العراقيـة عام 1942 السمـاح لعـدد كبـير من المهاجرين اليهود القادمين من اوربا الى ايران( ) بالتوجه الى فلسطين مروراً بالعراق( ) ، كما رفضت الموافقة على نقل (500) طفل يهودي بولندي بنفس الطريقة على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها المفوضية الامريكية في بغداد( ) .
رأت الولايات المتحدة الأمريكية ان الدعاية (المحورية) التي أخذت تسود العراق هي السبب وراء إجراءات الحكومة وجاء ذلك على لسان (سمز ويلز Sumre Welis) وكيل وزارة الخارجية الأمريكية (1933-1943) والذي يؤكد في هذا الصدد : (( … ولم يكن في العراق في السنوات الماضية أي شعور معاد للسامية وكان اليهود المقيمون هناك يعاملون بدون أي تمييز ، ولم تثر أي صعوبة بسبب أي مشكلة عنصرية ، لذلك فان الموقف الذي اتخذته الحكومة مؤخراً سيكون تعقيداً جديداً في تقرير حالة فلسطين المستقبلية))( ) ، وهو يشير في ذلك الى منع الحكومة العراقية مرور 500 طفل يهودي عبر اراضيها الى فلسطين .
يبدو أن سمز تعمـد ان لا يفـرق بـين الصهيونيـة واليهوديـة بوصفـه اجراءات الحكومة بأنها معادية لليهود ، ويفسر ما اقدمت عليه الحكومة العراقية انما هو محاولة منها للضغط على الحكومة الامريكية لاتخاذ موقف مساند للعرب في مواجهة المشكلة الصهيونية( ).
ساهمت الخلافات الحادة التي شهدتها هذه الفترة بين المنظمة الصهيونية المتمثلة بحركة (ليحي) ( ) والبريطانيين في ممارسة الأخيرين الضغط على الحكومة العراقية لمواجهة النشاط الصهيوني المتمثل بتهجير اليهود بشكل اساسي( ) ، اذ عمدت المنظمة المذكورة الى القيام بعمليات ارهابية ضد البريطانيين في فلسطين وخارجها ، وكان العراق احد الاقطار التي اتخذتها ليحي هدفاً لتنفيذ هذه العمليات تعبيراً عن معارضتها لسياسة بريطانيا بتحديد الهجرة الى فلسطين( ) ، بالمقابل اخذ اهتمام الولايات المتحدة يتزايد لسد نقص سحب الدعم البريطاني.
بدأت جهود السلطات العراقية تأتي ثمارها في السيطرة على محاولات التهجير الصهيوني من خلال تشديد مراقبتها ، وجمعها المعلومات بهذا الخصوص فأستطاعت القبض على مجموعات متفرقة بين الحين والآخر( ) ، وايداعهم السجن بأحكام طويلة( ). وخصوصاً المتعاونيين معهم من (المهربين) الذين ينتشرون على الحدود العراقية( ) . وقد اثر ذلك سلباً في معنويات اقطاب الحركة الصهيونية التي بدأت تعاني من ازمة في نشاطها لبعض الوقت( ).
ومن الإجراءات الاخرى التي اتخذتها الحكومة العراقية في سعيها للحد من التهجير الصهيوني ، بدأت وزارة الداخلية عام 1943 تطلب (200) دينار كتأمينات من اليهودي الراغب في الحصول على جواز لغرض السفر خارج العراق( ) ، على ان يسبق ذلك موافقة وزارة الداخلية والامن العام ، كما ان الجواز كان يشفع بعبارة (غير صالح للسفر الى فلسطين) للحيلولة دون توجههم اليها( ) .
اما على الصعيد الخارجي ، فقد بذلت الحكومة العراقية جهوداً واضحة للحد من الهجرة اليهودية الى فلسطين ، فطلبت من الحكومتين السورية واللبنانية عدم الموافقة على منح سمات المرور للمهاجرين اليهود من تركيا عبر اراضي البلدين( ) ، وحثت مصر على التنسيق معاً للاحتجاج على السياستين الامريكية والبريطانية المؤيدة للهجرة الصهيونية( ) ، كما اتصلت الخارجية العراقية في شباط 1943 بقنصلها في بومبي وطلبت منه الاتصال بالزعماء المسلمين ليرفعوا احتجاجاً على موقف (فرانكلين ديلانو روزفلت Roosevelt Franklin Dalano) ( ) المؤيد للصهيونية( ) .
وتعبيراً عن معارضتها للدعوات الامريكية الصادرة من مجلسي الشيوخ والنواب القاضية بفتح ابواب فلسطين امام الهجرة الصهيونية ، المتمثلة بقرار مجلس النواب الأمريكي المرقم (247) الذي قدمه السناتور (روبرت واغنر) عن ولاية نيويورك والسناتور (روبرت اتافت) عن ولاية اوهايو في الاول من شباط 1944 ، فأقره الكونغرس الامريكي والذي ينص على : ((ان الولايات المتحدة ستبذل قصارى جهدها الطيب وستتخذ الاجراءات المناسبة من اجل فتح ابواب فلسطين لدخول اليهود اليها بحرية …))( ) . ارسل جميل المدفعي( ) رئيس مجلس الأعيان حينذاك في السابع والعشرين من شباط 1944 برقيه الى رئيس مجلس الشيوخ الأمريكي (هنري ولدس) والسيناتور (واغنر) نائب نيويورك يعرب فيها عن معارضته الشديدة لسياسة الولايات المتحدة بهذا الاتجاه ، ومما جاء فيها : ((اشعر بأنه من واجبي ان استرعي نظركم … ان زيادة عدد اليهود في فلسطين قد اصبح غايه سياسية وليس انسانية وذلك نظراً الى أمنية الصهيونيين التي صرحوا بها وهي الحصول في فلسطين على اكثرية يهودية عن طريق الهجرة بقصد تحويلها من بلد عربي الى وطن قومي يهودي … ارجو منكم ان تتذكروا بأن ما يؤثر على فلسطين يؤثر على العرب جميعهم اذ انه فضلاً عن ان فلسطين الان يسكنها العرب فأنها ارض مقدسة لكل العرب من المسيحيين والمسلمين وهم يقدسونها لما لها من ذكريات وروابط دينية)) ( ).
وضمن المسار ذاته بعث رئيس مجلس النواب حينذاك محمد رضا الشبيبي( ) برقيه مماثله اكد فيها: (( .. ان اغراق القطر الفلسطيني بأولئك اللاجئين اليه من اليهود ما هو في الحقيقة الا غاية سياسية وامنية من اماني الصهيونيين التي يسعون الى تحقيقها في تحويل ذلك القطر العربي الى وطن قومي عن طريق الهجرة … ومن القضايا المسلمة لدى الجميع ان فتح باب الهجرة الى فلسطين بدون قيد او شرط لا يكون الا على حساب العرب ابناء البلاد …))( ). ويبدو ان البرقيتين قد أرسلتا بتوجيه من الحكومة العراقية وهذا ما يظهر من مضمونهما . وعند زيارة الوصي عبدالاله في السادس والعشرين من آيار 1945 الولايات المتحدة ، أوضح لرئيسها هاري ترومان Harry Truman ( ) قلق الشعب العربي من تزايد الهجرة الصهيونية الى فلسطين( ) .
يتضح لنا ان الحكومة العراقية قد سعت خلال فترة الحرب العالمية الثانية الى اتخاذ بعض التدابير التي من شأنها ان تحد من الهجرة الصهيونية الى فلسطين . ويمكن الاستنتاج ان هذه الإجراءات تعود الى أمرين :
الاول : تزايد الضغط الشعبي المتمثل بالحملات الصحفية التي شنتها الصحف العراقية لمواجهة الخطر الصهيوني( ). ومن الجدير بالملاحظة ان هذه الصحف كانت لا تزال تفرق في مقالاتها بشكل واضح بين الصهيونية واليهودية وهذا ما اعترفت به تقارير المفوضية الامريكية( ).
ثانياً : تخفيف الضغط البريطاني على الحكومة العراقية في مواجهتها للخطر الصهيوني والتي ارادت من خلاله تحقيق غايتين :-
• إظهار الولايات المتحدة بأنها تتعاون مع الحركة الصهيونية في حين ان بريطانيا تتعاون مع العرب( )
• تحسين صورة الحكومة العراقية امام الرأي العام العراقي والعربي التي تشوهت بشكل كبير بعد انتفاضة مايس واحتلال البريطانيين العراق مرة اخرى( ).
لقد ساهم ضعف الحكومات العراقية بفسح المجال للنشاط الصهيوني في ممارسة نشاطه بحرية كبيرة ، فبعد فشل انتفاضة مايس ، خضع ساسة الحكم العائدين الى السلطة للهيمنة البريطانية بشكل مطلق ، كما استغلت بريطانيا ظروف الحرب لتثبيت نفوذها السياسي والاقتصادي في العراق ومكافحة الروح الوطنية .
وكان ضعف الحكومات العراقية سبباً مباشراً في تعاظم توجيه بريطانيا لإدارة البلاد عن طريق عودة المستشارين البريطانيين الى الوزارات العراقية ، واسندت اليهم مناصب كثيرة ومؤثرة( ). واذا ما علمنا ان هذه الفترة (1941-1945) كان نصيب نوري السعيد من الحكم منها مدة طويلة امتدت من التاسع من تشرين الاول 1941 حتى الثالث من حزيران 1944( ) ، صار العراق خلالها مرتعاً خصباً للدعايات البريطانية والأمريكية بعد توافد بعثات البلدين على العراق بشكل مكثف .
أولت الحكومة العراقية اهتماماً بملاحقة ومراقبة وتصفية العناصر الوطنية التي كانت تمثل خطراً عليها خوفاً من تكرار ما حدث في انتفاضة مايس متجاهلة النشاطات الاخرى التي كانت تمس امن الوطن ومصالحه ، وتقف النشاطات الصهيونية في مقدمتها ، مما خلق كرهاً متنامياً ضد السلطة القائمة . ويمكن القول ان موقف معظم الحكومات العراقية الضعيف والمتردد تجاه النشاط الصهيوني جاء نتيجة لضغوط داخلية وخارجية وهي بين مطرقة الشعب وسندان بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.