كلمات خالدة غنتها الشحرورة وظلت محفورة بذاكرتي منذ خمسين عاما. ولذلك عشقت بيروت حتى قبل أن أراها ، وكما قال الشاعر ” الاذن تعشق قبل العين أحيانا “.
منذ بواكير شبابي كنت شغوفا بالقراءة ، حتى المكتوب على أغلفة علب السجائر كنت أقرأها ، كنت عاشقا للورق ، فكيف إذا كانت الورقة هي مجلة ( الموعد والشبكة والصياد ) ، وكتابها ( جورج جرداق وسعيد فريحة وجورج ابراهيم الخوري ) . وفي آخرها صفحات التسالي والكلمات المتقاطعة ، أضف اليها ركن التعارف وصور جميلات لبنان والمغرب والسودان ومصر والجزائر ! . كنت ألتهم تلك المجلات من ألفها الى يائها ، ولا أتوقف حتى عند ( ركن المجتمع ) حيث أخبار المجتمع من رؤساء الوزارات والوزراء وطرائفهم وممازحاتهم البعض للبعض ، إبتداءا من الرئيس شارل حلو وسليمان فرنجية الى صائب سلام ورشيد كرامي ، الى رؤوساء الأحزاب بيار الجميل وكميل شمعون وكمال جنبلاط وغيرهم ..
تعرفت على أحياء بيروت من خلال كتابات هؤلاء العظام ، ومن خلال أفلام فيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين بشراويلهم المميزة ، وصعدت جبالها من خلال مغامرات فريد شوقي ، وتجولت بحدائقها مع دريد لحام ونهاد قلعي .. ومن خلال أغنية الشحرورة صباح حفظت أسماء الروشة والأشرفية وشارع الحمرا وفرن الشباك ، وعرفت بعلبك وبعبدا وعاليه وجونيه وصيدا وصور. وعشقت مصايفها حين رقصت فيها جورجينا رزق على أنغام ( داري جمالك دي العيون بصاصة ) ، ثم طربت للميجنا والميجنا وعالميجنا ، يا ظريف الطول حول عندنا .
وكان صوت فيروز في صباحات ذلك الزمن الجميل هو غذاء الروح وأحلى فطور الصباح وهي تشدو ( تك تك يأم سليمان ) و ( نسم علينا الهوى ) وكان صوتها فعلا نسمة تهل علينا في صباحات ذلك الزمن الجميل ، وتمسي ليالينا برائعتها (سكن الليل و في ثوب السكون تختبي الأحلام وسعي البدر و للبدر عيون ترصد الأيام ) فأناجيها من كردستان ” تعالي يا إبنة الحقل علك تطفئين حرقة أشواقي الى لبنان ) .
كم كنت أكره الحرب التي ثارت هناك وقتلت عشقي للبنان ، ففي خضم تلك الحرب القذرة غابت عنا لبنان فلم نعد نسمع صباح ولا فيروز ولا مواويل وديع الصافي ولا أزجال نصري شمس الدين . أخبار القتل والتفجيرات غطت على أخبار مهرجانات بعلبك ومسابقات ملكات الجمال وحفلات فيروز ، إنشطرت بيروت الى قسمين ، شرقية وغربية . قناصة ومجرمون اغتالوا بيروت التي ما كانت تنام ، دمروا شارع الحمرا ، وهتكوا عرض لبنان لا لشيء إلا لأنها كانت أجمل فتاة في الشرق !. إنقطعت عنا أخبار لبنان ، فما عدنا نرى سعيد فريحة وهو يلقي شباكه على الحدث ، ولا قرأنا صفحتين من كتابات جورج جرداق ، فعصافيره هجرت الأوكارا ، ودياره التي كانت قديما ديارا رأيناها جميعا ( قفارا ) فلم يبق غير الرماد والخراب يعمان أرجاء سويسرا الشرق وعروسة البحر المتوسط !!.
في عام 2018 كنت على موعد مع ملكة جمال الشرق وقد ظننت أنها إستعادت أنوثتها وتاجها وإرتدت ثوب عرسها من جديد ، ولكن يا لهول ما رأيت ، أعلام حزب الله تملأ الشوارع والأحياء ، صور أصحاب العمامات السوداء تزين الأبراج والجسور بدل صور فيروز والصوت الصافي وديع !!. يا للهول . عروستي مازالت تئن ، تجار الحروب قد عادوا لإغتصابها مرة أخرى !. نفس الوجوه التي هتكت عرض بيروت تحت يافطة الحرب الطائفية ، يكررون جريمتهم اليوم تحت يافطة المقاومة الشعبية !.. ويا لها من كذبة ، فهل المقاومة محصورة بحزب الله الشيعي ، أليس في لبنان من يحب بلده غير حزب الله ؟!.
ثم لماذا لايظهر من بين كل الدول العربية قاطبة غير حزب الله ليقاوم ” العدو الصهيوني ” ، هل هم أكثر وطنية من جميع العرب ، أم تراهم جنودا مجندون للمرشد الرابض بعيدا عن ديارهم !.
أينما تولي وجهك على أرض العرب ستجد دائما شرذمة حقيرة أو عصابة مأجورة تدمر البلد باسم الاسلام وتحت راية المرشد الايراني او المرشد الاخواني . أسامة بن لادن ، أيمن الظواهري ، ملا عمر يدمرون أفغانستان ، الحوثيين في اليمن ، ابو مصعب الزرقاوي وداعش في العراق وسوريا واليوم في ليبيا ، حسن نصرالله في لبنان . دائما هناك شخص مجنون يخرب البلد ويتحول الى سرطان ينهش جسده . لا أدري لماذا هذه العصابات والميليشيات تكره الجمال وتحب القبح ، يكرهون الحياة ويحبون الموت ؟!! .. أما آن الأوان لكي تعود هذه الميليشات الى رشدها وتتوقف عن أن تكون بندقية للإيجار لصالح الفرس والأعاجم ؟. ألم يحن الوقت لكي يبنوا أوطانهم بدل السعي في خرابها ؟؟!!.
اين من عيني هاتيك المجالي
ياعروس البحر ياحلم الخيال
اين عشاقك سمار الليالي
اين من واديك يامهد الجمال
لك الله يا بيروت ..