عندما يكون المرء -السوي طبعا- مؤمنا بقضية ما، كبيرة كانت أم صغيرة! إيمانا صادقا خالصا، تتجه كل ميوله وتطلعاته للتقرب الى كل مامن شأنه خدمة تلك القضية، والعمل على رفدها بكل مايصب في مصلحة تحقيقها وديمومتها، والحفاظ عليها من مداخلات تؤثر عليها سلبا.
وعندما تكون القضية أكثر شمولا وأوسع رقعة، ومشتركة بين أكثر من فرد تتشعب بينهم الكفاءات والإنتماءات، يتطلب الأمر توحيد رؤى وتقارب فِكَر وتحديد مسارات ضمن نهج يصب بالنتيجة في مصلحة القضية، وهذا بدوره يتطلب -أول ما يتطلب- نشر روح الإيثار والتضحية بين الأفراد والجماعات المنضوين تحت خيمة تلك القضية.
عراقنا الذي يعد القضية الجوهرية لكل من ينتمي اليه بصدق، هو الأولى بتوحيد المسارات التي ننتهجها جميعنا بانتماءاتنا ومشاربنا على اختلافها، إذ هو بلد يربو عدد سكانه على ثلاثين مليون نسمة ويضم من القوميات والأديان والمذاهب والأطياف، عددا لايستهان بتأثيره على سير العملية السياسية فيه، والتي سيكون لها الأثر الكبير على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وباقي أركانه الأساسية، الأمر الذي يستند عليه تطور البلد وتقدمه وتحديد مكانته بين دول العالم، لاسيما أن الأخيرة مافتئت تتسابق بكل ماأوتيت من قوة ليس في مجال اقتصادها فحسب، بل في مجالات الصناعة والزراعة والطب والتكنولوجيا، وتتنوع تسابقاتهم إبداعا وابتكارا واختراعات، بكل جديد وعملي يلبي متطلبات العصر.
ولنكون منصفين في حكمنا، إن أردنا معرفة أسباب السير السلحفاتي لعمليات عمران بلدنا وبنائه، يجب ان لانلقي اللوم على مسؤوليه وسياسييه الكبار، ورؤوس الحكم وأصحاب القرارات العليا فيه فحسب، بل ان اللوم يقع على من يشغلون مناصب مدير ومدير عام ووزير أيضا، الذين هم في محك مباشر مع مؤسسات البلد التي تعكس تطور البلد وإمكانياته، إذ انهم لم يضعوا نصب أعينهم القضية الأساس، ولم يتحلـَّوا بروح الإيثار، ولم يلتزموا مبدأ التضحية بالقليل من أجل الفوز بالكثير. حيث نرى ان شعار أغلبهم هو: (اشطب يوم واحسب يوم) لتمشية أمورهم الحياتية، وهم بهذا يناصرون مسؤولي البلد على تركهم حبل متابعة شؤونه على الغارب، بعد أن اتكلوا عليهم في متابعتها، فتشارك الإثنان بإحداث نخر بمركب يبحران به سوية، ومن المفارقات أن اللوم هو السلاح المتبادل بين ربابنة السفينة، وتراشق سهام الاتهامات يمر حتما فوق رأس المواطن المسكين، فكان ومازال وسيبقى هو الضحية الأولى والأخيرة في صراعات ساسته وقادته.
كما نجد أغلب معتلي المناصب العليا في دوائر ومؤسسات بلدنا، ينتظرون (راس الشهر) فقط، مولين اهتمامهم ومتابعتهم صفقات العقود والإيفادات والسفريات والمنح والامتيازات، ناسين -لامتناسين- شؤون مؤسساتهم ودوائرهم، إذ خرجت الأخيرة عن خانة الأولويات، ودخلت خانات النسيان والإهمال، والأخير بدوره اضحى متعمدا، بل ومدروسا كذلك، إذ لم يعد التخطيط لمشاريع يعود ريعها للبلاد وملايين العباد، بل صار التخطيط أقرب للخراب منه إلى الإعمار، ما تسبب بتلكؤ نهوض البلد، وتعثر سيره، وتأخره عن ركب باقي البلدان، ولعل بيت الدارمي الآتي يصور تقدم العراق وسط أقرانه من الدول التي كان سابقها، يقول الدارمي:
ناگة وعگرها البين واعمى بصرها
تمشي بتوالي النوگ وآنه بأثرها=