22 ديسمبر، 2024 10:50 م

الولد الشاذ

الولد الشاذ

في عرف إبن خلدون أن الدول مثل الأفراد، تولد وتشب وتكبر وتبلغ سن الرشد ثم تهرم وتموت. وكما أن بين الناس كبيرا وصغيرا، عاقلا ومجنونا، أعمى ومبصرا، مسالما ومشاكسا، فإن في الدول أيضا دولا كبرى وأخرى صغيرة، دولا شجاعة وأخرى جبانة، ذكية وغبية، مهذبة وبذيئة، آمرة بالمعروف وآمرة بالمنكر، خيرة وشريرة، كريمة وبخيلة، وفية وغدارة. ولنا من سلوك دول العالم، من أول التاريخ وإلى اليوم، دلائل على ذلك وبراهين.

وكما يوجد، داخل الأسرة الواحدة ولد هاديء عاقل مهذب لا يحب الاعتداء ولا الضجيج ولا يزعج أمه أو أباه، ولا يعتدي على أشقائه الآخرين هناك أيضا ولد شقي وعاق ومشاغب وميال إلى العنف وتكسير الأواني وتمزيق ثياب إخوته الصغار وشتم الكبار.

وقد يكون رب الأسرة طيبا متسامحا كريما عاقلا محبا للخير يغيث المحتاج، لوجه الله، ودون رياء ومنة، ويرتعش حين يذبح دجاجة، قد يكون أحد أولاده شريرا متعبا لأهله وجيرته، مخربا، وعدوانيا، ينتعش برائحة الدم، ويطرب لأنين ضحاياه.

والآن أدخل في صلب موضوع هذا المقال. إن من الحق والحقيقية أن نعترف بأن عموم أهل الخليج العربي مسالمون لا يعرفون العنف ولا يحبون اقتناء السلاح، ناهيك عن استخدامه.

وأخص بالذكر أهل أبو ظبي الذين رباهم الراحل الحكيم زايد على فعل الخير دون مقابل، وعلى الأمانة والصدق والعدل والسلام.

غادرتُ أبو ظبي قبل أربعين سنة، ولم أعد إليها إلا قبل أسابيع لأجدها جنة وارفة عامرة زاهرة، خرجت من كومة رمال لتصبح مدينة فاضلة عاقلة شامخة ببنيانها وشوارعها وبأهلها الطيبين المسالمين.

والأهم من كل شيء أنها تحولت إلى أرحب منتدى للعلم والفكر والحضارة والثقافة والدين المتسامح الوسطي الأصيل، وليس لمؤتمرات المخربين والتكفيريين والإرهابيين. لا تخلو، في شهر ولا في أسبوع ولا حتى في يوم، من مؤتمر أو ندوة أو مهرجان بحثا عما ينفع الناس ويعينهم على الزمن ويهديهم سواء السبيل، مستقطبا مبدعين ومخترعين ومجددين لا من أبو ظبي وحدها بل من جميع الدول العربية والغربية والشرقية، دون تمييز.

ولو تتبعنا مشاريع العمل الإنساني المُبرأ من غرض سياسي أو دعائي استعراضي في كل أرجاء الدنيا الواسعة لأذهلنا ما أنفقوه من أموال وجهود على بناء الجامعات والمستشفيات والمشاريع الإروائية والخدمية التي غيرت مصائر ملايين البشر، وأذاقتهم طعم الرحمة والرأفة والكرم الرفيع.

بعبارة قصيرة، إن أهل أبو ظبي شكروا الله على نعمه الكثيرة، ولم يَبطروا، ولم يستخدموا أموالهم لإثارة الفتن، وتأجيج الخلافات والعداوات، ونصر الظلم، وقتل العدل، ورعاية المجانين المنحرفين القتالين الذباحين المفجرين المتسترين بالدين، وهو منهم بريئ.

بالمقابل تأملوا دويلة ضائعة على الخارطة وهبها الله خيرا وفيرا فلم تشكر ربها عليه، ولم يتحمله عقلها الصغير، ففقدت بوصلتها، وأضاعت توازنها، وتخلت عن إنسانيتها، وركبها الغرور، ونسيت حجمها الضئيل، فأغرقت بـ (أموالها) المغمسة بالسم، والمغلفة بالمتفجرات، منازل أشقائها وجيرانها، متوهمة بأن

سياسة الإمساك برسن المليشيات المتأسلمة، ورعاية (المرشدين) والوعاظ المضللين، والأئمة المحرضين على القتل والحرق والتدمير والتكفير، كفيلة بجعلها دولة عظمى تفرض إرادتها على الكبير قبل الصغير، برصاصة الغدر، ومدفع الضغينة، وخنجر الإرهاب والإرهابيين.

هل فيكم من يجد لي واحدة من مؤسسات الفكر والثقافة التنويرية الخيرة، في بلاد الله الواسعة، حصلت على دينار واحد من تلك الدويلة؟، أو مصحا واحدا لمعالجة السرطان، أو مركزا لرعاية الأيتام، أو منتجعا لتأهيل المعوقين، في أية دولة قريبة أو بعيدة، وهبته شروى نقير؟، أو دولة عربية أو إسلامية واحدة، كبيرة أو صغيرة، لم تحترق بما نثرته من أموالها الفاسدة على المارقين من أبنائها، لخيانة أوطانهم، وتخريب شوارع مدنهم، وحقول أريافهم، وتفجير أسواق الخضار، ونسف الجسور، وهدم المدارس، وغلق الموانيء والمطارات، وقتل الجنود والضباط الأبرياء، دون رادع ولا ضمير؟.

تجري ليلا ونهارا، دون كلل ولا ملل، وبكل طاقاتها وإمكاناتها، باحثة عن تجمعات (الإسلام) المنحرف، و(الجهاد) المغشوش، في غرب الدنيا وشرقها، لالتقاطها واحتضانها وتسليحها وتدريبها، حتى وهي تعلم بأن ذلك سيجعل حياة الملايين جحيما، وكانت آمنة، وسيُخرج من ديارهم أطفالا وشيوخا ونساء بالملايين ليهيموا على وجوهمم في الوديان والبراري والملاجيء دون معين ولا نصير.

يا ألله !! كم في هذه النفس الشقية المشاغبة المشاكسة من خلل وخبل وضلال؟ والسؤال الأهم، ماذا في رأسها الصغير، وإلى أين تريد الوصول بعشق الموت وشهوة الخراب؟

ترى أيكون ذلك الشر كلُه الذي ملك عليها عقلها وقلبها وظيفة مفروضا عليها أداؤها مقابل سلامة حكامها وبقائهم؟

ألا بئسها من وظيفة، وبئس من يرضى بقبولها. ولله في خلقه شؤون.