من الملاحظ أنه ليس هناك أي ذكر أو تلميح في الدستور الامريكي لمفهوم الديمقراطية أو الدعوة الى تطبيقها (كما هو في الدستور العراقي والذي ينص بالإلتزام بمبادئ الديمقراطية). فالدستور الامريكي يدعو الى تأسيس جمهورية. فالذين وضعوا دستور الولايات المتحدة (وهم قادة الثورة والأباء المؤسسين للنظام الامريكي) كان يصرحون دائماً بأنهم أقاموا نظام جمهوري، لا غير.
أول طرح لمفهوم الديمقراطية بصورة علنية في الساحة السياسية الامريكية كان من خلال تأسيس الحزب الجمهوري-الديمقراطي بعد 25 عاماً من الثورة، والذي حل نفسه بعد عشرين عاماً من تأسيسه. ثم أعقب ذلك تأسيس الحزب الديمقراطي بعد أكثر من أربعين عاماً على الثورة وثلاثين عاماً من التصويت على الدستور. فلم تكن هنالك رغبة عند قادة الثورة أو الآباء المؤسسين للولايات المتحدة بقيام نظام ديمقراطي في تلك الدولة الفتية قبل أكثر من 240 عاماً.
فالنظام الديمقراطي هو الذي تقوم الحكومة فيه على التصويت المباشر للمواطنين، وما ينتج عن ذلك التصويت هم الذين يتسنموا السلطة ويؤلفوا الحكومة. بينما النظام الجمهوري وإن كان من تسميته يعني النظام الذي يتخاره الجمهور (أو الجماهير – اي الشعب) إلا أن هنالك مصفاة أو مرشح (filters) عن طريق مرشحي الشعب الذين يقومون بتصحيح إختياراته الديمقراطية. ومن هنا جاءت كلمة المرشح. فالنظام الجمهوري هو خيار الشعب بصورة غير مباشرة، وهذا نابع مع عدم الإيمان بأن خيار الناس يمكن الإعتماد على رصانته وصوابه.
كانت لدى واضعي الدستور الامريكي الإيمان أو الهواجس من عدم سلامة العملية الديمقراطية في أختيار الأصلح، فجاء الدستور وفيه هذا الإحتراز من الديمقراطية التي سوف تقود بإعتقادهم الى الخيار غير الصائب لجموع المواطنين. فهولاء المواطنون كان غالبيتهم في بداية تأسيس نظام الولايات المتحدة السياسي من القرويين والمهاجرين والأميين، فيكف يمكن تشكيل سلطة حكيمة ورصينة من قبل هؤلاء الناس الذي لا يمكنهم تقدير المصلحة العامة للأمة.
بمعنى آخر أن الهمج الرعاع لا يمكن أن يكون رأيهم على صواب حتى وإن أجمعوا على أمر ما، فكيف بهذا الأمر الذي يتعلق بالشأن العام ومصالح الأمة وسلطة الحكم وإدارة الدولة. فهؤلاء الهمج الرعاع أتباع كل ناعق – كما في تعبير الإمام علي- يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. وبهذه السطحية فإنه يمكن التأثير عليهم من قبل قيادة غوغائية، من الزعامات السياسية والإجتماعية والدينية، تسعى لكسب الدعم من خلال مناشدة رغبات ومشاعر الناس لكسب الشعبية بدلا من استخدام الحج العقلانية والبرامج السياسية.
لعل الآباء المؤسسين للنظام الامريكي آنذاك (والعديد منهم من الباحثين والمنظرين في الفكر السياسي) متأثرين بفكر الفيلسوف إفلاطون الحكيم الذي دحض فكرة وصلاحية ورصانة النظام الديمقراطي، فكان يعده من أسوء الأنظمة السياسية التي تقود الى هلاك الأمة، وإن أفضل نظام – بالنسبة له- والذي يمكن من
خلاله حفظ مصالح الناس وأن يقف على الحق والعدل هو نظام حكم الفيلسوف (أو بحد تعبيره: الملك-الفيلسوف). فقد كان في زمن إفلاطون طبقة السفسطائيين الذين هم الغوغائيين المثرثرين (الذين يخدعون البسطاء على أنهم علماء، ولكنهم متفلسفيين، لا يفقهون الحكمة والفلسفة) لغرض أن يكسبو تأييد الجماهير بكلام عاطفي غير منطقي وغير علمي وغير مفهوم ولم يركنوا الى ركن وثيق، فيخدعوا البسطاء من الناس للحصول على أصواتهم . (أليس هذا حال أغلب السياسيين عندنا اليوم!!!).
ولغرض حماية الجمهورية، عمل قادة الثورة الامريكية على وضع عدة حواجز لمنع وصول أمثال هؤلاء الغوغائيون الى سدة الحكم عن طريق العملية الديمقراطية. وكانت هذه الحواجز التي تعمل على تصحيح الإختيار الديمقراطي تتمثل بالآليات التالية:
أولاً: تقليل عدد المواطنين الناخبين، والتي منها التسجيل المسبق للإنتخابات، وجعل الإنتخابات في يوم عمل (وهو يوم الثلاثاء دائماً) وليس أثناء العطلة الرسمية. بمعنى أن المواطن الذي يرغب بالتصويت عليه أن يقوم بتسجيل معلوماته الشخصية مسبقاً في قاعدة الإنتخابات في الولاية التي يقطن فيها، وأي تغيير في المعلومات (مثل تغيير محل سكنه) يفقد حقه في الإنتخابات. وبهذا فإن المواطن الناخب عليه أن يعمل ما في وسعه وقدرته للإنفكاك من عمله اليومي أو التضحية في رزقه ليقوم بعملية التصويت. فالتصويت واجب طوعي ولكن ليس فرضاً على المواطن بقوة القانون. فنسبة التصويت في الولايات المتحدة تتراوح ما بين 25% الى أعلى نسبة قد تصل الى 50%.
ثانياً: في السلطة التشريعية، جرى استحداث مجلس أعلى وهو مجلس الشيوخ (الأعيان) لتمثيل الولايات بصلاحيات تتجاوز صلاحيات مجلس النواب الذين يمثلون الشعب بالتصويت المباشر. فلكل ولاية عضوين في مجلس الشيوخ بغض النظر عن عدد سكانها. فولاية كاليفورنيا (التي عدد نوابها 55) وولاية ألاسكا (لها نائب واحد فقط) لهما نفس الثقل في مجلس الشيوخ. وعضوي مجلس الشيوخ للولاية كانا زماناً عند كتابة الدستور غير منتخبين ولكن يختارهما حاكم الولاية بالتشاور مع نواب الكونغرس فيها. ولكن في الآونة الاخيرة جرى التعديل بإختيارهما عن طريق الإنتخابات، وقد يجري إختيارهما ليس عن طريق التصويت.
ثالثاً: مع أن التصويت لرئيس الجمهورية يجري بصورة مباشرة للمرشحين للمنصب، ولكن إنتخابه يجري بصورة غير مباشرة عن طريق المجمع الإنتخابي. فلكل ولاية عدد معين من الناخبين في هذا المجمع لكل ولاية، وهؤلاء الأشخاص بعد إنتهاء عملية التصويت يجتمعون لينتخبوا رئيس الجمهورية.
جميع هذه الآليات الحاكمة على عملية التصويت وضعها محرري الدستور الامريكي لكي يعطوا الضمانة بأن لا يصل الغوغائيون والمحرضين ومثيروا الفتن من الوصول لسدة الحكم. فقد صرح أحد قادة الثورة الأمريكية الإسكندر هاملتون بأن آلية المجمع الإنتخابي إنما صممت لضمان أن “منصب الرئيس لن يقع بيد أي شخص ليس بمستوى درجة مرموقة أو ليست لديه المؤهلات (المعنوية) المطلوبة.”
في الجدل الدائر في الولايات المتحدة جراء إنتخاب دونالد ترمب وعدم تحليه بالمؤهلات المطلوبة ليكون رئيساً للولايات المتحدة، وكذلك التظاهرات الحادة والكبيرة التي إندلعت في الكثير من المدن الامريكية
الكبرى، يجري الحديث بأنه هل هنالك من آلية لعزل الرئيس الذي تم التصويت عليه من قبل أقل من نصف المواطنين الناخبين، من خلال اللجوء الى عدم تصويت المجمع الإنتخابي على هذا المرشح الرئاسي.
باختصار، فإنه قد تم وضع آلية المجمع الإنتخابي في الدستور لمنع مثل هذه الحالات بوصول الغوغائيين (دونالد ترامب) لسدة الحكم في الولايات المتحدة وليس لديه مؤهلات القيادة والكفاءة حتى وإن فاز بالإنتخابات المباشرة. ومع أنه ليس هنالك من حالة سابقة بإستعمال هذه الآلية، ولكن هذا الإستثناء ممكن دستورياً.