23 ديسمبر، 2024 5:02 ص

الولاء للأرض وليس للوطن أو للدولة

الولاء للأرض وليس للوطن أو للدولة

عندما يتحدثون عن الولاء للوطن فإنهم، في الواقع، يقصدون الولاء لمفهومه السياسي وشكله الإداري المتمثل في الدولة. الدولة ومبدأ السيادة وعدم التدخل والحفاظ على الحدود، في حقيقة الأمر ، مفاهيم مستحدثة، ظهرت قبل حوالي 350 سنة أو أكثر بقليل، ويؤرخ لها عموماً بمعاهدة ويستفاليا التي أنهت الحروب الدينية في أوربا عام 1648م، وإلا فقد كانت الأرض مشاعة للتنقل الحر، يتحرك فيها الإنسان ويرحل حيث استقرت به أسباب العيش وتوفرت له متطلبات الحياة، ولا غرابة أن يعود الاتحاد الأوربي الى ذلك المظهر الإجتماعي ويسمح لمواطنيه بحرية الإنتقال في سوق العمل المفتوح، لأنه اقرب الى طبيعة الإنسان ككائن حر.
الولاء للوطن او للدولة ليس رابطا جينياً حتميَّ الإلتزام والنفاذ من قبل الإنسان، وانما علاقة عقدية اذا اخل بها احد الطرفين انفرط وانحل وأصبح الطرف الآخر برئ الذمة من شروطه، بكلمات أخرى: ما الذي يجبر الإنسان ان يوالي وطنا او دولة لا تحفظ حقوقه ولا تصون كرامته ولا توفر له أسباب العيش الرغيد؟، واي واجب يمليه مثل هذا الوطن ويحتِّمه؟، ناهيك عن تعسف الوطن بشكل أو بآخر في حق الإنسان واضطهاده وإنتهاك حقوقه.
لهذا نجد ان الله تعالى يؤاخذ المضطهدين بفتح الهاء، الذين لا يفتقدون الحيلة ولا يجهلون الطريق، ويلومهم ثمّ يحاسبهم لأنهم لم  يهاجروا في أرضه الواسعة وارتضوا الذلّ والخنوع عندما لم تلتزم “الدولة” بعقد الولاء، ولم الله تعالى القمع والتنكيل المفروض عليهم عذراً وحجّة لمجانبة الصراط المستقيم وعدم اتباع المنهج الصحيح وقال في خطابه المجيد:”( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا)”.
يتجسّد ذلك بأوضح صورة في قرار الرسول صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وصحبه، عندما هاجر من مكة أولاً، وهجرها لاحقاً، ولم يعد اليها حتى بعد ان استتب له الأمر ودانت له العرب، رغم انها – اي مكة -كانت من أحب البلاد الى قلبه واكرمها عند الله تعالى.في الحديث (لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ ، قَالَ :” أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ” ) ، وربما تسبب له ذلك، كما يستشف من الموقف ألماً وحسرةً، ليس من جراء انفراط عقد الولاء مع الوطن او “الدولة” فحسب، وانما بسبب فك رباط الأرض وما عليها وفيها من كائنات ومقومات وملامح ومظاهر، والله اعلم.
الإنسان اذن له ولاء وارتباط ذو طابع جيني مع الأرض فقط وليس مع الوطن كأصطلاح جيوغرافي-اجتماعي للتعبير عن تفاعل النَّاس والأرض ، ولا للدولة كمسمّى للكيان الرسمي الذي يقوم بعد إلباس الوطن بنظام سياسي ، وعندما يحن فهو يحن الى التراب والحجر والشجر والعشب والماء والشمس التي تشرق بعين لا تشبه غيرها والليل الذي يخيم بعطف ويرخي سدوله بحنان لا وجود لمثيله (الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام، حتى الظلام- هناك أجمل، السيّاب)، وعندما يشتاق يشتاق الى الأهل والمناخ والروائح والنكهات والذكريات ومهيجات المشاعر الحميمة التي تنعش القلب وتدغدغ الروح، ذلك هو سر الهومسيك وذلك هو مبعث الحنين الى ارض الطفولة. [email protected]