ما إن تتقدم خطاك, وأنت تسير بين الأزقة الضيقة, متجها نحو ذاك المكان, حتى تحس بشعور لا يمكن وصفه, شعور من الروحانية يملأ النفس, فيأخذها إلى مديات بعيدة.
خطوة تلو الخطوة, يبدأ القلب بالخفقان, وتغرورق العيون بالدموع, وتختلج في داخلك مشاعر مختلطة, بين البوح بالألم, وبين طلب المغفرة والمعونة من الله لتخليصك مما أنت فيه.
تخترق السوق الكبير (المسقف), وعند نهايته تترآى أمامك القبة الشامخة لفحل الفحول, وبطل الإسلام الخالد, الذي بسيفه قام الإسلام وأنتصر, أنها القبة المنيفة, قبة ضريح الهمام السيد الضرغام أمير المؤمنين علي عليه السلام.
تختلط المشاعر, وتدخل في عالم ليس من عالم المادة, إنه مزيج من عالم الروحانية وعالم المعرفة, حيث تقتنع بالسنن الإلهية, إذ تذعن بأن من أعطى لله كل شيء, فسيعطيه الله كل شيء, وترى أن من حاربه الأعداء وحاولوا طمس آثاره, كيف أبى الله إلا أن يعلي شأنه, وتنصب له علامة تهوى إليها أفئدة المؤمنين, فتنتصب القبة الشامخة حاكية عن عظيم الأثر الذي زرعه علي بن أبي طالب عليه السلام في المسيرة الإنسانية.
وأنت تقف على باب الساعة -وهو أول باب يأخذك للدخول إلى الصحن الشريف- لا تحس إلا وأنك بدأت تنسلخ من عالم المادة, ومن ثقل الحياة وهمومها, وتبدأ بالتوغل إلى عالم الروحانية التي ليس فيها إلا السلم والأمان.
تدخل الصحن الشريف, ثم تنطلق لتقف على باب الروضة الأول, لتؤدي السلام على النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله من عند ضريح أمير المؤمنين عليه السلام, فيكون للسلام معنى آخر, وكأنك تقول لرسول الله صلى الله عليه وآله “يا رسول الله, ها أنا من البعد, ومن عند أخيك ووصيك, أبعث سلامي, علّك ترده وتقبلني على ما أنا فيه, فأنت الكريم الذي لا يرد سائلا” ثم ترطب شفتيك بتلك العبارات في السلام على رسول الله كلمات كلها سكينة قائلاً “السلام على رسول الله امين الله على وحيه وعزائم امره ..
الخاتِم لِما سبق والفاتح لِما اِستُقبل والمهيمن على ذلك كله ورحمة الله وبركاتهِ..
السلام على صاحب السكينة, السلام على المدفون ِ بالمدينة ..السلامُ على المنصور المؤيد ..
السلام على ابي القاسم محمد ابن عبد الله ورحمةُ الله وبركاتهُ.
عبارات السكينة التي تضمنتها زيارة النبي محمد صلى الله عليه واله, من عند باب المولى علي عليه السلام, تجعل قلبك في راحة تامة, ويتهيأ للدخول في أجواء الطمأنينة.
تنتقل داخل الضريح, لتبدأ تشم عطر الخلود, وما أن تقف على الباب المقابل للضريح, وهو أخر باب منه تصل للشباك الطاهر, وتتأمل بعظمة الخلود الذي رسمه الفتى علي بن ابي طالب عليه السلام, بجهاده وصبره وتضحياته للإسلام, وما أن تهوى ساجدا على عتبة ذلك الباب شاكرا لله لهذا التوفيق, إلا وتحس أن كل الهموم التي أثقلت كاهلك قد زالت لتنهض خفيفا منشرح النفس ومنفتح السريرة, وقوفك في هذا الباب متأملا ضريح بطل الإسلام تحس معه بتوقف الزمن, وأن لا معنى للوقت والايام والسنين أمام عظمة الموقف الذي رسمه فتى الإسلام علي عليه السلام.
تلج وتقترب شيئا فشيئا من الشباك الطاهر, وترى الناس الملتفين حول الضريح, ما بين داعٍ وباكِ وشاكٍ ومبتهل, وحين تلمس الشباك بيديك لا تشعر إلا وكأنك في جنة الله, فلا قول هناك إلا سلام, ولا خوف ولا فزع إلا رحمة من الله وسكينة تشفي العلل.
الوقوف على أعتاب علي عليه السلام دنيا أخرى, ليست من سنخ ما نعيشه من تكالب على هذه الدنيا الفانية, الوقوف هناك يرسم في ذهنك قصص الخلود, وعطاء الله للمؤمنين الصابرين, وترسم في داخلك لوحات من سكينة وطمأنينة لا تجدها إلا في تلك الرحاب.