27 ديسمبر، 2024 6:36 م

الوقوف بين السماوات ورأس الحسين

الوقوف بين السماوات ورأس الحسين

غالبا ما كان الشعر في تاريخه الطويل وسيلة لتحقيق غرض ما , شخصي او عام , وهذا ليس بضائره طبعا بوصفه وسيلة جمالية للتواصل والتأثير , ولذلك كانت درجات الصدق فيه مختلفة بحسب دوافع القول وهذا امر طبيعي ايضا , لكن الشعر في الوقت ذاته نادرا ما يكون منزها عن المصالح ومحكوما بصدق تام في القول يغلفه من الفه الي يائه , وهذا النادر قد عرفته العرب في غرض واحد ابتدأ في اول امره بالرثاء ثم ترشح في رثاء اهل البيت لا سيما رثاء الامام الحسين خاصة .
وربما لا نجد شاعرا في سجل الشعرية العربية منذ واقعة الطف الى الان ابتغى نوالا من رثائه الحسين او طلب منفعة دنيوية , بل يمكن القول اننا غير واجدين مهما بحثا وتقصينا شاعرا عربيا قال في الحسين شعرا دون ان يكون مدفوعا بالحب الخالص والايمان الصافي والاعجاب الزائد بشخصية الحسين ودون أن يكون هناك ما يشوب حبه وايمانه واخلاصه ادنى شائبة , وعلى هذا سار الشعراء منذ كربلاء والى الآن وهم يتسابقون لا لنيل جائزة او مكرمة , بل لإثبات ولائهم لقضية الحسين , وللتعبير عن فرط محبتهم لهذا الرجل الذي آثر طريق الخلود على بهرج البقاء رغم وعورة الاول ولذاذة الثاني .
وليس من المبالغة القول ان الشعراء العراقيين كانوا دائما اصحاب السبق في معانقة الحدث الحسيني وقد يكون تعلة ذلك يعود الى قربهم من شواخص الثورة الطفية في كربلاء , حيث المراقد المقدسة وحيث المراسيم الرهيبة التي تحتضنها ارض العراق بكل اطرافها كل عام , ثم ان الشاعر العراقي يرى ان الحسين شريكا له في الصبر والنضال والمبدئية العالية  في تاريخ امتد من القرن الاول الهجري ومازال يلون ايام العراق بالانكسارات المتلاحقة والتشاؤم نتيجة الفعل السياسي المتخلف الذي ابتلي به هذا البلد اكثر من غيره من بلدان العالم .
ومظفر النواب الشاعر العراقي الرافض , والمشاكس الدائم والرجل الذي وضع خشبة اعدامه على رقبته وهو يجول بقاع الدنيا دون خوف او وجل , هذا الشاعر وجد في الحسين مناضلا لا يمكن الا تجل افكاره وتعلى, فقد انبثقت تلك المبادئ من نفس كبيرة ابية غايتها تنبيه العقول وتحفيزها للثورة الدائمة . 
يضعنا النواب في نص حسيني له قيل في حق الامام وجها لوجه امام التاريخ بكل ما يمثله من هيبة وتجلة , انه تاريخ الارتباط بالإرث المحمدي المقدس , وها نحن امام تلك الهالة النورانية ونحن نلج عالم الحسين الرحب , الذي تغادر الكلمة فيه الحدود التعبيرية للغة الى مديات دلالية لا حصر لها , يقول النواب :
فضةٌ
من صلاةٍ
تعمّ الدخولْ
والحمائمُ أسرابُ نورٍ
تلوذ بريحانةٍ
أترعتها ينابيعُ مكةَ
أعذبَ ما تستطيعُ
ولست أبالغُ
أنك وحيٌ
تواصلَ
بعد الرسولْ
فأسراب الحمائم في ذلك المكان بقدر ما توحي بالسلام فإنها رغم ذلك تلوذ بمرقد ريحانة الرسول , فإي سلام تنشد ؟ واي امان يمنحها الحسين ؟ هذا المشهد الهائل لا يتحقق الا لوحي ممتد روحيا من الرسول ليتجسد بشخص ابن بنته … انه الامان الذي تشعر به الكائنات في حضرة من نذر نفسه للسلام كل ذلك يقدمه النواب للمتلقي من خلال كشف وحدس شعريين رائقين . ويرسم الشاعر صورة استعارية معبرة لهيبة المكان في لحظات اندماج الذات في وحدة صوفية وانغماسها الكامل في عالم من التماهي  , فيقول :
ومن المسك أجنحة وفضاءٌ
كأني أعلو…
ويجذبني أن ترابك هيهات يُعلى عليه
وبعض الترابِ سماءٌ
تنيرُ العقولْ…
ليس ذا ذهباً ما أقبّلُ…
بل حيثُ قبّل جدّك
من وجنتيك
وفاض حليب البتولْ…
فما ابلغ قول الشاعر : كأني أعلو ويمسكني أن ترابك هيهات يعلى عليه , وهو يقدس التراب الذي احتوى جسد الامام , فليس ذاك الذي تقف قدم الشاعر عليه تراب بالمعنى المعتاد انما سماء تنير العقول , وليس ما يقبله الشاعر من ذهب كأي ذهب يستخدمه الناس انما خد مقدس طالما كان موضعا لشفتي رسول الله ص وهما يرسمان عليه قبلة إلهية عذبة , وهذا التخليق الشعري دليل على جماليات الفعل الشعري مرهونة دائما بتعاليه على شكليات اللغة وانبجاسه مما يقع خارج المألوف .
هذه الاجواء المفعمة بالنور والجمال , وهذا العالم القدسي , لم ينسي الشاعر ان مقصوده الحسين , بل شواخص الحسين من ضريح وتراب وسماء تمثل عنده مثابة للرفض والثورة , وبالتالي فغن تلك المثابات تتحول الى اسئلة وجودية بفعل الرؤيا الشعرية, فيقول :
لم يزل همماً للقتالِ
ترابُك..
أسمع هولَ السيوفِ
ووهجَ ضماك ينيرُ الضريحَ
ويوشكُ قفلُ ضريحك
أن يتبلج عنك…
أراك بكل المرايا
على صهوةٍ من ضياءٍ
وتخرج منها
فأذهل أنك أكثر منا حياةً
ألست الحسينَ بنَ فاطمة وعليْ
لماذا الذهول؟
فالشاعر النواب بعد ان يؤخذ بالذهول لروعة المشهد يتمالك نفسه ليعود مسائلا نفسه عن سبب ذلك الذهول لتصبح المفردات عناصر لتكوين الذات وتبلورها في هذا المشهد الهائل , فالحسين اكثر منا حياة , انه كتلة من ضياء , ولم العجب والذهول ؟ فهو ابن علي قاصم الجبارين وابن فاطمة سيدة نساء العالمين , وهذا حري بكل احد ان يكون الحسين درسا ونبراسا في الوقت ذاته , يقول الشاعر وهو يرسم مشهدا مؤثرا للإمام  :
قد تعلمت منك ثباتي
وقوة حزني وحيداً..
فكم كنت يوم الطفوف وحيداً
ولم يكُ أشمخ منكَ
وأنت تدوس عليك الخيولْ…
من بعيدٍ رأيتُ
ورأسك كان يُحزُّ
حريقَ الخيامِ
على النارِ أسبلت جفنيك
حلما
ويستمر المشهد بصورته الدامية لكن بعد ان تتصاعد وتيرة الحدث بشكل مفجع , هذه الفجائعية ليست فعلا انعزاليا بل هي حدث لغوي يحاول ان يجسد عوالم مفترضة من الحزن الايجابي , الحزن غير الملتبس بالسكون انما هو ذلك التيار من التحولات التي تهدف الى اعادة الحياة في الحدث في كل لحظة  , فيقول النواب :
بكى الله فيك بصمتٍ
وتم الكتابُ
فدمعك كان ختام النـزول…
مُذْ أبيتَ
يبايعك الدهرُ…
وارتابَ في نفسه الموتُ
مما يراك
بكل شهيدٍ
فأين تُرى جنةٌ
لتوازن هذا مقامك
هل كنت تسعى إليها… حثيث
الخطى
أم تُرى جنة الله
كانت تريد إليك الوصول؟
والنواب مع معرفته بمنزلة الامام واستجابته له , لم يك صاحب طلبة وهو في حضرة الحسين , فمقام الوقوف الذي هو فيه اجل من يتنزل الى مصاف الحاجات على الرغم من رغبة الانسان في قضاء حاجاته في مثل تلك المواقف لمهيبة , وهنا يغادر الشاعر العلائقية التقليدية بالحسين نحو تواشج روحي بفعل القطيعة التي يبتغيها الشاعر مع كل ما هو قار من علاقة بين الحسين والآخر  .
يقول النواب :
واقفٌ وشجوني ببابك
ما شاغلى جنة الخُلد
أو استجيرُ من النارِ
لكنني فاض قلبي بصوتك
تستمطرُ الله قطرة ماءٍ
تطيلُ وقوفك
ضد يزيدٍ
إلى الآن
اذا ليس الجنة ولا الاجارة من النار ما يبغيه الشاعر لكنه يبغي ذلك الصوت الذي فاض في قلبه  … صوت الامام وهو يستمطر الله قطرة ماء تطيل وقوفه ضد يزيد الى الان , فهذا التوحد والتماهي لا يماثله أي فعل وجودي وبذلك فهو اجدر من غيره في ان يطلب لذاته  .
وليزيد عند الشاعر امتداد مازال ينغص عيشنا … انه كثير الفروع , فما احوجنا في كل آن الى الحسين , وما اكثر حنيننا الى كربلاء مستمرة  .
 يقول النواب :
لله مما بتاريخنا من مغولٍ
ومما به من ذرى لا تطالُ
وعنها انحدارُ السيولْ
إننا في زمانٍ يزيدٍ…
كثير الفروعِ
وفي كل فرعٍ لنا كربلاءُ…
ويبدو ان الشاعر يحاول ان يستثمر جدل الثبات والشهادة من الحدث الحسيني لخلق حالة من الحركية الدائمة وهو ينشد المقاومة ليصب جام غضبه على زمن لم يعرف للمقاومة حق قدرها , لذلك يتعهد لإمامه بالمقاومة .
يا إمام الشهادةِ
عهدٌ على عاشقي كبرياء السماوات
في ناظريك…
نقاومُ
ومع كل ما تقدم فالشاعر يواصل وهو في حضرة امامه ثباته المستمد من تاريخ الحسن على الرغم  من الطريق ليس سهلا ابدا , لتتحول اللغة في هذا الموضع من القصيدة الى فعالية من الاعتراف بالعوائق الممزوجة بفعل المغايرة ,  فيقول :
نعرفُ أن القتالَ مريرٌ
وأن التوازنَ صعبٌ
وأن حكوماتنا في ركاب العدوِ
وأن ضعاف النفوس
انتموا للذئابِ
وعاشت ذئابٌ من الطائفية
تفتك بالناس…
ما أنت طائفةٌ
إنما أمةٌ للنهوضِ…
تواجه ما سوف يأتي…
إذ الشرُ يعلن دولته بالطبولْ
وفي لغة مكاشفة يتقدم مفرداتها ضمير المتكلم لا يرتضي الشاعر لنفسه ان يبكي اذ ان البكاء تأباه الرجال الذين يستمدون من الحسين عزائمهم , لكنه وفي صورة مجازية ساحرة ها هي عيون الشاعر في موقف الحسين وهي تذرفه امام الضريح حينما يرى رأس فلسطين يطاف به كما طيف برأس الحسين في محاولة فذة في جعل الماضي يتماهى مع الحاضر , فيقول :
لست أبكي
فإنك تأبى بكاء الرجالِ
ولكنها ذرفتني أمام الضريح عيوني
يطافُ برأسك فوق الرماحِ…
ورأس فلسطين أيضاً يُطافُ به…
في بلاد العروبةِ
ياللمروءةِ
والعبقرية بالجُبن…
أما العراقُ… فيُنسى لأن ضريحك
عاصمةُ الله فيه
وجودُ بنيه، أقلُّ من الجود والروح
جودٌ خجولْ
ويخاطب الشاعر وطنه المنكوب بكل انواع الرزايا , يخاطبه وكأنه الحسين يأبى ان يموت فهو يسل على الموت كل الصباحات , ويغمد في الحزن كل المساءات , على الرغم من انه عرضه للسهام لتبقى اعنة خيول الزمان بيديه , يقول النواب :
وطني رغم كل الرزايا
يسلّ على الموت كل صباحٍ
ويُغمد في الحزن كل مساء
وينهض ثانيةً والصباحاتُ بين يديهِ
بطاقاتُ عُرسٍ
وتبقى الثريا، معلقةً فوقه
إسوةً بالثريات،
فوق ضريحكَ…
يا ربُّ نوّر بتلك الثريات وجهي…
وبالطلع
والرفقة الثابتين على الدرب
عرضاً وطولْ
ها أنا عُرضةٌ للسهامِ
إلتحاقاً بموقفك الفذّ
يوم ترجلت… بين الرماحِ
وأنت الذي بيديك عنانُ خيول الزمان
فما وقفة العز يومٌ
ولكن زمانٌ…
ولا ينسى الشاعر جرح العراق الذي طحنته جيوش الحصار , ليرسم لنا معادلة طرفيها رأس العراق من جهة ورأس الحسين من جهة اخرى , وكأن العراق يمثل معادلا موضوعيا لقضية الحسين , يقول النواب :
وهذا العراقُ… وقد رجلته جيوش الحصارِ
وحيداً يصول
وكأن العروبةَ
ليس ترى
كيف يحتزُ رأسُ العراقِ
وكيف تقطّعُ أوصالُهُ
ويطوف يزيد به في البلادِ
وواهٍ من الإنكسارِ المريرِ بعين الرجالِ…
يمدون أيديهم لزمانِ لكم أكرموهُ
ولم ألقَ مثل العراقِ
كريماً خجولْ
وهكذا يختتم مظفر النواب مناجاته للحسين ليؤكد على ان , انها مناجاة الارواح التواقة لكسر القيود , ولرفض كل انواع الحيف والغبن في زمن اصبحت المهادنة فيه ديدن الاكثرية .