23 ديسمبر، 2024 9:22 ص

الوقوع في هوى الكعبة

الوقوع في هوى الكعبة

أن تحب شخصا رأيته أو مكانا مررت فيه هذا طبيعي ، لكن أن تحب وتشتاق وتعاني من أجل الوصول الى مكان لم تره من قبل فهذا هو الغريب ، ولكن ماوجه الغرابة ودعوة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام قد إستجيبت وخرقت شغاف قلوب المؤمنين حين دعا (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) سورة إبراهيم /  الآية 37. فهاهي أفئدة الملايين من المسلمين تسرع  شوقا للنظر الى الكعبة المعظمة .
 كم  من المرات تخليت الكعبة أوشاهدت صورا مختلفة لها ، ولكنها ستفاجئك وتظهرلك من حيث لاتحتسب ، وحين تقع عينك عليها ستوقن أنك لم تر جمالا ولامهابة ولاجلالا مثلها ، وستنهمر دموعك كالفيضان تطهرك من آثام الماضي وتهيئك للدخول الى ملكوت الرضوان .
 هنالك ستضع أحمالك وتشف روحك وتتحرر من ثقلة الجسد ، سيسابقك الكبار والمرضى والعجائز ، إنها بركة المكان ، وأنوار الحرم ، وحين تتجول في ربوع مكة ، ستقف مدهوشا أمام (حراء) جبل النور ومهبط الوحي ، وستفهم كيف يمنحك فضاء حراء إمكانية رؤية الأشياء من أعلى مما يمنحك آفاقا أرحب ونظرات أعمق.
الحج مناسك إبتدأتها أسرة مسلمة مؤمنة تتألف من ثلاثة أعلام (الأم هاجر وابنها الرضيع إسماعيل) والأب (إبراهيم) الذي وضعهما بهذا المكان القفر ثم عاد أدراجه لفلسطين حيث موطن سكناه ، وترك لهما زادا قليلا ، وكان الأب يحاول أن يغادر مسرعا كي لايطيل عذاباته بفراق أحبته ، فنادته (هاجر) آلله أمرك بهذا ؟ فأجابها ، نعم ، فقالت ( لن يضيعنا) وقد كان .
نفد الزاد وجاع الرضيع ، فتحرك قلب الأم  ، فبدأت تبحث عن طعام أو شراب ، وهي لاتستطيع الإبتعاد كثيرا عن إبنها ، فكانت ترتقي التلال القريبة وتبصر ماحولهما لعلها تعثر على شيء ، فكانت تهرول بين الهضبتين حتى بلغت سبعة أشواط ، ثم جاء الفرج من الله تعالى وتفجر زمزم ، فشرب الرضيع واسُتوطن المكان وأعتاده العُمّار.
ستفعل مثلها وتهرول بين الصفا والمروة ، ولكن إياك أن تنسى الشعار(لن يضيعنا) لأنك إن ظننت أن السعي مجرد خطوات بلا مضمون ستهدر طاقة الحج ومقاصده.
ويكبر الغلام ويأخذ من قلب أبيه مساحة ، فيأمره الله تعالى أن يذبح إبنه (فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين ) سورة الصافات / الآيات 102 – 108
  هل تتخيل المشهد ، منتهى الإخلاص والصدق والإحسان ، يريد الله أن يضرب لنا مثلا في الطاعة المطلقة ،  لذا إستحقت هذه الأسرة المؤمنة الصلاة والسلام في كل صلاة  تذكيرا بعظمة ماقدموا وتأسيا بهم  من خلال إستذكار عملي لما جرى كتدريبات سنوية على الترقي في مدارج الطاعات .
  الحج بداية لحياة جديدة ، ولكن من حانت منيته هناك فمحسود من رفاق رحلته وغيرهم ، فلازلت أذكر ومنذ سنوات مضت أن أحد الحجاج قد رزقه الله تعالى الوفاة في الرحاب الطاهرة ، فتعالت الأصوات (هنيئا) و( بالعافية) رجاء أن تكون حسن خاتمة له تفاؤلا بقدسية المكان وفرحا بمجاورة الرحمن .
أما المدينة (طيبة) مثوى الحبيب فلحديثها شجون وللعيون فيها شؤون ، لن تستوقفك المنائر العظام أو طراز المعمار أو السؤال عن إمتزاج الأصالة والمعاصرة فيه ، بل يشغلك  سؤال داخلي يمور في أعماقك ، أين الروضة ؟
ستجتاز أعمدتها وتكحل عينيك بالمحراب ، وكنت تحاول قبل الوصول أن تحفظ للسلام صيغا وعبارات ، ما إن تقف أمامه حتى تضيع منك الكلمات وترتجف فأنت بين يدي حبيب الحق وسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم ، ستجدد العهد وتأخذ على نفسك العهد أنك ستسير على دربه ، وتعلي قيمه.
في كل عام وفي مثل هذه الأيام والحجاج على وشك الرحيل ، يزداد شوقك ، وتمنّي الروح بقرب اللقاء وتهمس راجيا لعلها في العام القادم ، وتعزي نفسك ببعض الأبيات لعلها تقنعك عن تعويض ماتشعر به من خسارة أن لاتكون معهم ، تصّبر، فلست وحدك ، فكلنا يجتاحنا شوق دفين إسمه (الوقوع في هوى الكعبة) .
إضاءة :
رب ذي شوق لبيت الله قد أشرع فلكهْ
هجر الأهل والأوطان بلا رأي وحنكة ْ
حسَبَ القرب من الله بأن يسكن بكة ْ
كل هذا الكون بيت الله قد أبدع سبكه ْ
من كان في قلبه الله فأنى سار مكة
(الشاعرعمر بهاء الدين الأميري ، من ديوانه قلب ورب ).