أذكر في ثمانينات القرن الماضي وأثناء تدشين خط اسمنت انتاجي جديد بناه اليابانيون، أن مدير الانتاج البريطاني “الغير متخصص” كان يوعز “باطفاء” الخط عندما تحدث المشاكل التقنية الكبيرة، علما بأن هذا الاجراء خطير وحرج نظرا لارتفاع درجة حرارة الفرن، مما قد يؤدي لاعوجاج “اسطوانة الفرن” الباهظة التكاليف، وكان احيانا يتهرب من اتخاذ القرارات الملائمة بمغادرة مكان العمل (والذهاب خلسة للنوم) خوفا من مواجهة “غضب” المهندس الياباني المعني بمتابعة التشغيل التجريبي والذي كان يعنفه باستمرا، كما أذكر أن فنيا باكستنيا في مصنع آخر، كان يهرول راكضا عندما تحدث مشكلة فنية في غرفة التحكم المركزية، تاركا للآخرين امكانية حلها، ويعود بعد التأكد من “عودة المياه لمجاريها”، مدعيا أنه ذهب لموقع الخلل وحل المشكلة، وعندما لاحقناه بعد ان راودتنا الشكوك، اكتشفنا انه يختفي في حمامات المبنى خلال تلك الفترة، وحتى أبقى محافظا على حس الطرافة هنا، فسأذكر بصدق قصة الطبيب المصري في أحد مصانع الاسمنت السعودية، الذي كان يتهرب أحيانا من الحالات الطبية الطارئة بحجة انشغاله دوما بالصلاة، وكان يبرر ذلك بخفة دم مصرية معهودة: “يا أخي ايه يعني دانا ما اقدرش اعمل حاجة اذا كان ربنا عاوزه يموت حيموت”! ثم تبين بعد البحث والااستقصاء أن صاحبنا هو مجرد “تمرجي” عادي انتحل صفة الطبيب ليكسب المال والأجر السخي، وهكذا كان…كما اذكر ان بعض المهندسين المحليين، كانوا “يغبرون” أنفسهم وملابسهم عند مقدم “الباشمهندس مدير عام الشركة” للموقع الصحراوي النائي، ثم يدخلون عليه بحالة يرثى لها من ” التغبير والاعياء والادعاء” طالبين بجرأة زيادة رواتبهم ومكافآتهم وتقدير عملهم المضني!
هناك تعريف عالمي طريف للخبير الاجنبي او المستشار يقول: “انه الشخص الذي يستعير ساعتك ليخبرك عن الوقت”! وأستطيع أن اؤكد من واقع خبراتي المتراكمة مع بعض المستشارين الأجانب والمحليين انه يمكن تحريف هذا التعريف ليصبح: “انه الشخص الذي يأخذ ساعتك ثم يولي هاربا عندما تسأله عن الوقت”!…ان أحد اكبر مساوىء وعيوب مفهوم “الجودة الشاملة” يتلخص في شموليته وتعبيراته الانشائية التي تسمح بادعاء الخبرة، وأذكر انه في نهاية دورة مكثفة حضرتها في طوكيو بعنوان “تحسين المنتجات الصناعية، اذكر ما قاله أحد كبار اساتذة الجودة الشاملة البرفسور “كانو” (صاحب نظرية كانو): “لا تحاولو فور عودتكم لبلادكم تطبيق تقنيات الجودة مباشرة بل انتظروا الاستعداد والوقت الملائم، لأن الفشل بالتطبيق قد يؤدي لاحباط واخفاق لا يرغبه احد”!… وبالفعل لا توجد في الحقيقة “وصفة سحرية” تؤخذ من دكان “خبرة وادارة” ثم تنفذ حرفيا فتؤدي للنجاح، بل يكمن النجاح في كوادر الشركات العريقة التي بنت خبراتها الادارية والهندسية على مدى سنوات عديدة، وجمعت خلالها خبرات “ألمانية وبريطانية وفرنسية ويابانية”، ثم كونت كوادر متخصصة، ولا يجديهنا التطفل والادعاء والتسلق على أكتاف الآخرين، كما ان الصناعة تحديدا لا يجدي فيها الا الأفكار “الواقعية الميدانية” والتخصص المباشر، ولا تنفع فيها “الأفكارالمعلبة”، فحتى بعض المعادلات العلمية تتحول عند تطبيقها صناعيا لتصبح ذات “صيغة امبيرية”، نظرا لتداخل المعطيات وارتفاع درجة تعقيدها!
وكما بدأت مقالتي بمثال فسوف انهيه بمثالين معبرين حقيقين آخرين، فقد قامت نفس الشركة الاستشارية “البريطانية-السويسرية” بتعيين “عمال-فنيين” (بريطانيين) كمدراء ورديات مسؤولين عن المهندسين المحليين (وهذا يمثل قمة الاستهتار “الاستعمارية التقليدية” بشهادات وخبرات المهندسين المحليين الكفؤين)، وقد شهدت كيف قام أحدهم قصدا بالتسبب بحادث بتر في طرف أحد اصابع يده حتى يحظى رسميا باجازة مرضية طويلة “مدفوعة الأجر” ليقضيها مع صديقته الجميلة الجديدة! وقد كان يمكن الاستغناء كليا عن دورهذه الشركة الاستشارية الأجنبية كليا (مع خبراءها الأدعياء) هنا لو سمح لليابانيين الصانعين الأصليين بتدريب كوادر الشركة المحليين سواء المهندسين او الفنيين بشكل مباشر ميداني، ولكن “منظومة الفساد والرشى” المهيمنة والمتداخلة على مستوى الادارة العليا لم تكن لتسمح بذلك في ظل انعدام المساءلة والشفافية. أما المثال الآخرالمعبر فقد حدث معي شخصيا عندما تم اختياري وتدريبي (من قبل لافارج الفرنسية) بالعام 1999 لاصبح مديرا لمشروع “الدمج والاستحواذ” والذي سمي مجازا بمشروع “آفاق 2001″، وبالفعل فقد أخذنا الموضوع على محمل الجد وتم تشكيل خمس فرق عمل ديناميكية، وعملنا ليلا ونهارا ككوادر محلية على بناء “أهداف جديدة” ذات بعد استراتيجي ضمن منهجية ما يسمى”ادارة التغيير”، واستغلت مستشارة فرنسية شابة طموحة وجود المشروع، ففرضت نفسها بدعم الشركة الاستشارية، مع انه لم يكن لها لزوم البتة، واستغلت وجودها “سياحيا واجتماعيا” لأقصى درجة ممكنة، بل أصبحت تمثل “طابورا خامسا” خفيا يعمل في الظاهر لدعم المشروع، وفي الخفاء لتقويضه بغرض تطويل الحاجة لها، ولكن تلاعبها الخبيث هذا انقلب وبالا عليها وعلى شركتها الاستشارية، وتبصر المسؤولون كثرة التكاليف، ومنها تكاليف السفر الدوري لباريس والاقامة في فنادق “الخمسة نجوم” (ذات برك السباحة)…وهكذا فرحت بتخلصي من هذه “الدجالة وزميلها المتعالي”، واستلمت المشروع لوحدي مع المدراء المعنيين…ولكن وبعد أن حقق المشروع غايات جديدة “ثورية وفريدة” في كافة مفاصل الشركة “الاستراتيجية والتشغيلية” تم تقويضه وانهائه فجأة وبدون توضيح الأسباب تحقيقا لأجندات ومآرب خبيثة غامضة، علما بأن “جمعية الجودة الأمريكية” الذائعة الصيت والمصداقية عالميا، قد تبنت نجاح المشروع عالميا واعتبرته مبادرة “غير مسبوقة” في الدول النامية… ونشرت بالتعاون المباشر معي (على موقعها العالمي الشهير) “ثلاث مقالات” محورية دالة وملخصة في العام 2002، واعتبرته مرجعا عالميا هاما ناجحا وفريدا في مجال “ادارة التغيير في صناعة الاسمنت”.