أولا”- المقدمة : المثقف العراقي ؛ هلامية التعريف وزئبقية التوصيف :
إذا كان من الصعوبة بمكان تعريف مفهوم (الثقافة) وحصر دلالاته في مجموعة من العناصر الملموسة والخصائص المدركة ، على خلفية تباين المستويات الحضارية للشعوب التي تنتج أنماطه ، واختلاف السياقات التاريخية للمجتمعات التي تشكّل طبيعته ، وتنوع التجارب الإنسانية للأمم التي تكوّن خصائصه . فان تحديد ماهية (المثقف) وتأطير المعايير التي تفصح عن دوره في التغيير ، وتأشير المقاييس التي تشي عن وظيفته في التنوير . تبدو أكثر صعوبة وأبعد عن المنال ، لاسيما وانه كائن نوعي وموجود استثنائي يعيش في بيئة اجتماعية تتقاطع فيها المصالح وتتصارع حولها الإرادات وتتنازع عليها العلاقات ، هذا بالإضافة إلى كونه يحمل من النوازع النفسية الدفينة والدوافع الرمزية العميقة ، ما لا يمكن ضبط أوالياته وتقنين اتجاهاته وتشخيص تطلعاته . وإذا كان مرجحا”أن تكون هذه الصعوبات وتلك المعوقات رفيقة درب أي بحث أو دراسة ، تستهدف الإحاطة بمقام الثقافة والإلمام بمفهوم المثقف على وجه العموم ، فما بالك حين يكون المقصود في هذه البحوث والمراد في تلك الدراسات اكتناه طبيعة الأول وماهية الثاني ، من منطلق استلهام تجربة المجتمع العراقي المخترق في وعيه والمستباح في وجوده على وجه الخصوص ؟! . ولعل هناك من يعترض علينا – وله الحق في ذلك – بالقول انه وان كان مشروعا”الادعاء بان مفهوم الثقافة يختلف من مجتمع لآخر ، وان مفهوم المثقف يتباين من شعب لآخر ، إلاّ إن ذلك لا يعدّ مؤشرا”يمكن الاعتماد عليه والاحتكام إليه ، لجهة الزعم بفرادة نمط الثقافة العراقية وندرة شخصية المثقف العراقي ، لاسيما وان هناك شبه إجماع بين النظريات السوسيولوجية والفكريات الانثروبولوجية ، حول الخصائص العامة للثقافة والمعايير المشتركة للمثقف . والحقيقة انه لا ريب من الاعتراف بأن الجهود الحثيثة والمحاولات المتواصلة ، التي بذلتها وتبذلها النخبة من كبار العلماء والمفكرين الذين شغلت اهتماماتهم واستحوذت على نشاطاتهم شتى ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية ، تمخضت عن صياغة مجموعة من المقاييس المادية والمعايير الرمزية ، التي يمكن من خلالها الاستدلال على ؛ ما هي الثقافة ومن هو المثقف . بيد الأمور في هذا الحقل الشائك والمعقد لا تجري على هذا المنوال في كل الظروف ، ولا تتخذ هذا المسار في جميع الحالات ، إذ إن لكل قاعدة شواذ كما يقال . فإذا كان مجال الطبيعة يحتمل حصول الخرق للقواعد والانتهاك للقوانين ، فانه من باب أولى أن يكون المجتمع هدفا”أكثر جذبا”لوقوع تلك الاحتمالات وحصول تلك التوقعات . ليس فقط لأن ظواهر الأولى تتموضع بين حدي الضرورة الحتمية والصدفة الاحتمالية ، وان الثاني يقع على خط صدع ؛ الثقافات المتعددة ، والحضارات المتنوعة ، والرمزيات المتنوعة ، والإرادات المتباينة . وإنما لأن شاغل الأولى (الطبيعة) هو الكوسمولوجيا / الوجود الموضوعي ، حيث يقبع اللامرئي والمفارق والأزلي ، في حين إن اهتمام الثاني (المجتمع) هو السوسيولوجيا / الموجود الذاتي ، حيث تنتج الأساطير ويصنع التاريخ ويبتدع الدين وتتشكل الهوية . هذا من جانب ، أما من جانب ثان ، فان طبيعة المجتمع العراقي لا تشبه أحدا”من المجتمعات القريبة أو البعيدة ؛ إن لجهة مواريثه الأسطورية وخلفياته التاريخية ومرجعياته الدينية ، أو لجهة خصوصياته الرمزية وأنماطه الثقافية وانحداراته الفولكلورية . بحيث يشكل – إن صح التعبير – خلطة نادرة من العناصر المتنافرة وسبيكة عجيبة من المكونات المتنابذة ، يصعب – إن لم يكن مستحيلا”- معرفة نوابض سيكولوجيته والاهتداء إلى مفاتيح شخصيته ، ما لم يكشف النقاب عن تلك الأصول ويماط اللثام عن تلك الجذور ، لكي يصار إلى تحليلها وغربلتها ومن ثم نقدها وتقييمها . وعلى الرغم من تجربة اهتمامي المتواضعة بالبحث عن ماهية الثقافة العراقية والتنقيب عن كينونة المثقف العراقي ، عبر ركام التطرف الديني وحطام العنف الاجتماعي لفترة ما بعد الاحتلال الأمريكي ، فقد أدركت بأني لا أعرف كيف أصنف طبيعة الأولى (الثقافة) ، ولا أستطيع أن أصف شخصية الثاني (المثقف) ، وبالتالي فاني أتطلع إلى من يمتلك المقدرة اللازمة ويتحلى بالموهبة الكفيلة بحل ألغاز هذه وفك طلاسم ذاك . ولكني أهيب – في الآن ذاته – بمن يتصدى لهذه المهمة العسيرة ، بلّه المستحيلة ، أن يبتعد قدر الإمكان عن الاتكاء على مزاعم ؛ إن الثقافة والمثقف العراقيان يحتكمان إلى أسس ومنطلقات قلما تمتعت بها ثقافة أو حظي بهما مثقف ، والتي تتمثل بعراقة الحضارة وقدامة التاريخ وقداسة الدين . ذلك لأن هذه الخطابة وان كانت صحيحة من واقع التنظير الانثروبولوجي والتحقيب الكرنولوجي (الماضي) ، فهي من منظور الواقع السوسيولوجي المعاش والتجربة السياسية الملموسة (الحاضر) باتت مستهلكة وعديمة الجدوى كليا”، مستوحين بذلك ما قاله الحجاج بن يوسف الثقفي : إن الفتى من قال ها أنا ذا … ليس الفتى من قال كان أبي . (هناك من يكتبه ويقرأه بعكس ذلك) . وعلى أساس ما تقدم فان مساعي الوصول إلى تعريف محدد لما يعنيه مفهوم (المثقف العراقي) ، ستبقى محاولات افتراضية ومساهمات تخمينية لا ترقى لحدود الواقعية ، طالما انه يتصف بالهلامية الثقافية والزئبقية المعرفية ، على خلفية احتكامه إلى مصادر وعيه الملتبس والتزامه بمقومات خطابه المؤدلج ! .
ثانيا”- الذهنيات التقليدية والمنهجيات النقدية :
ليس هناك من بين شريحة النخبة العراقية بكل مستوياتها الثقافية وتوجهاتها السياسية (أكاديميون ، سياسيون ، رجال دين ، كتاب وإعلاميون) من لم يجاهر بانتمائه لآخر صيحات الفكريات النقدية ، أو يفاخر بتبنيه لأحدث صرعات المنهجيات التفكيكية . فالكل – هؤلاء وأولئك – منخرطون في مشاريع التحرر السياسي والتغير الاجتماعي والتنوير الثقافي والتثوير الديني ، بحيث لم يبقى – وفقا”لهذه الحيثيات – أمام المجتمع العراقي سوى أن يشرع بقطاف سنين صبره العجاف ، ويحصد ثمرة عقود معاناته الممضّة . ولكن الأمر في واقع الحال لا يخرج – رغم كل الصخب والضجيج – عن نطاق المزايدات الخطابية / الإعلامية ، والسجالات السياسية / الحزبية ، والمنافكات الدينية / الطائفية ، والمضاربات العقائدية / الإيديولوجية . للحدّ الذي إن تعبير (الشخصية المزدوجة) الذي نحت عبارته وصك دلالته العلامة العراقي الراحل (علي الوردي) ، بات ينطبق عليهم تمام الانطباق ، لاسيما في صيغته التهكمية التي أفصح عن مضمونها بالمعنى التالي ؛ إن الإنسان العراقي على صعيد الأقوال والادعاءات والمزاعم (المظهر الخارجي) تلفاه يتقمص شخصية (جيمس بوند) ، ولكن ما أن تضعه الظروف في موقف حدي يتطلب المواجهة الجدية ، من حيث الأفعال والممارسات والمواقف ، حتى يرتد إلى مرابض شخصية (حاج عليوي) . والحال إن هذه الحالة الإشكالية التي لم تبرح ترافق شخصية المثقف العراقي كما لو كانت ظله وتوأمه السيامي ، تتمثل بالهوة السحيقة القائمة بين طبيعة الذهنية التقليدية المعبأة ؛ بشتى ضروب الهوامات الأسطورية والانفعالات الوجدانية والسلوكيات العدوانية من جهة ، وبين طابع المنهجيات الحديثة والمستحدثة التي تستلزم – من جملة ما تستلزم – ليس فقط ضرورة الانفتاح على الجديد من النظريات الحداثية ، والانزياح عن القديم من الاعتقادات النمطية فحسب ، وإنما وضع كل خزين الوعي الجمعي وموروث الثقافة الوطنية ، تحت وابل من سهام النقد المنهجي والمساءلة المعرفية ، ومن ثم إجراء تصفية حساب جذرية لكل ما علق في الذاكرة من أكاذيب تاريخية ، ولكل ما تراكم في السيكولوجيا من أوهام دينية . ولهذا لن تجد أحدا”من فرسان نخبتنا لا يرطن بتفكيكية (جاك دريدا) ، أو يهذي بأركيولوجيا (ميشيل فوكو) ، أو يتبجح بجينالوجيا (فردريك نيتشه) ، أو يتباهى بهرمينوطيقا (بول ريكور) ، أو بتفاخر بتاريخيات (جاك لوغوف) ، أو يتمنطق بفلسفة (جيل دولوز) ، أو يتحذلق بتحليلية (سيغموند فرويد) الخ . هذا في الوقت الذي يحرص فيه الغالبية منهم أشدّ الحرص على ؛ أشباح تاريخه ، وأساطير دينه ، وخرافات مذهبه ، وأصنام قوميته ، وأوثان قبيلته ، كما لو أنه لا زال يعيش في عصر الدينصورات . ولآجل أن نوضح هول مصائبنا التي فاقت فجيعتها كل تصور وتخطت فداحتها كل توقع ، فان كل هذه الزلازل السياسية العنيفة والنوازل الاجتماعية المدمرة ، لم تتمكن من إيقاظ المثقف من سباته الذي طال أمده ، كما لم تستطع إنهاض الثقافة من رقادها الذي تقادم عليه الزمن . بحيث استمر خطابنا الثقافي يهجو السلطة دون أن ينظر إلى عيوبه البنيوية ، ويلعن النظام دون أن يلتفت إلى مآخذه المناقبية ، ويدين الدولة دون أن يتطلع إلى عطالته المعرفية . ذلك لأن الإصرار على التمسك بالانتماءات الهامشية ، والمراهنة على الولاءات التحتية ، والتعويل على الثقافات الفرعية ، في الوقت الذي تنتهك كرامة الوطن وتستباح حياة المواطن ، لا يعد فقط خيانة كبرى للثوابت الوطنية والقومية فحسب ، وإنما جريمة بحق القيم الدينية والمبادئ الإنسانية أيضا”. ومهما يكن النقد الموجه (للخطاب الثقافي) شديدا”في لهجته ولاذعا”في نبرته وقاسيا”في تعريته ، فان الغاية المتوخاة منه ستذهب أدراج الرياح ، وان الهدف المعوّل عليه سيتلاشى كما الصرخة في واد ، ما لم يكن مستهدفا”ركائز (بنية الوعي) الذي يقوم عليها وينطلق منها ويحتكم إليها ذلك الخطاب ، من منطلق إن الداء العضال الذي ينخر كيان هذا المجتمع يكمن في البنية لا في الخطاب ، ويربض في بطانة السيكولوجيا لا في حضانة الايديولوجيا . وهكذا فان المهمة المصيرية العاجلة الملقاة على عاتق كل من يهمه أمر هذا الوطن ويعزّ عليه شأن هذا المجتمع ، تتمثل بالبحث الجدي عن كل ما من شأنه فتح كوة في نسيج بنية الوعي الاجتماعي المتكلس ، ليس فقط لكسر الأنساق المغلقة واختراق المنظومات الراكدة فحسب ، وإنما لحمل عناصر تلك البنية ( أفكار ، تصورات ، تمثلات ) على طرد أوهامها عن التاريخ ، ونبذ أباطيلها عن الدين ، واستبعاد خرافاتها عن الثقافة ، وبالتالي حملها على قبول المخالف من الفكريات التحليلية ، والمغاير من المنهجيات النقدية ، والمباين من الفلسفات التأويلية . ولعل فشل العديد من تجارب التحديث للعقل السياسي العراقي ، وإخفاق الكثير من مشاريع التنمية الحضارية للمجتمع المدني العراقي ، كفيلة بإثبات إن الأولويات والأسبقيات التي كان يفترض أن توجه صوب بناء الشخصية العراقية (من الداخل) ، قبل أن تشرع بالاعمار (من الخارج) ، وهو ما استتبع أن نحصد تفاقم الأزمات السياسية وتعاظم الانهيارات الاجتماعية وتراكم المعاناة النفسية ، طيلة عقود القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثانية . أي بمعنى أنه ينبغي البدء ببناء الأسس الروحية والأخلاقية والثقافية للإنسان ، قبل الشروع بإنشاء المؤسسات السياسية ، وتقديم الخدمات الاجتماعية ، وإقامة المشاريع الاقتصادية ، التي تعنى بأساليب قياده وإجراءات ضبطه وسبل تغذيته . لاسيما وان هذه الأخيرة قد أسهمت ، كل بطريقتها الخاصة وإمكاناتها الذاتية ، ليس فقط بتخريب ما كان قائما”في وجدانه من قيم نبيلة ومبادئ سامية ومثل عليا ، استطاعت أن تحفظ له توازنه النفسي وتآلفه الاجتماعي وتآزره الديني وتواصله الإنساني ، عبر أواليات المجايلة التاريخية والمثاقفة الحضارية والملاقحة الرمزية فحسب ، بل وتجريف وتحريف كل ما كان يحاول الإبقاء عليه ناشطا”في ذهنياته / تصوراته وفاعلا”في سلوكياته / علاقاته ؛ من رصيد إنساني لعاداته ، وخزين أخلاقي لتواضعاته ، ومأثور عقلاني لأعرافه . ونحن إذ نوجّه أصابع الاتهام نحو العيوب المعرفية والمثالب المنهجية لخطاب النخبة العراقية المثقفة ؛ بسبب ركونه إلى التقليدية في التصور للأمور الساخنة ، وانعطافه إلى الانتقائية في الطرح للقضايا الإشكالية ، وتطلعه إلى الطوباوية في العلاج للأوضاع المتأزمة . فان هذا لا يعني إن واقع المجتمع العراقي لم ينتج قامات فكرية وثقافية شامخة ، ممن أثروا رحاب الثقافة وأغنوا منار الفكر العراقي والعربي على مدى عقود طويلة من الزمن ، برغم كل ما شهده تاريخ العراق الحديث والمعاصر من حروب خارجية وصراعات داخلية حجمت تطوره وأخرت نهوضه . إلاّ إن جهودهم وإسهاماتهم – وللأسف الشديد – حوصرت بقسوة وحوربت بضراوة من قبل جهّال السياسات وعيال السلطات ، لا لعيب في ولائهم الوطني أو شك في انتمائهم العراقي أو مأخذ في مستواهم العلمي ، وإنما لطريقة تفكيرهم في تأويل الواقع وأسلوب تنظيرهم في تحليل المجتمع ، بحيث خالفوا المألوف من التصورات عن الأول ، وعارضوا المعروف من الديناميات عن الثاني . وهو الأمر الذي عزز – بالتقادم والتراكم – حظوظ العقليات المبتسرة والذهنيات التقليدية والمنهجيات البدائية ، التي ألزمت خطابنا الثقافي أن يكون الناطق المطيع باسمها ، والمرآة العاكسة لقيمها ، والأداة المنفذة لنوازعها . ولكي تتمكن بنية وعينا الاجتماعي من هضم فكريات النهضة ومنهجيات التنوير – دع عنك الحداثة وما بعد الحداثة – فهي عاجزة بذاتها عن إحداث مثل هذه النقلة النوعية ، وقاصرة بنفسها عن إجراء مثل تلك القطيعة المعرفية ، ما لم تهيئ مسبقا”لتلقي الصدمات القوية في مسلماتها الراسخة ، والرجّات العنيفة في بديهياتها القارة ، والهزّات المقلقة في يقينياتها الثابتة . وهو ما يمكن أن تقدمه في هذا المجال المنهجيات الحديثة ، التي غزت حقول العلوم الاجتماعية وميادين نظيرها الإنسانية ، ليس فقط كونها حطمت أوثان السرديات المؤمثلة ، وأزاحت أصنام الإيديولوجيات المؤلهة ، وأسقطت ادعاءات المركزيات المتعالية ، واخترقت حجب النصيات المغلقة فحسب ، وإنما – وهنا المفارقة – أعادة الاعتبار لثقافات الشعوب المهملة ، وحظّت على مراعاة اعتقادات المجتمعات المنسية ، وشجّعت على ضرورة قراءة تواريخ الأمم المقصية .هذا بالإضافة إلى أنها دعت لانتهاج طريقة جديدة في تحديد الأدوار وتقييم الوظائف ؛ ما بين السياسات والإرادات ، ما بين السلوكيات والذهنيات ، ما بين التاريخيات والأسطوريات ، ما بين السيكولوجيات والسوسيولوجيات ، ما بين الجزئيات والكليات ، ما بين الفرعيات الشموليات ، ما بين الهويات والشخصيات ، ما بين الخرافات والثقافات ، ما بين الحاضرات والحضارات ، ما بين الجغرافيات والديموغرافيات ، ما بين المقدسات والمدنسات . ومن منظور بنية وعينا المهووس بالقديم والمهجوس بالتراث ، فان تلك الخصائص والمواصفات لا تعتبر حاجزا”أو مانعا”يحول دون التعاطي الايجابي والتعامل المثمر معها ، بقدر ما تشكل حافزا”قويا”أو منعطفا”حادا”، بسهّل عليها قبول التغيير في أنماطها والاستجابة للتحول في خياراتها والإذعان للتبديل في توجهاتها . وذلك من منطلق إن بنية الوعي العراقي – وهنا تكمن أحدى الخصائص الفريدة للشخصية العراقية – تتأثر بالإيديولوجيات أكثر مما بالمعرفيات ، وتستجيب للتمثلات أكثر مما للواقعيات ، وتنصاع للإيحاءات أكثر مما للممارسات ، وتهتم بالأسطوريات أكثر مما بالعقلانيات ، وتتفاعل مع الشعارات أكثر مما للتطبيقات . ولعل ما يجعل من هذه المحاولة الجسورة – إذا ما توافرت النوايا الصادقة والإرادات الجادة – ليس فقط كونها ضرورة مصيرية لا بديل عنها ولا خيار دونها فحسب ، وإنما لواقعية تبنيها (تبيئة نماذجها) وإمكانية الشروع بتنفيذها (استبطان قيمها) ، على خلفية إن رموز خطابنا الثقافي استطاعوا وبنجاح أن يتقنوا لغاتها (خطابها) ويهضموا فلسفاتها (مبادئها) ويحسنوا تصنيفها (توجهاتها) . بحيث لم بعد أمامنا سوى المباشرة بوضع الأسس وصياغة المنطلقات ، التي من شأنها حرث الأرضيات السوسيولوجية لوعينا ولا وعينا ، ونبش الخلفيات الانثروبولوجية لمخيالنا وذاكرتنا ، وتعرية القيعان السيكولوجية لأساطيرنا وخرافاتنا .
ثالثا”- جدليات السوسيولوجيا الانعكاسية .. من النقد البراني إلى الجلد الجواني :
لطالما ظل الجدال الفكري محتدما”والسجال السياسي قائما”؛ بين دعاة النظرية (الفردية) من فلاسفة ومفكري الليبرالية بشتى عناوينها وتلاوينها من جهة ، وبين نظرائهم من أنصار النظرية (الجماعية) بمختلف أنواعها واتجاهاتها من جهة أخرى . بحيث إن مستوى التقدم الذي أحرزته المجتمعات المعاصرة في مضامير السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة ، لم يطفئ أوار تلك المنافكات بينهما على صعيد الميديا ، كما لم يقلص حجم ترسانة الحجج لديهما على مستوى الايديولوجيا . إذ استمرت مطروحة على بساط البحث وفاعلة على طاولة النقاش ، قضية العلاقة القائمة بين الفرد والجماعة التي ينتسب إليها ، وبين هذه الأخيرة والمجتمع الذي تنتمي إليه وتعرف بهويته ؛ سواء أكان ذلك بوازع البحث عن سبل حماية الأول (الفرد) من طغيان الثاني (المجتمع) ، كما ذهبت إلى ذلك دعاوى الفلسفة الليبرالية ، وبالتالي السعي لضمان حريته المدنية وصيانة حقوقه الطبيعية . أو كان بدافع الكشف عن المسارات والخيارات ، التي تفضي إلى تمكين الثاني (المجتمع) من استيعاب ودمج الأول (الفرد) ضمن كيانه وصهره داخل بوتقته ، كما أشاعت ذلك طروحات الفلسفات اليسارية بزعم ضمان استقراره السياسي ، والحرص على سلامة أمنه الوطني ، والحفاظ على ديمومة كيانه الحضاري . وبرغم إغراءات النزعة الجماعية الآنية وتسويغات ما تتمتع به من أفضليات شكلية ، فقد استمر الفكر الغربي حريصا”على تمسكه بخيار النزعة (الفردية) ، بصرف النظر عن كثرة المآخذ التي أثيرت حولها والطعون التي سيقت ضدها . وذلك لإدراك النخبة المثقفة (فلاسفة ، مفكرين ، علماء) إن مشروع النهوض بواقع المجتمع والارتقاء بوعي عناصره والتسامي بقيم مكوناته ، لا يقوم على طمس معالم شخصية الفرد ومسخ كينونته ونسخ ذاكرته ، عبر تأجيل النظر بعوامل تطوير وعيه وتطهير مخياله ، ومن ثم تركه فريسة سهلة لقيود الأنا الجمعي المجبول على فرض التجانس الثقافي مهما كان الثمن ، وتحقيق التوافق الاجتماعي مهما كانت العواقب ، لمجرد أن يقال إن الكل الاجتماعي أضحى ينعم بخيرات الهدوء الشكلي والاستقرار المفبرك . وهكذا فقد انبرى لفيف من خيرة مفكري حقبة الإصلاح الديني ، وعلماء فترة النهضة الحضارية ، وفلاسفة عصر الأنوار الفكري ، لوضع أسس دولة حديثة وصياغة منطلقات مجتمع جديد ؛ قائمين على مبادئ تسييد العقل في مجال الذهنيات وتمجيد الفرد في إطار العلاقات . مستلهمين بذلك مأثور الانجاز الإغريقي الفريد في ميادين ؛ السياسة والفلسفة والاجتماع والثقافة ، حيث الإنسان يتربع على قمة هرم الموجودات الموضوعية (الإنسان هو المقياس / المعيار لجميع الأشياء ، كما قال رائد الفلسفة السفسطائية بتروغراس) ، وحيث العقل يحتل المرتبة الأولى في تسلسل الضرورات الذاتية ( أنا أفكر ، إذن أنا موجود ، حسب الكوجيتو الديكارتي) . وهو ما أتاح للفرد أن يستغل فضاءات الحرية النسبية للإفصاح عن آراءه ومعتقداته من جهة ، ومكنه ، من جهة أخرى ، من اهتبال فرص التعبير عن كينونته الإنسانية والإشهار عن طاقاته الإبداعية ، وبالتالي الانتقال بعلاقته مع السلطة من صيغة الرعية إلى صيغة المواطنية . والحقيقة إن بلوغ هذا الشأو من التطور للنزعة الفردية باتجاه المواطنية الحضارية العابرة للخصوصيات والمتخطية للهاويات ، لم يتمخض هكذا بصورة عفوية وتلقائية ، كما لم يتحقق عن طريق الصدفة العابرة . إنما تبلور عبر صراعات دامية مع القيمين على الدين ، وصدامات عنيفة مع الأوصياء على التاريخ ، حيث استلزم الأمر أن يشحذ رموز الفلسفة العقلانية والفكر التنويري أسلحتهم المعرفية وعدتهم المنهجية ، لخوض غمار حرب ضروس ضد معاقل ثالوث الخراب الإنساني ؛ الجهل الثقافي والفقر الاقتصادي والتخلف الاجتماعي . وهو الأمر الذي استنزف من عمر البشرية قرون عدة ، تخللت عقودها شتى ضروب المعاناة الرهيبة والحرمانات الفظيعة التي تمثلت ؛ بالقمع السياسي بكل وحشيته ، والردع النفسي بكل ضراوته ، والجوع الاقتصادي بكل بشاعته ، والتخلع القيمي بكل بربريته ، والتضعضع الحضاري بكل همجيته . واللافت في هذا النقد الراديكالي (الجذري) انه لم يستهدف بالدرجة الأساس بنية الخطاب البراني للسلطة السياسية ، ومن يقف خلفاها ويدور في فلكها من أكلريوس وإقطاعيين وبقايا مخلفات الأنظمة السابقة ، إنما أنصب على بنية الوعي الجواني للسلطة المهيمنة بكل رموزها والمجتمع القائم بكل مكوناته . للحدّ الذي طال أصول التاريخ بكل حقبه ، وأسس الدين بكل تعبيراته ، وجذور المخيال بكل تمظهراته ، وبنى الوعي بكل تجلياته ، وخلفيات الذاكرة بكل تراكماتها ، ومنظومات القيم بكل أنماطها ، وأنساق الثقافة بكل مستوياتها ، وسساتيم الفكر بكل تياراته . وهكذا غدت ظواهر النقد والتشكيك والمساءلة عناصر أساسية ، ليس فقط في خطاب النخب المثقفة ، باعتبارها القمة الابستمولوجية لهرم بنية الوعي الاجتماعي فحسب – أي الطليعة الفكرية والمعرفية في المجتمعات الغربية المعاصرة – بل وأصبحت مكون جوهري من مكونات السفوح السوسيولوجية لذلك الهرم ، كما وأضحت خاصية عضوية من خصائص القاعدة السيكولوجية لهيكله ، حيث يشرع منها ويتغذى عليها ويحتكم إليها ؛ سواء أكان المجتمع السياسي بمختلف أجهزته وأنظمته ، أو المجتمع المدني بشتى مؤسساته وقطاعاته ، وسواء أكان النظام الثقافي العام للمجتمع ، أو أنماط الثقافات الفرعية للجماعات . ومن منظور مغاير فان مجتمعات العالم الثالث التي أمضت الشطر الأكبر من تاريخها السياسي والاجتماعي ، ترزح تحت نير الاحتلالات الأجنبية والتدخلات الخارجية من جهة ، وتحت وطأة الصراعات الداخلية والحروب الأهلية من جهة أخرى . الأمر الذي استتبع أن تتذرر اجتماعيا”، وتتشظى سياسيا”، وتتناثر جغرافيا”، وتتبعثر تاريخيا”، وتتصدع قيميا”، وتتفكك ثقافيا”، وتتخلع حضاريا”. بحيث أصبحت لديها مسائل تكوين الشخصية الاجتماعية الجامعة ، وخلق الهوية الوطنية الشاملة ، تحتل الصدارة في سلّم أولوياتها القومية والمصيرية . لاسيما وان محاولات استباحتها اقتصاديا”، وغزوها فكريا”، واستيعابها حضاريا”، لم تفتأ قائمة على قدم وساق ، كلما استشعرت حكومات تلك المجتمعات المأزومة أنها باتت تمتلك القدرة على الاستقلال بإرادتها دون وصاية ، والاستفراد بقراراتها دون تبعية ، والاستقواء بثرواتها دون إشراف . ولعل تلك المخاطر الإستراتيجية والتحديات المصيرية من جانب ، والخلفيات الانثروبولوجية والإرهاصات السيكولوجية لحركات التحرر الوطني والقومي من جانب ثان ، فضلا”عن التطلعات السلطوية والنزعات الزعامية لمعظم أحزاب وتيارات تلك الحقبة . هو ما دفع بحكومات ما بعد الاستقلال السياسي لتلك المجتمعات ، إلى تبني خيار الإيديولوجيات اليسارية (الثوروية) التي تتمحور طروحاتها حول آليات وممارسات النظرية الجماعية ، والتي ترمي إلى جعل المفهوم الهلامي والفوضوي للمجتمع يعلو على المفهوم الإنساني والعقلاني للفرد ؛ إن من حيث برامج أسبقية الأهداف التحويلية للواقع والنهضوية للمجتمع مقارنة بالفرد ، أو من حيث شعارات أفضلية المصالح الإستراتيجية للوطن قياسا”بالمواطن . والحقيقة إن نقاط الضعف والمآخذ التي رافقت وتمخضت عن هذه النظرية (الجماعية) ، لم تكن حصيلة خلل بنيوي أو شطط نظري أو قصور منهجي رابض بين تلافيفها وقار تحت مهادها . بحيث أن لا مناص من وقوع تلك السلبيات ولا مندوحة من حدوث تلك الإخفاقات ، بصرف النظر عن طبيعة المجتمع الذي تطبق فيه أو المرحلة التاريخية التي تستدعيها . وإنما ذلك نابع من واقعة أن مفهوم (الأكثريات) القومية والدينية ضد (الأقليات) الاثنية والمذهبية ، هو ما فهمته النخب بكل مستوياتها وأدركه الشعب بكل مكوناته ، للحدّ الذي ترسخ في وعي الأفراد وتمترس في لاوعي الجماعات على حدّ سواء . وليس كأطر سوسيولوجية مترابطة عضويا”ومتفاعلة جدليا”، وليس كبنى فكرية متلاقحة رمزيا”ومتزاوجة مخياليا”، وليس كمنظومات ثقافية متعايشة عرفيا”ومتآلفة قيميا”، وليس كأنماط حضارية متداخلة سرديا”ومتناضدة ملحميا”. ولكي تأتي عملية (الجمعنة) وفق هذا المنظور – أي جعل الظاهرة أو الواقعة خاضعة لسيرورات المجتمع المأزوم ، ومن ثم إلزامها للإتمار بأمر نزعات الجمهور المؤطر إيديولوجيا”ونزوات الحشود المجيشة عاطفيا”– أوكلها وتطرح ثمارها ، لا مناص من إحداث تغييرات بنيوية وإجراء تحويلات راديكالية ، ليس بالمعنى الإصلاحي / التطويري والمؤسسي / العقلاني ، وإنما بالمعنى الذي يند عن حرق المراحل قبل نضوج عناصرها ، والقفز فوق الانقطاعات قبل تجسير مكوناتها ، والعبث في السيرورات قبل اكتمال حلقاتها . بمختصر العبارة الاندفاع نحو المجهول والعدم في أسوأ الأحوال ، والارتماء في أحضان التجريبية الفجة والارتجال الساذج في أحسنها ، كما برهنت بالوقائع وأعطت بالدليل الملموس مختلف الأنظمة الملكية المتربللة (= الليبرالية) والجمهوريات المتريفة ، التي تعاقبت على اعتلاء سدة الحكم في العراق المعاصر . وعلى ذلك فقد وجدت تلك الأنظمة الطفولية في وعيها والعبثية في ممارساتها أنها ملزمة ؛ للتضحية بالآجل لصالح المكاسب العاجلة ، وبالمستقبلي لصالح الامتيازات الآنية ، وبالجوهري لصالح الفعاليات الشكلية ، وبالعقلي لصالح الاندفاعات العاطفية ، وبالنخبة لصالح الرعاعيات الشعبية ، وبالوطني لصالح الكانتونات الحزبية ، وبالمؤسسات لصالح الزعامات الكاريزمية ، وبالمعرفيات لصالح الإيديولوجيات الراديكالية ، وبالمواطنيات لصالح العصبيات البدائية ، وبالممارسات لصالح الخطابات الطوباوية ، وبالمنهجيات العلمية لصالح النزوات الشخصية . ولأن السلطات التي كانت قائمة على (حق) القوة دون (قوة) الحق ، اقترن وجودها وارتبط مصيرها بدوام تخلف بنى الوعي لدى جمهور العامة من جهة ، وباستمرار تنميط انساق الثقافة لدى رهط الخاصة من جهة أخرى ، بغية أن يبقى المجتمع بكل مكوناته السوسيولوجية وتياراته الإيديولوجية وخلفياته الانثروبولوجية ، يجتر أوهامه عن ذاته الجواني ويزدرد خرافاته عن آخره البراني . الأمر الذي لم يعد فقط واجبا”على كل مفكر حرّ ومثقف أصيل وأكاديمي حقيقي ، أن يوجه سهام نقده نحو الخرافي من الاعتقادات ، وأن يوظف معاول هدمه باتجاه المتحجر من التصورات ، وأن يعمل مبضح تشريحه صوب الأسطوري من التمثلات . وإنما بات ضرورة مصيرية ومسؤولية تاريخية ينبغي على الجميع تحمل أعبائها وتجشم عنائها والانخراط في أتونها ، وإلاّ فان الاندثار هو مصير العراق ككيان تاريخي وحضاري ، والانقراض هو مآل مكوناته كشعب وثقافة وهوية . وبقدر ما تتطلب أوليات السوسيولوجية الانتظامية (البرانية) من تحليلات للواقع بكل عناصره ومكوناته وتأويلات للمجتمع بكل تفاعله وتصورات ، فان جدليات السوسيولوجيا الانعكاسية (الجوانية) لا تستلزم فقط مراعاة ما يتمخض عن نتائج وحصائل نظيرتها الانتظامية فحسب ، ولكنها تستوجب مسبقا”أن يصار إلى إنعام النظر في تلك النتائج وقدح زناد الفكر في تلك الحصائل ، لاسيما وان الحالة المزرية للمجتمع العراقي قد بلغت حدا”من التأزم في علاقاته ، والتفاقم في ذهنياته ، والتشرذم في مكوناته . بات من غير النافع والمجدي الركون إلى المعطيات التي تقدمها التحليلات الكلاسيكية والعلاجات التقليدية ، كما لو أن الواقع لا ينبئ بالتفجر وأن المجتمع لا بنذر بالتذرر . وإذا كانت جدليات سوسيولوجيا الواقع المعاش تعتبر مطلبا” أساسيا”لدراسة العلاقات الاجتماعية في صيغتها الظاهرة والمكتملة ، فان جدليات سوسيولوجيا المخيال المجيش تعتبر ضرورة لا غنى عنها لدراسة الديناميات السيكولوجية في صيغتها المضمرة والمتحولة . وبما أن علل المجتمع العراقي تمتد إلى ما وراء الواقعي من المعطيات ، وتتصل بما خلف الظاهر من الإشكالات ، فان حاجته إلى استثمار أدوات السوسيولوجيا الثانية (الانعكاسية) أوجب وأفرض من حاجته إلى توظيف أدوات السوسيولوجيا الأولى (الانتظامية) ، لاسيما وان المحاولات السابقة التي تصدت لتحليل علاقاته وتأويل خطاباته ، لم تخرج إلاّ بخفي حنين كما يقال . ذلك لأنها كانت في معظمها تعتمد ؛ إما المنهجية الماركسية التي رغم خدماتها الجلى في هذا المضمار ، إلاّ أنها لم تفلح في الكشف عن مفاصله الداخلية وإماطة اللثام عن نوابضه العميقة ، بسبب من تأكيدها على الطبيعة المادية دون الخلفية الرمزية للعلاقات الاجتماعية ، حيث تحولت ظاهرة الوعي بكل إرهاصاتها وتعقيداتها إلى مجرد انعكاس – بهذا القدر أو ذاك من الوضوح – للأوضاع الاقتصادية القائمة ، وهو الأمر الذي أعطى لخصومها المسوغات النظرية والمنهجية لنقدها من جهة . وإما من جهة ثانية ، تفضيل المنهجيات الوظيفية والبنيوية التي وان تخللت أصدائها وتخطت انجازاتها مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية ، على خلفية ما تتمتع به من طابع وضعاني / ظاهراتي ، بيد أنها آثرت أن تنظر إلى التناقضات الاجتماعية بعيون الاستقرار بدلا”من التغيير ، وأن تتعامل مع الإشكاليات الثقافية من منطلق التكيف بدلا”من التطوير . وهكذا فقد غابت عن أصحاب تلك المحاولات الجسورة ذخيرة جمة المنهجيات الحديثة التي شرعت بالبحث من السيكولوجيات العميقة بدلا”من السياسات السطحية ، والتقصي من التمثلات الخلفية بدلا”الانطباعات الآنية ، والتنقيب من الذاكرات المطمورة بدلا”من التاريخيات المحورة ، والحفر من اللاشعوريات المخفيّة بدلا”الإحساسات المدركة . ليس فقط لأجل الكشف عما يكوّن عناصر الوعي بالذات ، وإزاحة النقاب عما يغذي مقومات تموضع الأنا بالتاريخ ، ويحدد بالتالي أنماط تشكيل الهويات التحتية ، والثقافات الفرعية ، والذهنيات الهامشية ، والعلاقات الجانبية فحسب ، وإنما – وهنا تكمن فضيلة تلك المنهجيات وامتيازها في آن – لتفكيك نسيج تلك الظاهرات الاجتماعية إلى عناصرها الأولية ، وفصل العرى وتقطيع الروابط التي أقيمت عليها وبنيت حولها من الإضافات التي لا تمت لطبيعتها بصلة ، للحدّ الذي ضيع معالمها الأصلية وأخفى ملامحها النقية ، ومن ثم المباشرة بتحليل أصولها ونقد بناها وتعرية خطابها اجتثاث أوهامها وتحطيم أوثانها ؛ لاستجلاء المعاني الفعلية التي وجدت لأجلها وتبلورت في سبيلها ، لا المعاني الافتراضية المفبركة التي أريد لها أن تعبر عنها وتحض عليها كما جرت الأمور لحد الآن . ولما كانت البيئات الاجتماعية والنفسية والدينية والتاريخية والثقافية للمجتمع العراقي ، حبلى يمثل تلك الظواهر الفريدة والوقائع الاستثنائية التي ترسخ تحتها وتراكم فوقها ، شتى صنوف التصورات الخرافية والعلاقات البدائية والسلوكيات المتبربرة ، بحيث أضحى الحديث – دون الغوص في أعماقها والحرث في طماها والحفر في طبقاتها – عن مشاريع العلمنة السياسية والعقلنة الاجتماعية والإصلاحية الدينية والحداثة الثقافية ، ضربا”من العبث الفكري والسفسطة الكلامية . ما لم يتم حرف مسارات البحث والدراسة باتجاه الرابض في الذاكرة من تاريخيات اقوامية ملفقة ، والقار في المخيلة من أسطوريات طوائفية مفبركة ، والراسب في السيكولوجيا من هلوسات قبائلية مصطنعة . أي بمعنى إن ما يحتاج إليه المجتمع العراقي لإصلاح أمره السياسي / الاجتماعي ، وتقويم شأنه الثقافي / النفسي ، وتحديث نهجه العلمي / التربوي ، وعقلنة مورثه التاريخي / الحضاري . ليس النقد (البراني) – رغم الحاجة إليه والأهمية فيه – الذي يستهدف بالدرجة الأولى ؛ تعهر السياسات السائدة ، وتقهقر الاجتماعيات المعاشة ، وتحجر الثقافات القائمة ، وتنمر السلوكيات الملموسة ، وتبربر الأخلاقيات المهيمنة . وإنما الرهان ينبغي أن يكون من الآن فصاعدا”على النقد (الجواني) لبنى الوعي الاجتماعي المكون من الذهنيات المؤقنمة ، والتصورات المؤمثلة ، والفكريات المأصنمة ، والتمثلات المؤلهة، التي تعتبر المسؤول الأول ولكنه غير المباشر لكل تلك الانحلاعات الاجتماعية والاستلابات النفسية والانكسارات الثقافية . ولعل هناك من يعترض علينا بالقول ؛ إن الكثير من كتابنا ومثقفينا ومفكرينا كانوا قد عنوا بهذا الأمر ودون أن تفتهم الإشارة إلى ذلك ، لاسيما وان البعض منهم كانت له إسهامات مشهودة في هذا المجال الشائك . وإزاء مثل هكذا اعتراض لا نملك إلاّ أن نمحضه التأييد ونمنحه التأكيد ، ولكن ينبغي علينا التساؤل ؛ وفقا”لأي منظور تمت الإشارة لهذه المواضيع ، وبناءا”لأي اعتبار جرىت المناقشات عن تلك الوقائع ؟! . الحقيقية إن كل ما كتب حول هذه المسألة – باستثناء بعض الإسهامات التي تميزت بجرأة عالية وجسارة مشهودة ، كما في كتابات العالم الاجتماعي الراحل (علي الوردي) والمفكر (فاضل الربيعي) والمؤرخ (سيار الجميل) وغيرهم ، لا يسع المجال لذكرهم جميعا”- لا يعدو أن يكون مجهودا”يصنف تحت بند المدح لا القدح ، ومن باب التمجيد لا النقد ، ومن منظور التورية لا التعرية ، ومن منطلق الترميم لا التهديم . بحيث إن ما تمخض عن تلك الحصيلة من الكتابات والمحاولات ، أسهم في تعزيز عوامل القمع السياسي بدلا”من محاربتها ، وأفضى إلى تقوية عناصر التضعضع الاقتصادي بدلا”من تقويضها ، وأدى إلى تمكين مقومات التخلع الاجتماعي بدلا”من استئصالها ، وأوحى لعوامل التصدع الثقافي بدلا”من اجتثاثها . ولهذا فالإشكالية المؤسسة لكل تلك الإخفاقات في السياسة ، والانكسارات في التاريخ ، والتراجعات في الحضارة ، والانسلاخات في الهوية ، والانمساخات في الذاكرة ، لا تتمحور حول أنماط الكتابة / الخطابة الثقافية في تناولها للمواضيع المطروحة وفي تعاطيها للحالات القائمة ، بقدر ما تتركز في الاتجاه الذي تسلكه تلك الكتابات والمنهج الذي تتبناه تلك الخطابات . وهكذا فالخاصية الفريدة للذهنية العراقية ؛ من حيث صيرورة تكوينها في أحضان التعدد الديني والتنوع الأسطوري ، ومن حيث سيرورة انبثاقها بين أروقة الاختلاف التاريخي والتباين الحضاري ، لاسيما وإنها حصيلة تمازج أقوامي وتخالط أجناسي وتشابك أممي ، ساهمت الحروب المتواصلة والصراعات المستمرة والأزمات المتواترة ، في طحن عناصره وخلط مكوناته وصبّ سبيكته . نقول إن هذه الخاصية تتطلب – لكي نشخص أمراضها ونحدد عللها ، ونتمكن بالتالي من إيجاد الحلول والمعالجات لها – نبذ السبل التقليدية في التعاطي مع ما تنتجه من عقائد متطرفة ، واجتناب الطرق المستهلكة في التعامل مع ما تطرحه من أفكار متطرفة ، والإقلاع عن الاتجاهات المطروقة في التصدي لما تبيحه من سلوكيات عدوانية . وهكذا فان على رهط المثقفين العراقيين ألاّ يأسرهم حديث النقد للخطابات الثقافية ، سواء أكانت صادرة عن ترسانة السلطة أم كانت منبعثة من جعبة المعارضة . إذ إن موقفا”كهذا لا يعد فقط خسارة للجهد المعرفي ومضيعة للزمن التاريخي فحسب ، ولكنه كتحصيل حاصل يؤدي إلى استدراج المثقفين للانخراط في صراعات السياسة والوقوع في حبائلها ، تحت شتى المسميات الحزبية والعناوين الإيديولوجية والواجهات الدينية . فلكي ينجح النقد ويثبت فاعليته ويبرهن جدواه ، لا نقول اتركوا الساحة للساسيين الفاسدين يعيثون فيها خرابا”، ولا نقول انسحبوا من معترك الحياة الاجتماعين ودعوا المجرمين واللصوص يذرون فيها قرن الفوضى والاضطراب ، حيث القتل بالمجان والنهب بالمشاع والفساد على المكشوف . إنما نتوخى أن يكون نقدكم للخطابات الثقافية والدينية والسياسية ، خطوة تمهيدية وجزء مكمل لمشروع نقدي أكبر طموحا”وأوسع مدا” وأعمق غورا”، بحيث يستهدف كل البديهيات السوسيولوجية ، ومجمل المسلمات الانثروبولوجية ، وجميع التواضعات السيكولوجية ، ومختلف المطلقات الإيديولوجية . أي بمعنى نقد بنية الوعي بكامل مدماكها ، وتفكيك أخاديد الذاكرة بمجمل معمارها ، وتشريح بطانة المخيال بمعظم رموزها ؛ حيث تعيش الشياطين الطائفية ، وتسكن الأشباح العنصرية ، وتستوطن العفاريت القبلية . وكخلاصة لهذه الدعوة المتواضعة علينا أن ننطلق من حقيقية مؤداها ؛ إن العائق الأعظم ضرر ا”الذي لم يبرح يفت في عضد إرادة التغيير للواقع ، والمانع الأشد ضراوة الذي لم يفتأ يكبل طاقة الوعي على التطوير للمجتمع ، يكمن في ممتنعات (الهو) الجواني حيث سلطان (الممتنع التفكير فيه) ، لا في ممنوعات (الأنا) البراني حيث سلطة (الممنوع القول عنه) . ولهذا ينبغي أن نجعل من (أزاميل) النقد الثقافي مرحلة تمهيدية لاستخدام (معاول) الجلد المعرفي والمنهجي ، التي من ِشأنها تحطيم أصنام وعينا الملتبس ، وتهديم أوثان تاريخنا المطلسم ، وتهشيم إيقونات ذاكرتنا الملغزة . وبصرف النظر عن كل الحملات النقدية والصولات التهكمية التي جردت ضد طروحات وفرضيات مدرسة التحليل النفسي ، سواء في صيغتها (الفرودية / الجنسية) أو (اليونغية / النموذجبدئية) أو (الادلرية / الفردية) أو (اللاكانية / البنيوية) – والكثير منها يستحق ذلك على أية حال – فان ذلك لا يمنع ولا يعيق البعض ممن يحسن التعامل مع المنهجيات التي اعتمدتها تلك النظرية ، في الكشف عن مجاهيل السيكولوجيا الاجتماعية في مجال الأسطوريات ، وإماطة اللثام عن غوامض اللاوعي في مضمار التصورات . لاسيما وأنها ساهمت جنبا”إلى جنب مع نظيراتها من النظريات النقدية والفكريات الحفرية والفلسفات التأويلية ، لا في نقد النصوص الدينية والخلفيات الأسطورية والأصول التاريخية للفكر الغربي الحديث والمعاصر ، بحيث أتيح أمام الفلاسفة والمفكرين والأكاديميين ، ناهيك عن جمهور الكتاب والمثقفين اللاحقين ؛ تصويب الكثير من الاعتقادات التي كانت تعتبر من البديهيات ، وإعادة النظر بالعديد من التصورات التي كانت تعد من المسلمات ، وتغيير الجم من التمثلات التي كان يظن أنها من المطلقات . وإنما – وهنا مكمن الأهمية – ابتداع البدائل للمخلفات ، واختراع الأفضل للخيارات ، واقتراح المغاير للمسارات ، واجتراح الحلول للمعضلات . ذلك لأن تشبيحات السيكولوجيا العراقية وتهويماتها الانثروبولوجية من التراكم والتقادم ، بحيث لا تنفع معها التحليلات السطحية والخطابات الاعتراضية والمعالجات الآنية ، بقدر ما يجدي لها التفكيك الشامل لبنيات اللاوعي ، والنقد الجذري لأنساق الثقافات الفرعية ، والهتك الجسور لمحرمات التدين التحتية ، والحفر العميق لتصورات المتخيل الهامشية ؛ هناك حيث تتمترس أساطير الانتماءات الأقوامية ، وتعشعش خرافات الولاءات الطوائفية ، وتتوطن ترهات الأرومات القبائلية .
رابعا”- خطاب الثقافة وبنية الوعي .. جدل الانسلاخ والانمساخ :
على الرغم من تعدد الاتجاهات وتنوع الخيارات وتباين المنطلقات ، التي جعلت من ظاهرة الثقافة تبدو عصية على التحديد كمفهوم والتجسيد كدلالة ، إلاّ إن ذلك لم يحول دون حصول الإجماع على مجموعة من الخصائص والمعايير النوعية ، التي بالاستناد إليها يمكن استخلاص المعنى العام والمغزى المشترك لمفهوم الثقافة . وهكذا فقد تواضع المعنيين في هذا المجال على حقيقة انه بصرف النظر عن مكان وجود الثقافة وزمان انبثاقها ، فان ذلك لا يسلخ عنها تلك الإيحاءات الأخلاقية والإنسانية التي تنطوي عليها ، حيث تستبطن كل ما في الفاعل الاجتماعي من تصور عقلاني وسلوك حضاري ، وكل ما في الوعي من سمو وجداني ورقي قكري ، وكل ما في القيم من مثل عليا ومبادئ سامية . والحال إذا كانت الثقافة تعني كل هذه الخصال الحميدة وأمور غيرها تدخل ضمن مدارها وتضاف الى نطاقها ، فهل يمكننا الحديث – بواقعية وموضوعية -عن ثقافة عراقية تمتلك هذه المعاني وتتحلى بتلك الصفات ؟! . لاسيما بعد أن عرّت أحداث الاحتلال الأمريكي وفضحت تداعيات ما بعد الاحتلال ؛ المخجل من القباحات السياسية ، والمتوحش من السلوكيات الاجتماعية ، والمتبربر من المواقف الأخلاقية ، ندر أن شهد لها تاريخ البشرية مثيلا”في الانحطاط والهمجية. بحيث أنها ستبقى – إلى أن يشاء الله – في ذاكرة الأجيال العراقية اللاحقة ، مرجعا”للمقارنة ومعيارا”المضاهاة لا في ميادين السياسة وألاعيبها فحسب ، ولا في حقول الاقتصاد وفساده فحسب ، ولا في أطر الاجتماع وتهتكه فحسب . بل وفي مضامير الثقافة وانحرافاتها ، وفي رحاب الدين وعصبياته ، وفي نطاق الهوية وتصدعاتها . ولأن الثقافة بدون وعي ناضج يسندها ويرعاها ، سرعان ما تستحيل إلى منتجات فولكلورية تغذيها أساطير الأصول وتلقمها خرافات العصبيات ، مثلما إن الفكر بدون وعي متبصر يدعمه ويسدد خطاه ، سرعان ما ينقلب إلى ملجأ للغرائز المستنفرة وموطن للعواطف المجيشة ، وهو ما يستدعي أن يحتل الوعي الذروة في معمار الثقافة والقمة في مدماك الفكر . وعلى قدر ما يكون مستوى (الوعي) من التطور الحضاري والرهافة الإنسانية ، يكون نصيب (الثقافة) العامة وحصة (الفكر) المشترك للمجتمع المعني من ذلك التطور وتلك الرهافة . وحيث إن حال بنية الوعي الجمعي للمجتمع العراقي من السوء والرداءة ، بحيث لا يمكن إلاّ أن توصف بكونها بنية متكلسة على صعيد المكونات ، ومتهرئة على مستوى العلاقات ، ومتخلفة على صعيد الدلالات . فان الاعتقاد بوجود ثقافة عراقية عليا / جامعة ، فضلا”عن الاعتماد عليها في توحيد الخطابات وعقلنة التصورات وأنسنة العلاقات ، يكاد يكون ضربا”من المجازفة العاطفية والتهور الرومانسي . ولذلك فليس من باب العجيب والغريب أن يكون إنتاجها المعرفي بهذه الضحالة ، ويكون خطابها الثقافي بهذا الإسفاف ، ناهيك عن خوفها وتهيبها من أي شكل من أشكال المنهجيات النقدية الحديثة ، التي تمتاز بالحفر العميق للموروثات الدينية ، والحرث الواسع للتاريخيات الاجتماعية ، والتشريح الجرئ للذهنيات المخيالية . وبالنظر إلى طبيعة العلاقة القائمة بين هكذا نمط من بنى الوعي الاجتماعي من جهة ، وبين تصورها المعرفي وخطابها الثقافي من جهة أخرى ، لا يسعنا إلاّ أن نستنتج إن الرابطة بينهما ستكون مبنية على جدل الانسلاخ في العلاقات والانمساخ في الذهنيات . بمعنى إن خاصية الجمود والتقوقع التي تكون عليها بنية الوعي المتخلف ، تمتاز بكونها بنية طاردة وليست جاذبة لفاعلي النسق الثقافي (= المثقفين) ، لا بالمعنى العام والشامل كما قد نعتقد أو نتصور ، وإنما بالمعنى الخاص والمحدود . أي أنها تكون في حالة من الاستعداد الدائم لاحتضان واستيعاب كل من يقبل بشروطها التقليدية ويعمل وفقا”لأوالياتها الاستاتيكية ، ويكون بالتالي حال لسانها في القول / الخطاب الثقافي وفي العمل / الانجاز الاجتماعي . بيد أنها لا تلبث أن تتصدى بالرفض القاطع والممانعة الباتة ، لأي عنصر وعي (مثقف) امتلك ناصية المعارف الحديثة وأدرك سبل المنهجيات المتطورة ، سعيا”منه لاستثمار فضائل تلك الفكريات في تغيير مكونات الواقع ، وتوظيف مناقب تلك النظريات في تطوير علاقات المجتمع ، وذلك من منطلق حرصها (= البنية)على ثباتها البنيوي والمحافظة على سكونها المعرفي . ولهذا فالإشكالية التي يقع ضحيتها المثقفين الذين تجاسروا على قبول رهان النقد للاعتقادات الجامدة والمسالة للتواضعات المتحجرة ، لا تقتصر فقط على معاناتهم المستمرة لحالة الانسلاخ عن بنية الوعي الجمعي الصدئة ، وحملهم بالتالي على التغريد خارج السرب الثقافي المتفكك أصلا”فحسب ، بل وتحملهم أعباء ما ينجم عنها ويترتب عليها من تبعات الانمساخ في كيفيات إدراك الواقع الذي ولدوا فيه ، وفهم جدليات المجتمع الذي ينتمون إليه ، بحيث يغدو لا مناص أمامهم من انتهاج طرق التجريد في التحليل للدوافع ، والطوباوية في التأويل للوقائع . للحد الذي يجعل إسهاماتهم رغم غناها كحرث في أرض سبخة ، ويحيل مبادراتهم رغم صدقها كصرخة في واد اجرد . ولعل ظاهرة النبوغ الفكري والإبداع الثقافي التي نلحظها لدى أغلب الذين هاجروا أو هجروا خارج العراق ، من الكتاب والباحثين والأكاديميين المثقفين ، تفسر لنا عمل تلك الجدلية ليس فقط على صعيد التحرر من المخلفات الانثروبولوجية والتفلت من المسبقات الإيديولوجية ، التي كانت تكبل إرادتهم وتشل تفكيرهم وتغل إبداعهم وتعطل طاقتهم فحسب ، وإنما في القدرة على اختراق بنية وعيهم القديم لغربلته مما ترسب فيه من أوهام وأباطيل ، وتفكيك عناصر ثقافتهم السابقة لتنقيتها مما علق بها من أكاذيب وأضاليل . هذا في حين نجد إن مثقفي الداخل ممن آثروا البقاء ؛ إما لدوافع وطنية مبهمة ، وإما لمنافع حزبية مرتقبة ، وإما لنوازع تعصبية منفلتة . لم يبرحوا يمارسوا – كل بطريقة الخاصة وأسلوبه الفريد – اللعبة العقيمة ذاتها ، مثلما لم ينفكوا تحبيذ الانخراط في الجدل البيزنطي نفسه ، بحيث تستمر لديهم حالة التكرار لمفردات اللغة / الخطاب حتى وان اختلفت طبيعة الموضوع الاجتماعي ، وتتكرر عندهم صيغة الاجترار لنمط المعرفة / المعلومة حتى وان تباين سياق الحدث التاريخي . مؤثرين وضعية التكيّف مع إرهاصات بنية الوعي الجمعي السائدة ، بالرغم من انتهاء صلاحيتها المعرفية والتاريخية من جهة ، ومحاولين التلاؤم مع اندفاعات السيكولوجيا الاجتماعية ، بالرغم من حالات طيشها وتهورها من جهة أخرى . وبقدر ما يحاول الخطاب الثقافي المدجن أن يربأ بنفسه عن رزايا الواقع الذي يتهمه بالتخلف والانحراف ، وأن يسعى لتنزيه ذاته عن مثالب المجتمع الذي يدينه بالعنف والتطرف ، فان بنية الوعي سرعان ما تثأر لنفسها بتكذيب ادعاءاته وفضح مزاعمه ، ليس فقط عبر حشد المفارقات التي تنشأ ما بين الأقوال والأفعال ، وما بين التنظيرات والممارسات ، وما بين التصورات والتصرفات ، وما بين العواطف والمواقف فحسب ، وإنما من خلال إمعان الأول في مظاهر تخلفه وانحرافه ، وإسراف الثاني في ظواهر عنفه وتطرفه . لذلك لا مناص – لأجل الخروج من هذه الحلقة المفرغة – من اللجوء إلى كسر الأطر الاجتماعية البالية ، واختراق الأنماط الفكرية المتكلسة ، وزحزحة المعاني الرمزية المتهالكة ، بدلا”من دعاوى التنطع الدونكيشوتي لمضاعفة جهود الترميم للمتصدع والتقويم للمنحرف والتطعيم للمحتضر . ولعله من الخطل الفكري والسذاجة المعرفية الاعتقاد بإمكانية إحداث نقلة نوعية في طبيعة بنية الوعي الجمعي العراقي ، من منطلق خطاب ثقافي مبني على المماحكات السياسية بدلا”من التحليلات السوسيولوجية ، وقائم على السجالات الإيديولوجية بدلا”من التأويلات الابستمولوجية ، ومرتكز على الانطباعات التلفيقية بدلا”من الميتودولوجيات النقدية . ذلك لأنه مهما كانت شدة النقد وضراوة الجلد الذي قد يمارسه الخطاب الثقافي ؛ سواء أكان ضد الممارسات السياسية المتسمة بالفوضى والارتجال ، أو ضد المعطيات الاجتماعية الموسومة بالعفوية والهزال ، أو ضد النشاطات الثقافية الموصوفة بالنكوص والانخذال ، فانه والحالة هذه لن ولا يستطيع أن يحدث فرقا”لا في المدخلات / المقدمات التي تغذيها بالفاعلية التخريبية على صعيد التمثل ، ولا في المخرجات / النتائج التي تشحنها بالطاقة التعويقية على صعيد التعقل . طالما إن العناصر التي تتكون منها بنية الوعي باقية على حالها دون تغيير ، وطالما إن آليات اشتغالها مستمرة في عملها دون تحوير ، وطالما أن أنماط تفاعلها ثابتة في سياقها دون تثوير . فحين يفتقد الخطاب الثقافي – تستوي في ذلك جميع أنواع الخطابات – إلى مرتكز فكري راسخ ومنطلق منهجي واضح ، بحيث تكون له بمثابة الموجّه المعتمد نحو النوازع العميقة للسيكولوجيا ، والمرشد الأمين صوب الدوافع المخفية للانثروبولوجيا ، لا تغرنك صرامة لغته التفكيكية وحدة لهجته النقدية ، إزاء ما يشجر في الواقع من تناقضات واختلافات ، وحيال ما يتفجّر في المجتمع من صدامات وصراعات . إذ انه سيبقى مستسلما”لسيول المشاكل السياسية دون الكشف عن أسبابها ، ومنقادا”لهطول النوازل الاجتماعية دون البحث عن مصادرها ، ومتكيفا”لحلول الزلازل القيمية دون السعي لمعرفة بواعثها ، بحيث لن ينفك يقارع طواحين الهواء في الوجدان المجيش ، بدلا”من أن ينازع شياطين البلاء في الواقع المعيش . وهو ما تشهد عليه حال خطاباتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية ، التي بالرغم من كل ما تمتاز به من عزم سجالي وزخم انفعالي ، إلاّ أنها لا تلقى استجابة من هم في وارد قدحها من الحكّام ، ولا تحظى بقبول من هم في وارد مدحها من المحكومين . إذ أنها لا تعزف لحن هؤلاء ولا تطرب مسامع أولئك ، على خلفية إيقاعها النشاز واضطرابها الهارموني ، فضلا”عن كونها تبدو بعيدة عن البيئة التي تنطق فيها وغريبة عن الأذواق التي تنشد لها . وهكذا فالتعويل على دور الخطاب الثقافي – دون أن تكون له قاعدة فكرية متينة (= بنية وعي ناضج) ، مدججة بشتى ضروب المعرفيات عالية التطور ، ومتسلحا”بمختلف أنواع المنهجيات فائقة التقدم – في نقد مجتمع هو أصلا”آيل إلى الانحطاط ، وتعرية واقع هو أصلا”موشك على السقوط ، يكاد أن يكون مغامرة يصعب التكهن بنتائجها ، إن لم يكن انتحارا”جماعيا”مؤكدا”. ذلك لأنه سيفضي – لا محالة – إلى فسخ الرابطة القائمة بين عناصر الواقع ، ويسلخ العلاقة الموجودة بين مكونات المجتمع ، وينسخ جدليات التفاعل المتوقع حدوثها بين عناصر الأول ومكونات الثاني ، ويمسخ بالتالي أي مسعى أو جهد يرمي إلى تقييم أنماط الذهنيات ، المتمخضة عن هذا الحشد من الإرهاصات السيكولوجية ، والصراعات السوسيولوجية ، والانخلاعات الانثروبولوجية ، والانقطاعات الابستمولوجية .
خامسا- خطاب المثقف وبنية المخيال .. جدل الاغتراب والاحتراب :
مما لا ريب فيه إن الشخص المثقف هو كائن اجتماعي أولا”وموجود إنساني ثانيا”، بمعنى انه نتاج بيئة محلية / وطنية أرهفت حواسه وصقلت مواهبه وكونت شخصيته ، بحيث تشرّب قيمها وعاداتها وتمثل موروثها ورموزها ، قبل أن يكون حصيلة ظروف عالمية / أممية أسهمت في توسيع مداركه وتنويع معارفه وإنضاج عيه . ولهذا فليس من المعيب أخلاقيا”ولا من المستهجن اجتماعيا”، أن يحمل المثقف بين ثنايا عقله بقايا من تلك الخلفيات ، أو أن يحتفظ بين طيات مخياله شظايا من تلك المؤثرات ، وإلاّ لاستحال عليه أن يغدو كما يوصف كعنصر بارز من طليعة المجتمع ، أو أن يتعذر على الآخرين تصنيفه ضمن النخبة ومن علية القوم . باعتبار إن تلك المواريث – بغثها وسمينها – تشكل الأساس الذي يبني عليه ويشرع منه ويطور فيه ؛ ليس فقط ما يتعلق برصيده الثقافي واقتداره المعرفي وخزينه القيمي فحسب ، بل وفيما يتصل بشؤون المجتمع التاريخية والدينية والحضارية والأخلاقية أيضا”، التي يكون ملزما”حيالها بتشذيب نتوءاتها وتهذيب انحرافاتها وتصويب اختلالاتها . ولهذا فقد وجد فيلسوف الهيرمينوطيقا (بول ريكور) إن ((الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يبقى طويلا”فريسة لطفولته . والإنسان هو ذلك الكائن الذي تجذبه طفولته إلى الخلف ))(1) . بيد أن لتلك المواريث – شأنها في ذلك شأن كل الظواهر ذات الطبيعة الاجتماعية – عواقب لا ينبغي تجاهلها ومثالب لا يجوز إغفالها ، لا تتمخض فقط عن أنماط تكوينها داخل نسق الثقافة العامة ، بحيث تنافسها على السيادة العليا وتعارضها على الهيمنة الشاملة ، وإنما في تبعات تنميطها لبنية الوعي الاجتماعي ، بحيث تحول دونها على صعيد تطويرعناصرها وتحوير مضامينها وتغيير اتجاهاتها ، وتبقيها من ثم تدور في فلكها وتتغذى على فتات قيمها . وهنا تقع على عاتق المثقف الحقيقي مهمة لا يحسد عليها ، تتمحور حول إمكانية الفصل والتمييز ما بين الجوهري / الايجابي فيها ؛ فكريات عقلانية لهضمها ورمزيات إنسانية لتمثلها ومنهجيات واقعية لتبنيها من جهة ، وما بين الشكلي / السلبي منها ؛ مخلفات عنصرية لنبذها وترسبات تعصبية لاستبعادها ونزعات عدوانية لاجتثاثها من جهة أخرى . إلاّ أن هذا الأمر ليس بالمهمة اليسيرة كما قد يظن البعض ، مثلما لا يعد نزهة يسهل على المرء أنى ومتى شاء القيام بها ، إنما هي مجازفة خطيرة تحتاج إلى مجهودات جبارة ومحاولات فائقة الصعوبة ، لا يتاح لأيا”كان التمكن من انجازها والخروج منها سالما”دون خسائر ، حتى أن أغلب الذين نجحوا في تخطي تلك الصعوبات الاجتماعية والمعوقات النفسية ، لم يبرأوا بعد من جراحها الغائرة وإصاباتها الدائمة . خصوصا”حين تقع الأزمات السياسية الساخنة ، وتحصل الانهيارات الاجتماعية المدوية ، وتحدث الانعطافات التاريخية الحادة ، وتتداعى الانكسارات القيمية المفاجئة ، ولعل المثال الشاهد على ذلك ما حصل لأغلب من يحسبون أنفسهم مثقفي عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي . إذ سرعان ما تحولوا إلى ناطقين نشطين لكياناتهم وأحزابهم ، ومدافعين مسعورين لأديانهم وطوائفهم ، ومنظرين فاعلين لأقوامهم واثنياتهم ، وغيورين متعصبين لمناطقهم وجهاتهم ، ودعاة متحمسين لقبائلهم وعشائرهم . هذا من جانب ، إما من جانب ثان ، فانه يتوجب على من يرغب أن يلقب أو ينعت بالمثقف العضوي – بالمفهوم النيتشوي لا بالمفهوم الغرامشي ، إذ إن الفرق بينهما على صعيد الدور والوظيفة كبير ونوعي ليس من الحكمة تجاهله – مراعاة عدم خلط الأوراق وتضييع الفواصل ما بين حصيلة وعيه الذاتي المتشكل على قاعدة البحث النقدي والتنقيب المتسائل والدراسة المتشككة من جهة ، وما بين محتويات بنية المخيال الاجتماعي المترسبة بصيغة سرديات أسطورية وانثروبولوجية مؤمثلة من جهة أخرى . بحيث لا يسمح لمخلفات تلك البنية الرابضة في قاع اللاوعي الجمعي ، بالتسلل إلى عرين وعيه المعقلن والتغلغل إلى خزين ثقافته المؤنسنة ، وهو ما يخشى بالتالي أن تحنط أفكاره عن ذاته ، وتنمط معارفه عن مجتمعه ، وتحط من معلوماته عن واقعه . ولهذا فان المرء لا يغدو مثقفا”لمجرد انه بات يحسن التعبير عن لواعجه الشخصية ، ويتقن الإفصاح عن همومه الاجتماعية ، إنما – وهنا تقع النقطة المفصلية بين المثقف وغير المثقف – يتوجب عليه أن يحارب طفيليات عقله المؤمثلة ، ويقاوم جنيات مخياله المؤسطرة ، ويتغلب على ممانعات لاوعيه المشخصنة . حيث تتكون التصورات الخرافية عن الأصول الأقوامية ، وتتبلور ملامح الاعتقادات الأسطورية عن المصادر الطوائفية ، وتتشكل معالم الرمزيات التشبيحية عن الأرومات القبائلية . وبقدر ما يظن المثقف إن خطابه المتشكل على قاعدة من الثقافة التقليدية والوعي الملتبس ، قمين بحمل المجتمع المتشظي بنيويا”والمتصدع قيميا”على ترك انتماءاته التحتية لصالح انتماءه الفوقي ، والتخلي عن ولاءاته الهامشية لصالح ولاءه الرئيسي ، والإمساك عن ثقافاته الفرعية لصالح ثقافته الأصلية ، والإعراض عن هوياته الجانبية لصالح هويته الوطنية . فانه بذلك لا يلحق الضرر بالمجتمع الذي يعتقد انه يدافع عن مصالحه ، وبالوطن الذي يتوهم انه يذود عن حياضه فحسب ، ولكن ، بالإضافة إلى ذلك ، يترك نفسه عرضة للتآكل الفكري والتضاؤل المعرفي والاضمحلال الأخلاقي ، ويصبح بالتالي عالة على المجتمع الذي يفترض انه جاء لانتشاله من محنه ، وكارثة على الوطن الذي ظن انه قدم لإنقاذه من كوارثه . وإذا كنا قد شخصنا لتونا واحدة من إشكاليات المثقف العراقي ؛ حيث التأرجح ما بين مطرقة الانسلاخ عن مكونات بنية الوعي الجمعي ، وبين سندان الانمساخ في تقييم طبيعة الصراعات السوسيولوجية الفاعلة ، ونمط الاحتقانات السيكولوجية الناشطة . على خلفية التناقض والتعارض بين خطاب الثقافة الذي يمارسه على مستوى الشعور ، وبنية الوعي التي يستبطنها على صعيد اللاشعور ، والتي يبدو انه يعيش مآزقها ومحنها دون أن يعي مصادرها ومنابعها ، لأسباب لعلها تتعلق بخضوعه المزمن لعمليات الاجتياف الإيديولوجي والتماهي الكاريزمي . فان هناك إشكالية – بلّه إشكاليات – أخرى لا تقل عن الأولى ضررا”؛ إن لجهة احتلالها مساحة – تضيق وتتسع بحسب الحالات التي يختبرها والوضعيات التي يواجهها – ضمن فضاء وعيه الشقي ومحيط ثقافته البائسة ، أو لجهة تأثيرها على واقعية تفكيره وعقلانية سلوكه وإنسانية علاقاته . تلك هي إشكالية وقوعه بين شقي رحى ؛ خطابه الثقافي المؤدلج من جهة ، وبينة مخياله المؤسطر من جهة أخرى . فالغالب على مثقفي بلدان العالم الثالث بصورة عامة ، وبلدان العالم العربي وطليعتها العراق بشكل خاص ، إن الإيديولوجيات الراديكالية بمختلف أنماطها وتنوع اتجاهاتها ( دينية / إسلامية ، قومية / عربية ، يسارية / ماركسية ، ليبرالية / ديمقراطية ) ، أسهمت بشكل مباشر وفعال في تحنيطهم فكريا”وتنميطهم معرفيا”وتثبيطهم منهجيا”، بحيث قلما يوجد من يمتلك القدرة ويحوز الإمكانية على الإفلات من إسارها والتخلص من أوزارها . لاسيما وان تلك الإيديولوجيات الجماهيرية والفكريات الشعبوية ، وجدت لها في طبيعة السيكولوجيا الاجتماعية العراقية – موطن التمثلات الأسطورية والتصورات الخرافية والاعتقادات الصوفية – أرض خصبة للانتشار الاجتماعي والازدهار السياسي والإثمار الثقافي . ولهذا بات من الصعب / المتعذر عليهم (= شريحة المثقفين) التوغل في شعاب الظواهر التي تنثال فوق رؤوسهم كما لو أنها حمم بركانية ، والوصول إلى مكامن الأحداث التي تتفجر في وجوههم كما لو أنها ألغام موقوتة . تاركين لصخب الواقع بأزماته وضجيج المجتمع بصراعاته لا يمنع عنهم فقط الإصغاء إلى دفق سيول العالم السفلي فحسب ، وإنما يحجب عنهم رؤية ما يمور في رحمه من تفاعلات وانفجارات . وهو الأمر الذي سوّغ لكل من تصدى لدراسة المجتمع العراقي ، أو ساقته الرغبة للبحث في طبيعة شخصيته الاجتماعية ، مهر تفكيرهم بالدافع الانفعالي/ المزاجي ووسم سلوكهم بالطابع التناقضي / الازدواجي . آخذين بنظر الاعتبار جملة من الحقائق سوسيولوجية والمعطيات انثروبولوجية التي مؤداها ؛ إن الفرد العراقي – بصرف النظر عن أصله القومي ، وانحداره الطبقي ، وانتماءه السياسي ، وولاءه الإيديولوجي ، واعتقاده الديني ، ومستواه الثقافي – يمتح من معين سرديات قل نظيرها وشح مواز لها ؛ لا في أقدميتها التارخية ، وأسبقيتها الحضارية ، وأولويتها الدينية فحسب ، بل وفي موروثها الأسطوري ومخزونها الملحمي ورصيدها المخيالي أيضا”. بحيث إن تصوراته عن الحاضر الذي يعيشه ، وتوقعاته عن المستقبل الذي ينتظره ، أضحت تتشكل وتتبلور وفقا”لمعايير الماضي ومقاييس رموزه وليس العكس . بمعنى إن إيحاءات الماضي المؤسطر وملابسات التاريخ المؤمثل ، هي ما تسيطر على إرهاصات الحاضر وتوجّه مسارها ، مثلما إن أساطير المخيال وأوهام الذاكرة ، هي ما يتحكم بخيارات العقل وتوجهات الوعي . وهنا لابد لنا من التأكيد على مٍسألة على غاية من الأهمية مفادها ؛ إن توظيف المعطيات الرمزية والمخيالية والأسطورية في خطاب المثقف العراقي ، حيال صراعات الواقع السياسي وصدامات التجربة الاجتماعية ، لا يشبه في شيء استثمار المعطيات ذاتها في خطاب المثقف الغربي إزاء الديناميات والتفاعلات نفسها ، لا في المنظور المعرفي ولا التاريخي ولا المنهجي . ففي الوقت الذي يستهدف هذا الأخير من تلك المعطيات تشخيص الديناميات الصاخبة والدوامات العميقة لبنية الوعي الجمعي (أسطوريات ، تمثلات ، فكريات ، خرافات ، سرديات ) ، ومن ثم كشف ما تمارسه على أنظمة الخطاب بمختلف أنواعها ، واستخلاص ما تفرزه على أنساق الثقافة بشتى مستوياتها ، وتتبع ما تفرضه على أنماط السلوك بكل تمظهراتها ، وبالتالي اجتراح الحلول الواقعية والمعالجات العقلانية ، لكل ما يواجهه المجتمع من هزات سياسية ، وارتجاجات اجتماعية ، وتصدعات قيمية ، وانقطاعات ثقافية ، وانعطافات تاريخية ، وارتكاسات معرفية ، وارتدادات حضارية . هذا في حين يشهد تاريخنا الفكري والثقافي على إن المثقف العراقي ، الذي لازمته نوازع الاستعلاء الديني والخيلاء الحضاري والاكتفاء التاريخي ، كان ولا يزال يرمي من خلال استثمار تلك المعطيات المؤثرة في وعيه والناشطة في لاوعيه ؛ ليس فقط إلى التخندق فيها للتغطية على عجزه الثقافي ، والتمترس خلفها للتستر على خواءه المعرفي ، والتحصن تحتها للتمويه على هزاله المنهجي فحسب ، وإنما ، بالإضافة إلى ذلك ، إلى أصنمة الماضي على الرغم من كونه موبوء بالتعقيدات الأسطورية ، وأقنمة التاريخ على الرغم كونه ملئ بالملابسات الخرافية ، وتوثين الذاكرات على الرغم من كونها مشحونة بالحساسيات الدينية ، وتقديس السرديات على الرغم من كونها مفعمة بالصراعات الطائفية . وحين يكون الموروث المخيالي على وفق هذه الخلفية الملتبسة ، هو الذي يؤطر العلاقة ما بين الأفراد والجماعات ، وحين يغدو المأثور الفولكلوري على وفق تلك الصورة المشوشة ، هو الذي يرسّم الحدود ما بين الانتماءات والولاءات . يغدو من السذاجة الثقافية والبلاهة الفكرية توقع أن يعكس خطاب المثقف المستتبع / المستقطب ؛ طبيعة المجتمع المأزوم ونمط علاقاته ، أو أن يجسد حقيقية الواقع المرتبك وأوالية تفاعلاته ، أو أن يبلور خاصية الوعي الملتبس وأشكال تمظهراته . بحيث إن الهوة بين الواقع المعاش والمخيال المجيش لا تني تتسع والقطيعة تتعمق ، للحدذ الذي يفضي بالمثقف للوقوع في دائرة الإحساس بالاغتراب ؛ ليس فقط على صعيد انتماءه الاجتماعي وولاءه السياسي فحسب ، بل وعلى مستوى ذاكرته التاريخية وهويته الوطنية وقيمه الرمزية أيضا”، طالما إن بنية وعيه الجمعي التي يجهل طبيعتها المتشظية ويتجاهل طابعها المتذرر، هي التي تتحكم بنسق ثقافته وفكرياته ، وتتسنّم مقاليد مواقفه وسلوكياته . ولأن الغالبية العظمى من مثقفي العراق المعاصر يميلون – خصوصا”عند الأزمات والتوترات – إلى الاحتكام إلى رموز ثقافاتهم الفرعية (الدينية / الطائفية ، والقومية / العنصرية ، والقبلية / العشائرية ، والجهوية / المناطقية ، واللسانية ، اللغوية) ، بدلا”من اللجوء إلى مشتركات شخصيتهم الاجتماعية ، ومدماك هويتهم العراقية ، ومعمار ثقافتهم الوطنية ، وساتر ذاكرتهم التاريخية ، وحصن أرومتهم الحضارية . فالراجح – جراء هذه الحالة – إن حالة الاغتراب – التي قد لا يشعرون بها أو حتى إن بعضهم قد ينفي وجودها – سرعان ما تقودهم إلى التخاصم على صعيد الخطابات بكل أنواعها والتصادم على مستوى البنيات بمختلف أشكالها . ومتى ما كانت بنية الوعي الجمعي تفتقر إلى التفاعل بين مكوناتها والتواصل بين عناصرها ، فان أواليات الجدل السوسيولوجي لا تلبث أن تشغّل آلياتها وتفعّل منظوماتها ؛ ليس باتجاه التطور والتقدم المتمثل بواقعة الاغناء البيني والإثراء المتبادل – كما يفهم عادة من سيرورات الجدلية الاجتماعية – وإنما باتجاه التقهقر والتهدم المتمخض عن صيغة الإلغاء البيني والإفناء المتقابل . وحينئذ لا مناص من توقع شروع جدلية الاغتراب الذاتي والاحتراب الموضوعي بممارسة فعلها الكارثي ؛ ليس فقط على مستوى الحاضر وما يجيش فيه من نزاعات سياسية / حزبية ، وصراعات اجتماعية / اثنية ، واحتقانات دينية / طائفية ، ونعرات قبلية /عشائرية ، وعصبيات مناطقية / جهوية فحسب ، بل وكذلك على صعيد الماضي وما يعشعش فيه من تمثلات أسطورية / خرافية ، وأصوليات أولية / بدائية ، وخلفيات اعتقادية / طقسية ، وتصورات استيهامية / تشبيحية ، ناهيك بالطبع عما هو في طور الصيرورة للمستقبل من توقعات غامضة واحتمالات مبهمة وتكهنات مغلوطة . ولهذا فليس من الذكاء في شيء الاعتقاد بأنه لأجل أن تستعيد قوى اليسار العراقي دورها الإصلاحي في مضمار السياسة ، وتمارس وظيفتها النهضوية في ميدان الاجتماع ، وتؤدي رسالتها التنويرية في حقل الثقافة ، يكفي حملها لتجميع شتاتها المهلهل ، واستئناف نشاطها المعطل ، وتفعيل خطابها المؤمثل . دون التبصر بعواقب ما تضمره من دوافع غريزية على مستوى (الهو) ، وما تخفيه نوازع همجية على مستوى (الأنا) ، وما تتسر عليه من سلوكيات عدوانية على مستوى (الأنا الأعلى) . لاسيما وإنها جزء لا يتجزأ من طبيعة هذا الواقع المستباح بكل مستوياته وتمفصلاته ، ومكون لا ينفصل عن مكونات ذلك المجتمع المخترق بجميع أطره وبناه ، وعنصر لا يغيب عن عناصر ذلك الوعي المعلب في تصوراته وتمثلاته . ولهذا فقد عرّت التجارب المريرة التي شهدها المجتمع العراقي طيلة العقد المنصرم ؛ كيف اعتمر غلاة الماركسيين بالأمس عمامة رجال الدين المتعصبين ، وكيف استحال عتاة العلمانيين بالأمس إلى زعماء طائفيين شرسين ، وكيف انقلب حماة الفكر القومي بالأمس إلى قادة انفصاليين ديماغوجيين ، وكيف تحول الدعاة الليبراليين بالأمس إلى شيوخ عشائريين مهوسيين . والأنكى من ذلك إن أصحاب هذه الرؤى ذهبوا شوطا”أبعد في هذا الاتجاه ، حين زعموا انه من المناسب لتيارات القوى اليسارية – إذا ما أرادت إن تستعيد مكانتها وتستأنف نشاطها – أن تغازل بعض التيارات الدينية ذات القواعد الجماهيرية والشعبية الواسعة ، ومن ثم التحالف معها لتكوين كتلة تاريخية(!) تستطيع من خلالها وبالاعتماد عليها مزاحمة التيارات والقوى اليمينية الأخرى ، فضلا”عن كونها تعتبر تاريخيا”وإيديولوجيا”الممثل الشرعي والوحيد لآمال وتطلعات تلك الجماهيريات المحرومة والمضطهدة . ولأجل أن تغدو هذه الرؤيا الطوباوية حقيقية تاريخية واقعة ، يعمد الأكاديمي العراقي الدكتور (فارس عمر نظمي) إلى تتويجها بالتحذير التالي (( لا يجوز لليسار السياسي (العاجز) موضوعيا”أن يغفل عوامل الأمل والفاعلية الكامنة في سيكولوجيا الجمهور اليساروي النزعة ، كما لا يجوز لليسار السياسي (العاجز) ذاتيا”أن يستسيغ أو يؤبد فكرة الفشل ، إذ كثيرا”ما كان الحراك الاجتماعي كفيلا”بإصلاح الترهات الإيديولوجية للنخب السياسية إثناء مفاصل التاريخ الكبرى ))(2) . ولأن كلام الأستاذ هنا لا يقصد منه التعميم لهذه الفرضيات والاستنتاجات ، بقدر ما يستهدف تجربة محددة ومخصوصة هي تجربة المجتمع العراقي حصرا”، فانه خطابه المفعم بالنوايا الحسنة والتأملات الطيبة ، لم يسعفه لتقديم ما يعزز تلك الفرضيات والاستنتاجات ، اللهم إلاّ إذا وافقنا على اعتبار إن نتائج الثورات التي قادتها (الجماهيريات العنيفة) ، كانت العامل الأساسي في تقويم الانحرافات السياسية للنخب وإصلاح الترهات الإيديولوجية للأحزاب ، كما يحاول إثباته والبرهنة عليه أستاذنا الفاضل (فارس) بكل حمية . وهكذا كم تبدو رهانات التغيير الاجتماعي والتنوير الفكري والتطوير الحضاري ، القائمة على مجرد حسن النية وصدق الطوية في خطابات المثقف العراقي حيال واقعه المتهالك ومجتمعه المتفكك ، عقيمة وغير مجدية طالما أنها مبنية على جهل ليس فقط بما يمور في مجاهيل المخيال الجمعي والذاكرة التاريخية ، من انقطاعات مستمرة وانخلاعات متكررة وتشوهات دائمة فحسب ، وإنما تجاهل ما يتخلل بنى الوعي الفردي والسيكولوجيا الاجتماعية من انفعالات مطمورة واحتقانات كامنة وهيجانات مؤقتة وانفجارات مؤجلة ، يكفي لحادث بسيط أو واقعة عفوية أن تطلق العنان لموجة ، بلّه لموجات ارتدادية ؛ من الانشطارات الاجتماعية / والجماعاتية الصاخبة ، والاستقطابات الدينية / الطائفية المدوية ، والتصدعات الثقافية / الرمزية الضاجّة ، التي غالبا”ما تكون حصيلتها الخراب الاجتماعي والدمار الاقتصادي والتصحر الثقافي والتبربر الحضاري الانحطاط الإنساني .
سادسا”- الانتلجنسيا العراقية وإشكاليات وعيها الملتبس :
لا ريب من الاعتراف بان الحديث عن نخبة عراقية واضحة المعالم والقسمات ، من منظور مفهوم (الانتلجنسيا) يعد ضربا”من المجازفة السوسيولوجية والابستمولوجية على حدّ سواء . ذلك لأن استخدام هذا المفهوم لتوصيف إشكاليات المثقف العراقي ، دون مراعاة طبيعة المجتمع الذي نتحدث عنه ، وسياق المرحلة التاريخية التي نقصدها ، ونمط البنية الثقافية التي ندينها ، يعتبر تجاوزا”لا تحمد عقباه ما لم يصار إلى توضيح الأسباب الموجبة التي ألجأتنا الضرورة المنهجية لاستخدامه هنا ، على الرغم من اقتناعنا المسبق بعدم وجود مثل هكذا نخبة يمكن تصنيفها ضمن إطار ذلك المفهوم . وإذا ما تجاوزنا المعايير الاجتماعية والمقاييس المعرفية والشروط المنهجية ، التي تسبغ على شريحة المشتغلين بالأنشطة الفكرية والممارسات الثقافية تسمية الانتلجنسيا ، فان المثقفين العراقيين يستحقون هذا الوصف لا لأن تلك المعايير والمقاييس والشروط تنطبق عليهم وتتحقق فيهم ، بوصفهم كتلة توحدها المواقف وتجمعها التصورات وتؤلف بينها التطلعات ، وإنما بالعكس لكون الخلافات السياسية ، والتناقضات الاجتماعية ، والتعارضات الثقافية ، والحساسيات الدينية ، والاستقطابات المذهبية ، والعصبيات القبلية ، هي السمات التي تميزهم عن أقرانهم من مثقفي بلدان العالم الثالث ، مثلما هي الصفات التي تخلع عليهم هذا اللقب السامي . بمعنى إن التعارض والتناقض في الاتجاهات والتخاصم والتصادم في الذهنيات ، والتنازع والتصارع في العلاقات ، هي ما يشكل العوامل المشتركة التي يلتقون حولها وينخرطون فيها ويشرعون منها ، وتضفي عليهم ، بالتالي ، طابع الانتظام البنيوي والتناغم القيمي . ومثلما إن حالة الحركة هي العنصر الثابت في قوانين الجدل الطبيعي والاجتماعي ، فان الانشطار في الرؤى السياسية ، والتذرر في التصورات الدينية ، والتبعثر في التمثلات الرمزية ، هي الشيفرة السحرية التي يمكن بالاهتداء إليها والاعتماد عليها ، حلّ كل عقد الشخصية العراقية الملغزة وتشخيص حالاتها الشيزوفرينية المطلسمة ، سواء تعلق الأمر بعناصر النخبة (الانتلجنسيا) ، أو بمكونات المجتمع الأخرى فالأمر سيان في الحالتين . ولعل ما يشفع لنا استخدام هذا المفهوم السوسيولوجي الذي يشترط توافر مجموعة من السمات الخاصة والمواصفات الفريدة لتوصيف طبيعة النخبة العراقية ، جاء من باب الاستجابة لضرورات التحليل الاجتماعي والتأويل المنهجي ، وليس بناء على معطيات اجتماعية قائمة ووقائع ثقافية ملموسة وحقائق تاريخية شاخصة . بحيث نستطيع الحديث – دون الخشية من الانزلاق صوب محاذير التعميم المفرط – عن إشكاليات المثقف العراقي وعوامل اخصاء وعيه بشكل عام ، دون أن تعيق مهمتنا تفاصيل انتماءاته الأقوامية المتنوعة ، وولاءاته الطوائفية المختلفة ، واستقطاباته القبائلية المتباينة ، وتخندقاته الجهوية المتعددة على وجه الخصوص . بل إننا نعتقد إن هذه الأخيرة ستكون لنا بمثابة المرشد / الدليل الذي سيقود خطواتنا وسط تلك المتاهة البشرية التي اسمها الشخصية العراقية ، بعد أن أعيت الكثير من الباحثين والكتاب في الوصول ، ليس فقط إلى مكامن ازدواجيتها ونوابض مزاجيتها فحسب ، بل والاهتداء إلى مفاتيح ازدرائها للرمزيات السياسية ، وتطرفها في الذهنيات الإيديولوجية ، وتعصبها في الاعتقادات الدينية ، وعنفها في السلوكيات الاجتماعية . والجدير بالملاحظة هنا إن تشديدنا على الصعوبات والمعوقات التي تكنف عملية سبر أغوار الشخصية العراقية ، لا ينبغي أن يوحي لنا بان ليس هناك من حاول – ونجح بهذا القدر أو ذاك – إماطة اللثام عن العوامل الموضوعية والذاتية ، التي جعلت من الشخصية العراقية تبدو على هذا النحو من الترجرج الزئبقي والتقلب الشبحي . بيد أن معظم تلك المحاولات الجريئة والشجاعة ، لم تستكمل عمليات تحليلها النقدي وتفكيكها المنهجي حتى النهاية ، بحيث تضع ثوابت الوعي الاجتماعي ومسلمات الإدراك الشعبي على المحك . وإنما توقفت عند منتصف الطريق متوخية أسلوب الكسر تارة والجبر تارة أخرى ، إما تجنبا”للنقد الذي قد يكشف نقاط ضعفها في تشخيص العلل ومعالجة الخلل ، وتفضح بالتالي ضحالتها المعرفية هشاشتها المنهجية ، وإما خشية الوقوع في دائرة التخوين الوطني والتكفير الديني ، التي باتت هذه الأيام من الأساليب الرائجة للتسقيط السياسي والتهميش الاجتماعي . وهكذا نعتقد انه لا حرج – لأغراض بحثية ومنهجية – من شمول المثقفين العراقيين بمفهوم الانتلجنسيا ووضعهم تحت طائلته ، بحيث يمكن اعتبار إن ما ينطبق على بعضهم من صفات وسمات ينطبق على البعض الآخر ، وان ما يعانيه قسم منهم من ممنوعات موضوعية وممانعات ذاتية يسري على بقية أقرانهم من الأقسام الأخرى .
1. سلطة الممنوع القول عنه: ليس من الغريب أو الشاذ أن يتمحور الخطاب الثقافي للانتلجنسيا العراقية ، في غالبيته العظمى ، حول عواقب وتبعات سلطة الممنوع القول عنه ، ليس فقط على مستوى تردي الثقافة الوطنية وتدهور الوعي الاجتماعي فحسب ، وإنما على صعيد تعهر السياسة وتقهقر التاريخ وتفجر الاجتماع وتذرر الهوية أيضا”. ولعل هذا الأمر متأت من واقعة خضوع المجتمع العراقي لموجات متعاقبة من ؛ الاضطهادات القومية والعرقية ، والحرمانات الاقتصادية والخدمية ، والصراعات الطائفية والمذهبية ، والتمايزات الاجتماعية والطبقية ، والحساسيات الجهوية والمناطقية ، والتوترات القبلية والعشائرية ، التي كانت تؤجج لهيبها وتسعّر أوارها سلسلة طويلة من الحروب الخارجية والداخلية . بحيث إن تلك الأوضاع الشاذة والظروف الاستثنائية وضعت شرائح النخب خاصة وفئات الشعب عامة ، في حالة من الاستنفار الدائم والمواجهة المستمرة ، ليس فقط مع الغزاة والطامعين الخارجيين ممن اجتذبتهم خيرات العراق الوفيرة وموقعه الجيوبولتيكي المتميز فحسب ، وإنما وبالقدر نفسه – ربما تتغلب في بعض الأحيان كفة العوامل الداخلية على الخارجية – مع رموز السلطة السياسية (سلاطين ، أمراء ، زعماء) وصنّاع الرأي العام (رجال دين ، إيديولوجيين ، بيداغوجيين) . مما تراءى للمثقف العراقي – وهو محق نسبيا”في هذه المسألة – أن هؤلاء وأولئك كانوا السبب المباشر لتلك الظواهر المتوطنة في المجتمع العراقي ؛ من مثل التوحش في التعامل مع الذهنيات والفكريات ، والتعطش للعنف في التعاطي مع العلاقات والسلوكيات ، دون أن يفطنوا إلى حقيقة أن خلف تلك الأحداث وتحت تلك المظاهر ، تكمن دوافع عميقة وتربض نوازع مخفية – ستكون موضوع الفقرة التالية – يمكن اعتبارها المسؤول الفعلي ولكن غير المباشر عن استمرار تلك المآسي وتواتر تلك الفواجع . وبعبارة موجزة إن رؤية الأشجار حجبت عنهم رؤية الغابة – كما كان ماركس ينتقد بلهجته التهكمية خصومه الفلاسفة – حيث إن الأولى لا تمتح فقط نسغ صيرورتها وحيويتها من الثانية فحسب ، بل وتستمد منها مقومات ثباتها وعناصر ديمومتها أيضا”. ولهذا فليس بلا مبرر حين يؤكد المفكر اللبناني (علي حرب) على واقعة – وان كنا لا نشاطره طابعها التعميمي – إن (( المثقفون غالبا”ما يركزون نقدهم على الممنوعات والمحظورات المفروضة من الخارج ، فان المفكرين يتوجهون إلى الداخل ، أي إلى منطقة الممتنع على التفكير ، داخل الفكر ، لكي يجعلوا اللامعقول مفهوما”، أو يفسروا ما نعجز عن تفسيره ))(3) . وهكذا فقد استحوذت سلطة (الممنوع القول عنه) على اهتمام المثقفين العراقيين طيلة العقود الممتدة منذ مرحلة قيام الدولة الوطنية عام 1921 – إذا ما استثنينا العهود والمراحل السابقة ، التي كانت من حيث قسوة الظروف السياسية ولا إنسانية الأوضاع الاجتماعية ، أكثر هولا”وأشد فضاعة – وحتى تاريخ كتابة هذه السطور . فمع كل مصيبة أو نازلة تحيق بالمجتمع العراقي جراء جهل السياسيين وفساد طويتهم ، سرعان ما يتجه بندول المثقف العراقي صوب عرين السلطة السياسية الحاكمة ، ليس فقط للاحتجاج على سوء تصرفاتها السياسية ، وانحراف مواقفها الاجتماعية ، وفداحة أخطائها الاقتصادية فحسب ، وإنما للتنديد بإهمال واجباتها الثقافية ، وإغفال مسؤوليتها الإنسانية ، وارتجال قراراتها التحديثية . وهو الأمر الذي استتبع توارث عرف اجتماعي جرى بموجبه تقييم أصالة المثقف العراقي ، ليس بالاعتماد على مؤشرات طبيعة الوعي الذي يحمله ؛ هل هو علمي أم خرافي ، وطابع الثقافة التي يتعامل بها ؛ هل هي إنسانية أم أصولية ، وسستم الأفكار التي يشرع منها ؛ هل هي نسقية أم تفاعلية ، ونمط المنهجية التي يسترشد بها ؛ هل هي نقدية أم تقليدية . وإنما بالركون إلى مستوى السجالية الإيديولوجية لثقافته وهو يقارع رموز السلطة ، ودرجة الراديكالية الانفعالية لخطابه وهو يهجو مؤسسات الدولة . وعلى ما يبدو فان هناك تواطؤ غير معلن بين رموز الأنظمة الحاكمة من جهة ، وبين شريحة الانتلجنسيا العراقية بمختلف مسوياتها وتنوع تياراتها من جهة أخرى ، يتمثل بسماح الطرف الأول للطرف الثاني بممارسة شتى ضروب النقد – الصريح والمبطن – لكل ما قد يتمخض عن الممارسة السياسية من عيوب ومثالب ، بشرط مراعاة عدم التجاسر على حدود المناطق الرخوة للوعي الاجتماعي ، والدخول ، من ثم ، إلى مناطق الحظر السوسيولوجي والانثروبولوجي والسيكولوجي لكينونة الشخصية العراقية . بحيث لا يتم التجاوز – مهما كانت الأسباب – على ما تعتبره السلطة ؛ ممنوعات سياسية ومحرمات دينية وتابوات إيديولوجية ، لا تقوم لأية سلطة سياسية أو غير سياسية من دونها قائمة . من منطلق كونها ركائز أساسية تساعد على إضفاء الشرعية الوطنية والضرورة التاريخية ، بعد أن تشرع عوامل الهدم والتآكل بغزو شرعيتها الثوروية / الطفولية من جهة ، وتستأنف عناصر الوهن والأفول بإطفاء بريقها الإيديولوجي / الطوباوي من جهة أخرى . هذا في حين يبدي الطرف الثاني التزامه بالبقاء ضمن نطاق ما هو مباح من جانب الطرف الأول ؛ بالعوم فوق سطوح الأحداث دون الغوص إلى أعماقها المظلمة ، والتنطع تحت أضواء الوقائع دون الولوج إلى خلفياتها المعتمة ، والنقد لمعطيات الواقع المضطرب دون الحفر في عقليات المجتمع المستقطب ، والإدانة لانحراف المؤسسات المشخصنة دون التعرية لأمراض النفسيات المجيشة . وهكذا فبالرغم من كل الصراعات السياسية ، والتمزقات الاجتماعية ، والانهيارات الاقتصادية ، والتهتكات القيمية ، والقباحات الأخلاقية ، والانكسارات النفسية ، والإخفاقات الحضارية ، والسقطات الإنسانية . لم تبرح الانتلجنسيا العراقية – المفتونة بخطابها الثقافي – تردد نغمات الهجاء السياسي والثقافي ذاتها فحسب ، وإنما تصرّ – بعناد لا تحسد عليه – على سلوك نفس السبل التقليدية ، التي كان أسلافها الأوائل ينتهجونها إبان عهود الاحتلال ومراحل الاستقلال . دون أن ينتابها أي حرج حيال عجزها في التغلب على قصورها إدراك حقيقية مفادها ؛ أن ممارسة نقد مظاهر السلطة السياسية المتريفة وهجاء ظواهر السلطان الاجتماعي المتطيفة ، لا يكفي – بل قل انه لا يجدي نفعا”- إذا ما اقتصر على خطاب ثقافي متعالم ، يزعم انه يغرد خارج السرب المسيطر ويسبح ضد التيار المهيمن ، مهما كانت شدة ذلك النقد ومهما بلغت قساوة ذلك الهجاء . وهو الأمر الذي ينبغي الإسراع بتدارك مثالبه وتلافي عواقبه ، ليس باختلاق أكباش فداء مفترضة أو متخيلة ، يسهل إلقاء اللوم عليها وتحميلها أوزار ما يتعرض له الوطن من اختراقات وما يتحمله المواطن من انتهاكات ، وإنما بالبحث الدؤوب عن تلك الأسباب المخفية ، والتنقيب الجاد عن تلك الدوافع المضمرة ، التي ليست مظاهر الغلو في الإيديولوجيات ، والتعصب في الديانات ، والتطرف في الثقافات ، والعنف في الهويات ، إلاّ تعبيرا”عنها في الذهنيات ، وامتدادا”لها في العلاقات ، واعتمادا”عليها في الخيارات . ولأن عهد المثقف العراقي بحرية التعبير عن مواقفه الوطنية ، والإفصاح عن آرائه السياسية ، والإعلان عن خياراته الفكرية ، والإشهار عن تطلعاته الإنسانية ، حديث نسبيا”إذا ما قيس بامتياز أقرانه من مثقفي بلدان المشرق والمغرب العربيين في هذا المجال ، فان طاقات الكبت النفسي الحبيسة وزخم الانفعالات الوجدانية المقموعة ، أسهمت بشكل فاعل لا في توجيه سهام نقده نحو شؤون السياسة الملموسة وشجون الاجتماع المعيش فحسب – باعتبار كونه بارومتر فائق الحساسية إزاء الهموم اليومية للمواطنين – بل ومارست سلطانا”طاغيا”على تنميط تفكيره وتحنيط وعيه وتشريط خطابه . جاعلة إياه مكتفيا”بمطاردة الآني من الأحداث ، وملاحقة العاجل من الوقائع ، ومتابعة السطحي من القضايا ، والاهتمام بالجزئي من المسائل ، بحيث استدرج لدخول معترك المشاكل السياسية الصاخبة ، التي كان يفترض به النأي عنها لا الانخراط فيها ، وأغوي لولوج أتون الإشكاليات الاجتماعية الضاجّة ، التي كان يفترض به التبرؤ منها لا الاعتماد عليها . ولعل هناك من يلقي باللائمة على تركة النظام السابق في زرع هذه الآفة الثقافية – المفارقة إن الغالبية العظمى من مثقفينا يتبنى وبلا تحفظ وجهة النظر هذه – واعتباره المسؤول عن توطنها في بنية الوعي الاجتماعي ، بحيث أضحت لصيقة بخطاب المثقف العراقي كما لو أنها ظله ، بصرف النظر عن طبيعة التغيير النوعي الذي طرأ على نمط التعاطي مع هذا المجال الحيوي ، لاسيما تقليص أوامر الممنوعات السياسية وتقليل أنظمة المحظورات الإيديولوجية ، التي كانت بمثابة قيود تشل إرادته وتغل طاقاته وتفل عزيمته وتعطل إبداعه . وبقدر ما لهذا التصور / الرأي من مبررات واقعية ومسوغات منطقية ، ليس من الحكمة أو الإنصاف إغفالها أو التقليل من شأنها ، إلاّ إن استمرار التعلل بها والتعكز عليها والتخندق فيها ، لشرعنة حالة التشوش الفكري والتخبط المنهجي التي تعيشها الانتلجنسيا العراقية حاليا”، لا يعد دليلا”لصحة الوعي الاجتماعي ولا برهانا”لعافية الثقافية الوطنية ، بقدر ما يشكل إدانة قاسية لكل من يتبناه ويركن إليه ويتموضع فيه . إذ إن الأجدى بالمثقف الحقيقي أن يتعامل مع أخطاء الماضي من منظور نقدها والتسامي عليها لا اجتيافها والتماهي معها ، وان يتعاطى مع ملابسات التاريخ من منطلق تحليلها والاتعاظ منها لا الإعراض عنها والتعالي عليها ، وان يتواصل مع إشكاليات الذاكرة من زاوية تفكيكها وغربلة محتوياتها لا التسمر فيها والاحتكام إليها ، إذ إن موقف كهذا قمين بإعادة إنتاج المآسي ذاتها وتكرار صنع الفواجع عينها وتدوير فرز الكوارث نفسها . ونحن إذ نستهجن هذه الحالة السلبية التي يبدو عليها المثقف العراقي ، إزاء انغماسه بلعبة نقد السياسة ومساءلة الاجتماع وإدانة الاقتصاد ، لا نرمي من خلالها دعوته إلى ترك السياسة لأصحابها ، والتخلي عن السلطة لصناعها ، والإعراض عن الحكومة لرموزها ، بقدر ما نريد أن يمارس دوره التحويلي دائما”ويمتهن وظيفته التنويرية أبدا”، ليس بالاعتماد على نقد القوة / السياسة ، عبر خطاب ثقافي مؤدلج يستهدف الإصلاح لبيئة خربة بعناصر فاسدة ومقومات عفا عليها الزمن ، ويتنطع للبناء فوق أسس متهالكة نخرتها قرون من التهتك السياسي والتفكك الاجتماعي ، وإنما بالركون إلى قوة النقد / المعرفة عبر سستم تحليلي / تركيبي ومنهج تفكيكي / تجميعي ، لا يستهدف الترقيع للسياسات والتلميع للمؤسسات والتشجيع للشخصيات ، بقدر ما يرمي إلى تفجير البنيات الذهنية ، وتطهير السرديات الأسطورية ، وتكسير الإيقونات الأصولية ، وتحرير الطاقات الإنسانية ، وتثوير الأنظمة الاعتقادية ، وتغيير العلاقات الاجتماعية ، وتنوير العقليات التقليدية ، وتحوير الافهومات الفكرية . بعبارة مختصرة إحداث ثورة جذرية شاملة ؛ لا في انخراطنا في ممارسة السياسة بوصفها وسيلة حضارية لإدارة الشأن العام فحسب ، بل وفي كونها مصدرا”لتأزيم العلاقات الاجتماعية ، وتعظيم الخلافات الإيديولوجية ، وتأثيم الجماعات الدينية ، وتضخيم الصراعات الحزبية أيضا”. ولا في تعاطينا لتجربة السلطة بوصفها آلية عقلانية لإحلال النظام وفرض القانون فحسب ، بل وفي كونها عاملا”لاستنفار الحساسيات الاقوامية ، واستنهاض الهويات القبائلية ، وتجييش الأصوليات الطوائفية ، وتعبئة الذهنيات البدائية أيضا”. هذا بالإضافة إلى إدراكنا لمعنى التاريخ لا بوصفه أرشيف لتوثيق الأحداث وحفظ الوقائع وصيانة الأثريات فحسب ، بل وفي اعتباره سيرورة لأسطرة التمثلات ومثلنة الذاكرات وشخصنة المؤسسات وأقنمة السلطات وتأليه الشخصيات . ولعمري إن هذا المشروع الطموح لن يتحقق مثلما لن لم يكتب له النجاح ، ما لم يتجه اهتمام الانتلجنسيا العراقية من الانخراط بمناكفة سلطة الممنوع القول عنه – التي أصبحت بضاعة رائجة لكل من يقرأ ويكتب ناهيك عمن يمتهن التفكير – إلى الانغمار بفضح وتعرية أوهام سلطان الممتنع التفكير فيه ، حيث تربض طفيليات العنف وترقد جراثيم الكراهية .
2. سلطان الممتنع التفكير فيه :
ليس هناك ما هو أشد ضررا”لبنية الوعي وأكثر إعاقة لتطور الثقافة من الوقوع في دائرة سحر سلطان (الممتنع التفكير فيه) ، أو الانزلاق نحو غواية فتنة (المستحيل الاقتراب منه) . ليس لأن ذلك يتعلق بالقضايا الحميمة ويتصل بالمسائل الحساسة ، التي تتمحور حول خصوصية الإنسان وطبيعة علاقاته الاجتماعية ، حيث محظورات الهوية ومستورات الذاكرة وتابوات المخيال ومحرمات الدين فحسب ، بل ولكونها تعطي الانطباع للمرء بان هذه القضايا وتلك المسائل ، نابعة من صميم الذات وكينونتها وليست مفروضة من طرف الآخر الجواني أو البراني . بمعنى أنها نابعة من وحي الإرادة الفردية والوجدان الشخصي ، قبل أن تكون تعبيرا”عن متطلبات الإرادة الجمعية ومستلزمات علاقاتها . ذلك لأن الإنسان ليس وليد لحظته التاريخية المعطاة ، ولا نتاج بيئته الاجتماعية القائمة ، ولا صنيعة أوضاعه الثقافية السائدة فحسب ، إنما هو صيرورة جدلية لامتزاج الماضي بالحاضر ، وكينونة نوعية لاختلاط التاريخ بالمخيال ، وتكوين فريد لتداخل الوعي بالخرافة ، ومعطى متميز لتشابك الدين بالأسطورة ، ومخلوق محيّر لارتباط المقدس بالمدنس . بحيث إن تقييمه لديناميات الواقع الملموس ونظرته لأواليات المجتمع المعيش ، غالبا”ما تكون حصيلة لهذه السبيكة / الجديلة من التصورات الانطولوجية المتعددة ، والمعطيات السوسيولوجية المتنوعة ، والخلفيات الانثروبولوجية المختلفة ، والمؤثرات السيكولوجية المتباينة . وبالرغم من اعتقادنا بهذه الحقيقية واقتناعنا بصوابيتها من الناحيتين المعرفية والمنهجية ، إلاّ إننا قلما نشرع منها أو نادرا”ما نضعها في اعتبارنا ، حين يتعلق الأمر باستقراء المواقف واستنتاج التصورات التي يتصرف الناس وفقا”لها ويتواصلون بناءا”عليها . للحد الذي نتجاهل معه حقيقية أن الإنسان كائن تاريخي قبل أن يكون موجود اجتماعي ، الأمر الذي يجعله أشبه ما يكون بالاحفور الذي تراكمت فيه وحوله طبقات من طمى الماضي ؛ الطبيعي / الحيواني ، والأسطوري / المخيالي ، والديني / الفلسفي ، والاجتماعي / الحضاري ، الثقافي / الرمزي ، والأخلاقي / القيمي ، والفني / الجمالي . ولذلك غالبا”ما نفسر تلك المواقف ونعلل تلك التصرفات ، من منطلق معطيات الحاضر دون خلفيات الماضي وتوقعات المستقبل ، ومن زاوية صراعات السياسة دون ملابسات التاريخ والتباسات الهوية ، ومن باب تصدعات الاجتماع دون احتقانات الثقافة وهيجانات الدين . ولذلك ينبغي – حين نعتزم تحليل ودراسة إشكاليات المثقف العراقي المعاصر – ألاّ نكتفي بالاعتماد على نمط خطابه الثقافي الموجه ضد خطاب السلطة السياسية ومناوئة ممارساتها ، إذ إن كليهما يحتكمان لمصدر واحد حتى وان تعارضت مواقفهما حيال الواقع ، ويمتحان من معين مشترك حتى وان تضاربت مصالحهما إزاء المجتمع . وإنما يفترض الشروع من نقطة البداية والانطلاق من الأسس ، حيث بنى الوعي الفاعلة وأنظمة الفكر الناشطة ، تعلب الذهنيات وتنمط التصورات وتنمذج السلوكيات وتؤطر العلاقات . بصريح العبارة أن يصار إلى النبش في السرديات الأسطورية ، والحفر في الذاكرات التاريخية ، والتنقيب في التمثلات المخيالية ، والتعرية للاعتقادات الدينية ، والإزاحة للتراكمات النفسية ، والتفكيك للارومات الأصولية . والملاحظ على تلك البنى التحتية والأطر الجوانية والأنماط العميقة والأنظمة المخفية ، إن أواليات اشتغالها لا تعمل على مستوى الفرد الذي يحاول النأي بنفسه – دون جدوى – عن صخب التفاعلات وضجيج الصراعات ، بقدر ما تنشط على مستوى الجماعات المختلفة والمكونات المتباينة ، التي تحدد بأنساق فكرياتها المشتركة ، وأطر علاقاتها البينية ، وأنماط مصالحها التوافقية ، وأفاق تطلعاتها المستقبلية ، طبيعة المجتمع المعني بحيث تضفي عليه الخصوصية الحضارية والإنسانية التي تناسبه وتميزه في آن . ولعل هذا الأمر خاضع لجدليات (المجايلة التاريخية)(4) التي تحدث عنها المؤرخ العراقي المعروف (سيار الجميل) ، ليس فقط بالمفهوم الزمني / التحقيبي (الكرونولوجي) فحسب ، وإنما بالمفهوم المعرفي / التراكمي (الابستمولوجي) أيضا”. وهو ما يستتبع تقطير الأفكار في اللاوعي ، وتكثيف التصورات في المتخيل ، وتخزين المعلومات في الذاكرة ، وتثخين الانطباعات في الوجدان ، بحيث يغدو من الصعوبة بمكان على الفرد كما الجماعة ، التحرر من تأثيرها والتخلص من إيحائها والإفلات من توجيهها . ولأن كل ما يقع ضمن نطاق المجايلة التاريخية ويدخل في إطارها ، ينتمي إلى حقل المحرمات الدينية والتابوات الأخلاقية والممنوعات الاجتماعية والمحظورات النفسية ، التي أضحت بحكم التقادم والتراكم من عوامل سيرورات المجتمع وضرورات بقاءه ، فقد ترتب أن تحفر لها أخاديد غائرة في بنية الوعي الفردي ، كما وتستقر في بطانة السيكولوجيا الاجتماعية . بحيث إن أي محاولة تستهدف الكشف عن طبيعة الكينونة المعيارية (الشخصية الاجتماعية) للمجتمع ، لا مناص لها من الرجوع إلى الأصول المنسية والجذور المهملة ، ليس فقط للوقوف على مدى تأثيرها في التنميط ومعرفة حجم إسهامها في التحنيط فحسب ، ولكن بالإضافة إلى ذلك لإماطة اللثام عن عناصر تكوينها في بنيات الوعي ، ومقومات تشكيلها في منظومات الثقافة ، ونوابض اشتغالها في سساتيم الفكر ، وآليات تأثيرها في أنماط السلوك . وبالرغم من كون أن هذه الأصول وتلك الجذور تمارس فعلها وتفرض سلطانها بالتوافق مع شبكة / نسيج من العادات الضابطة والتقاليد الحاكمة والأعراف المسيطرة والقيم المهيمنة ، التي لا حياة لمجتمع ما من دون التمسك بها والمحافظة عليها والمنافحة عنها ؛ لضمان ترابطه الاجتماعي ، وصيانة كيانه الحضاري ، والمحافظة على وجوده الإنساني . إلاّ أن نتائج هذه الأخيرة تتمظهر في خضم العلاقات اليومية بصيغة خطابات بينية ، وتتبلور في أتون التفاعلات الآنية على شكل تعاملات متبادلة ، الأمر الذي يضفي عليها طابع المرونة في التغيير والمطاوعة في التحوير ، بحيث تبقى محايثة لمعطيات الواقع ومواكبة لإرهاصات المجتمع . هذا في حين نجد إن حصائل الأولى – بحكم طبيعتها النوعية – تميل إلى إخفاء دورها في الأطر الاجتماعية ، والتمويه على وظيفتها في البنى الفكرية ، والتعتيم على تأثيرها في الأنساق الثقافية . وهو الأمر الذي يمنحها قدرات فائقة لا في مقاومة التحويل في العلاقات والتبديل في التواضعات فحسب ، بل ويعطيها أفضليات عالية في الأقنمة للتصورات والأصنمة للذهنيات ، بحيث يمكنها هذا الامتياز من التلاعب بالدلالات والعبث بالسياقات ، للحدّ الذي يسهل عمليات انتقال محتواها من حقل الواقعي / التاريخي إلى مجال الرمزي / المخيالي ، ومن ميدان المدنس / المباح إلى مضمار المقدس / المحرم ، ومن إطار الممنوع الموضوعي / السوسيولوجي إلى نطاق الممتنع الذاتي / السيكولوجي ، ومن دائرة خطاب الثقافة إلى رحاب بنية الوعي . من هنا تبدأ عمليات اجتياف بطيئة ولكنها منتظمة على الصعيدين الشعوري واللاشعور ؛ إما عن طريق (المثاقفة الحضارية) وهذا ما ينهض به المجتمع عبر مؤسساته التعليمية والتربوية والإعلامية ، أو بواسطة (المجايلة التاريخية) وهذا ما يسهم به التاريخ عبر أرشيفه ، والذاكرة عبر مخزونها ، والمخيال عبر تمثلاته ، والدين عبر محرماته ، والثقافة عبر سردياتها ، والهوية عبر أصولياتها ، والفولكلور عبر أشباحه . وإذا كانت هذه المعطيات وتلك الخلفيات تنطبق على أغلب المجتمعات الإنسانية الحديثة والمعاصرة – دع عنك المجتمعات القديمة التي هي الموطن الأصلي لتلك الفعاليات والممارسات – من منطلق تشابه سيروراتها في التكوين وتماثل جدلياتها في الانوجاد . فإنها تكاد تتجلى بنحو فريد وصارخ في المجتمع العراقي ، ليس من باب كونه شاذ عن القواعد السوسيولوجية العامة ومنحرف عن الأسس الانثروبولوجية المشتركة ، وإنما من واقع استمرار ارتهانه لأطياف للماضي أكثر من تحسبه لأكلاف الحاضر ، واحتكامه لملابسات الموروث أكثر من التزامه بمتطلبات التحديث ، واستجابته لإيحاءات الأباطيل الخرافية والأسطورية أكثر من إصغائه لصوت الضرورات العقلانية والعلمانية . ولعل من أبرز مظاهر تلك المصدات الجوانية والكوابح الخفية ، التي تسيّر الإرادات وتوجّه الخيارات وتتحكم بالقناعات وتؤطر الخطابات ، فان الممانعات الذاتية التالية هي ما يتصدر قائمة اهتمامات وتوجهات ، ليس فقط شريحة الانتلجنسيا العراقية بمختلف أصولها السوسيولوجية وأطيافها الإيديولوجية ومستوياتها الابستمولوجية فحسب ، بل وتستحوذ على أولويات وتطلعات الغالبية العظمى من مكونات المجتمع العراقي ، بصرف النظر عن انحداراتها الاجتماعية / الطبقية ، ومعتقداتها الدينية / المذهبية وانتماءاتها القومية / الاثنية ، وولاءاتها السياسية / الحزبية ، وأروماتها القبلية / العشائرية ، وجغرافياتها الجهوية / المناطقية ، وثقافاتها الفرعية / الهامشية ، وهوياتها التحتية / البدائية .
(1) – المحرّم الديني المسيس : ليس من المبالغة القول إن دور العامل الديني في تكوين الشخصية العراقية يكاد يكون بمثابة القلب للجسم ، من حيث ضخ عناصر الحياة في أوصاله ، وجعله دائم الحركة ونابض بالنشاط والفعالية . بيد إن مفهوم الدين في وعي تلك الشخصية وتصورها ، لا يعني عقيدة قائمة على التسامح والتآخي بين الناس ، بقدر ما يعني مصدرا”للتفاضل بين مذاهبهم المتصلبة والتقاتل بين طوائفهم المتعصبة ، حتى وان كانوا من دين واحد وقومية مشتركة . كما إن معناه في إدراكها ومغزاه في عرفها ، لا يوحي بأنه شريعة مصاغة لإقامة العدل بين البشر والمساواة بين الخليقة ، بقدر ما يبيح ممارسة الإقصاء للمختلف والتهميش للمغاير ، حتى وان كانوا من مجتمع واحد ووطن مشترك . هذا بالإضافة إلى إن نظرتهم للدين لا تشي بكونه خطاب الهي ، يدعو لطهارة الروح ونقاء الضمير والنأي عن المفاسد وزجر النفس عن الهوى ، بقدر ما يحضّ للتكالب على شؤون الدنيا ، والتغالب على مزايا السلطة ، والتحارب على مغانم السياسة . وعلى هذا الأساس المتين والاعتقاد الراسخ فان كل ما يمارسه الإنسان العراقي – مثقف أو غير مثقف – من أنشطة سياسية وفعاليات اجتماعية ، لابد – لكي تحظى بالرضا الذاتي والقبول الجماعاتي – أن تمر عبر موشور المحرّم هذا ، وإلاّ فان سبيل العدول عن إتيانها أسلم وأجر الامتناع عن مزاولتها أعظم ! . ولأن الجميع – إلاّ من رحم ربي – يمتحون من بنية من الوعي غزاها الصدأ وطالها الخراب ، كما ويحتكمون إلى نسق ثقافة غشيها الوهن واعتراها التهرؤ ، فانه والحالة هذه لا فرق بين أكاديمي وأمي ، بين عاقل وجاهل ، بين مثقف ومتخلف ، بين متعلم ومتعالم . حين يستلزم الأمر من الجميع إعلان آرائهم وإظهار مواقفهم ؛ إزاء اختلالات السياسة وانحرافات السياسيين وما أكثرها ، وانحلالات الاجتماع وظروف وما أفدحها ، وقضايا دينية وما أعقدها ، ومسائل ثقافية وما ألحها . إذ إن التخالف في الأولى ، والعنف في الثانية ، والتطرف في الثالثة ، والتنابذ في الرابعة ، هو الفيصل وسيدة الموقف الذي يحكم العلاقة بين المكونات الاجتماعية المتطيفة ، ويعين الحدود بين الكيانات السياسية المتريفة . بصرف النظر طبعا”عما تلحقه هذه المشاهد الدراماتيكية من ؛ خسائر بشرية ، ومصائب وطنية ، وفواجع اجتماعية ، وكوارث اقتصادية ، وأضرار ثقافية . والحال انه ما لم يتم تحرير القداسة من قبضة السياسة ، وما لم يجري تخليص الدين من هيمنة السلطة ، وبالتالي إعادة النظر بفهمنا لطبيعة للدين وإدراكنا لماهية للمقدس ، باعتبارهما من الأمور الخاصة والشؤون الحميمة بين العابد والمعبود ، بين الخالق والمخلوق ، بين الانسان والرحمن ، بين البشري والإلهي . فان النوازع الأصولية المرفوعة إلى مصاف (المحرّم الديني) ، والدوافع التعصبية المصعّدة إلى ذرى (المقدس الإلهي) ، ستبقى متحكمة لا في سيرورات بنية الوعي وديناميات خطاب الثقافة فحسب ، بل وفي معطيات جدل الاجتماع ، وإفرازات صراع السياسة ، وتناقضات أحداث التاريخ ، ومخلفات أضغاث المتخيل .
(2) – المطمور التاريخي المؤسس : لعل من أكبر المشاكل التي تواجه المجتمعات الإنسانية ، هو أن يكون لها ماض مديد وتاريخ طويل وحضارة قديمة . وذلك لأن هذه المعطيات تتطلب من المجتمعات المعنية أن يكون حاضرها الذي تعيشه ومستقبلها الذي تتوقعه ، يوازي إن لم يكن يتجاوز مزايا ذلك الماضي ويتخطى مناقب ذلك التاريخ ؛ إن من حيث الإمكانيات المادية للنهوض والطموحات المعنوية للتطور فحسب ، وإنما لحجم الصعوبات والتحديات التي قد يترتب عليها مواجهتها والتصدي لها ، حين تعتزم الشروع بغربلة الترسبات وتنقية المخلفات وتصفية المطمورات . ولهذا فهي تحتاج بصورة دائمة إلى تنشيط ذاكرتها التاريخية لاستلهام مخزونها ، وتفعيل المخيال الجمعي لاستثمار رصيده ، وهو الأمر الذي سيشكل بالنسبة لها سلاح ذو حدين ؛ فكلما ألزمتها السيرورة التاريخية والضرورة الموضوعية ، لتأكيد تلك العناصر وتوطيد تلك المقومات التي أضحت في عرفها قواعد مؤسسة لوجودها الاجتماعي وهويتها الثقافية ، كلما اتخذت منها منطلقات للمعايرة والمقايسة من جهة ، وجعلت منها نموذجا”للمحاكاة والتماهي من جهة أخرى . ورفعت بالتالي من مستويات ارتهانها للماضي المؤمثل على حساب استجابتها للحاضر المعطل ، وضاعفت من أواصر ارتباطها بالتاريخ المؤسطر على حساب تصديها للواقع المتفجر . ومن منظور طبيعة المجتمع العراقي فان هناك جملة من الظواهر اللصيقة بكينونة جماعاته السوسيولوجية عموما”وماهية نخبه الابستمولوجية خصوصا”، والتي من أبرزها إن الاهتمام بالتاريخ والانهمام بالموروث ، يتجلى في أنماط الوعي الاجتماعي عبر حالتين لا ثالث لهما ؛ إما للاحتفاء والانتشاء كما في حالات المدّ / الانتعاش الإيديولوجي ، أو للاختباء والاحتماء كما في حالات الجزر / الانكماش الحضاري . وهكذا ففي الحالة الأولى – على صعيد القول / الخطاب – فانه ليس هناك من يضارع ويضاهي الإنسان العراقي في إطار الإشادة بتراث الماضي والتغني بأمجاد التاريخ ، لاسيما وان هذا النمط من التفكير غالبا”ما يكون معبرا”عن رؤى إيديولوجية فقدت صلتها بالواقع ، أو تأملات طوباوية انفصمت عراها بالمجتمع . هذا في حين تتمظهر في الحالة الثانية – على مستوى الفعل / الوعي – عندما يكون واقعا”تحت وطأة وابل من الأزمات السياسية الملتهبة ، والانعطافات التاريخية الحادة ، والصدمات الاجتماعية القوية ، والرضّات النفسية العميقة ، والانتكاسات القيمية الشاملة . من هنا تبدأ أواليات الوعي الجمعي بالاشتغال لا بوصفها مصدّات عقلانية لإيقاف زحف مظاهر التفكك والتشظي ، والانحدار من ثم نحو هاوية التصدع البنيوي والتصارع الاجتماعي . وإنما بوصفها محفزات سيكولوجية مجيشة تقتصر وظيفتها على مضاعفة ؛ عوامل التذرر في الانتماءات ، والتبعثر في الولاءات ، والتخثر في الذهنيات .
(3) – المحظور السياسي المقدس : على الرغم من تطيّر العراقيين من أفعال السياسة وامتعاضهم من مواقف السلطة ، إلاّ إن الأولى تجري مجرى الدم في عروقهم ، وان الثانية تستحوذ كما الهوس على نوازعهم . ليس فقط لأنهم كانوا أول من مارس الفن السياسي ، واجترح مبادئ القانون ، وأقام هياكل المعابد ، وشيّد أركان المدن ، وخاض غمار الحروب ، وجاس أهوال الصراعات فحسب ، وإنما لاعتقادهم الراسخ ويقينهم الثابت – وهذا ليس بدون أسباب طبعا”يصعب تناولها وشرحها هنا – بان مصدر السلطة نابع من إرادة الآلهة التي في السماء ، وان السياسة ما هي إلاّ تدبير بشري لتطبيق مبادئ الدين على الأرض . ولعل من يقرأ التاريخ القديم لهذا المجتمع الفريد في تكوينه والأوحد في خصائصه ، سيلاحظ إن كل جزئية من حياته وكل مرحلة من وجوده مكرسة لخدمة هذا الغرض الأساسي ، وهو الأمر الذي لاحظه العديد من المؤرخين العراقيين والغربيين ، الذين كرسوا جهودهم العلمية لدراسة التاريخ والحضارة العراقيين . ولتأكيد ذلك فقد ذكر المؤرخ الفرنسي المعروف (جورج رو) انه (( ولأكثر من ثلاثة آلاف عام ، لعبت المعتقدات الدينية السومرية دورا”غير اعتيادي في توجيه مناحي الحياة العامة والخاصة لسكان وادي الرافدين ، فقولبت مؤسساتهم وأغنت أعمالهم الفنية والأدبية وعمت كل نشاطاتهم : من أرفع مهام الملوك وحتى أصغر الممارسات اليومية لرعاياه . ولم يلعب الدين الدور الكبير الذي لعبه هنا قط في أي مجتمع قديم آخر لأن الإنسان في هذا المكان كان يشعر على الدوام بأنه معتمد كليا”في استمراره بالوجود على إرادة الآلهة ))(5) . ولأن العامل الديني قد لازم حياة الإنسان العراقي ملازمة الظل – والأحرى القول كالتوأم السيامي – نتيجة لمشاعر الخوف وهواجس القلق التي كانت – ولا زالت – من أبرز معالم الشخصية العراقية ، على خلفية فقدانه اليقين بالحاضر والأمل بالمستقبل . بحيث ترتب على ذلك حصول عملية اجتياف مستمرة لكل ما يدعو له ويحضّ عليه ، لاسيما في أمور تتعلق بالطاعة المطلقة والخضوع الكلي لأي مظهر من مظاهر السلطة ؛ سواء أكانت سلطة الآلهة في السماء أو سلطة الملوك على الأرض ، باعتبار إن هؤلاء الأخيرين مفوضين ومنتدبين من أولئك الأولين ، لإقامة شعائر العبادة وإدامة طقوس الولاء . (( وفي مثل هذه العقيدة – كما لاحظ الباحث العراقي (عبد الوهاب حميد رشيد) – التي جعلت من الشخص في مرتبة العبد ،خضع إنسان وادي الرافدين في عقله وجسده وحياته إلى ثلاثة أشكال من القوى المسيطرة عليه سيطرة لا فكاك منه : الإله ، الملك ، الشياطين . وخضعت عقلية القوم للغيبيات في ظل حياة يومية ملؤها القلق والخوف والتشاؤم والمسكنة والعبودية ، تحت مظلة دين قاس وقوى شديدة البأس كظله ، لإنزال العقاب به في كل يوم ولحظة ارتباطا”بأية زلة في أفكاره أو ممارساته ))(6) . وهكذا فبقدر ما يخشى الإنسان العراقي بطش السلطة السياسية ويتجنب إغضابها ، كونها تستمد مصادر قوتها ومقومات شرعيتها – في آن واحد- من قوى قدسية مفارقة لا يقوى على مواجهتها ، بقدر ما يطمع أن يمسك بأعنة سطوتها ويطمح أن يقلّد صولجان هيبتها ، ليس فقط لمآرب تتعلق بالامتيازات والملذات الدنيوية فحسب ، وإنما لدواعي تتصل بالتعالي على التاريخ البشري والتماهي بالمقدس الإلهي . ولذلك فقد ترسخ في لاوعي العراقيين – عبر التقطير الزمني والتدوير الرمزي – إن للسلطة السياسية مغزى ما ورائي / ميتافيزيقي ، يتخطى طاقة البشر على إدراك كنهه والإحاطة بمراميه ، الأمر الذي يستدعي عدم الاقتراب من حرمه مهما كانت تلك الأسباب والظروف ، وتستوجب ذلك الامتناع عن المساس برموزه مهما كانت المبررات والمسوغات . ولهذا فمن السهل على رجل السلطة في العراق أن يشخصن المؤسسات ويتماهى بالمقدسات ، كما يشهد على ذلك تاريخ طويل من التجارب السياسية السابقة التي تركت بصماتها وحفرت أخاديدها ، لا في وهاد خطاب الانتلجنسيا المعلن فحسب بل في مهاد وعيها الباطن أيضا”. والأسوأ من ذلك أن يكون رجل السلطة ممن تجلببوا برداء الدين وتنابزوا برموزه وتخاطبوا بمقدساته – كما حاصل الآن في عراق ما بعد السقوط – حيث تموت دهشة السؤال وتخصى جرأة التساؤل ، وتسود من ثم نزعة الترقيعات الطوباوية بدلا”من التحليلات السوسيولوجية والانثروبولوجية ، وتشيع التصورات الخرافية بدلا”من التأويلات الفكرية والمعرفية ، وتشرأب السجالات الإيديولوجية بدلا”المنهجيات النقدية والتفكيكية .
(4) – المستور الثقافي الملتبس : في المجتمعات المتخلفة ثمة إشكالية أخرى تتعلق باحتساب الثقافة العامة / العليا ونظيرها الثقافة الدنيا / الخاصة ، ليس فقط كونها جزء حيوي من الموروث التاريخي والديني والقيمي لذات المجتمع فحسب ، وإنما ينبغي عليها أن تكون في خدمته وطوع بنانه وحارسة لعرينه ، وإلاّ وصمت بالجحود وأدينت بالخيانة . والواقع إن الثقافة قد تكون حاملة في بنيتها لبعض معطيات التراث الاجتماعي ، أو معبرة عن خاصية من خصائصه القيمية ، أو ممثلة لنمط من أنماطه الرمزية ، بيد أنها لا تعتبر – لا في الشكل ولا في المضمون – جزءا”منه وامتداد له ولسان حاله ، إلاّ من حيث التبرير السياسي والتسويغ الإيديولوجي ، الذي غالبا”ما تلجأ إليه الأنظمة المتهرئة لستر عوراتها وتغطية مظالمها . ونتيجة لهذه الإشكالية المستديمة في بنية الوعي الاجتماعي ، فقد تصاب الثقافة ببعض أمراض ذلك الموروث ، أو قد تحتضن قسما”من جراثيمه وطفيلياته ، لاسيما في المراحل التي يشهد فيها المجتمع تأزم علاقاته وتفاقم صراعاته وتعاظم خرافاته . إذ (( مع تواتر تراجع الثقافة المحلية أو استبعادها من ميدان الفاعلية وفك ارتباطها بالواقع الحاضر ، تفقد أسباب نموها وتطورها ، وتتحول في ذهن أصحابها أنفسهم إلى تراث . والتراث يعني شيئا”ناجزا”ومنتهيا”ومتشيئا”ومن الماضي ، سواء كان ذلك الشيء مجموعة من المؤلفات أو من القيم والتصورات ، التي ما زالت حاضرة في حياة الناس وسلوكهم . وليس من قبيل الصدفة كما قلنا ، إننا أصبحنا نتحدث ، نحن أيضا”، وبشكل لا سابق له ، عن التراث ونقصد به ثقافتنا العربية عامة ))(7) . ولأن التراث يحتمل التأسطر في مروياته والتأدلج في خطاباته ، على خلفية اعتباره حاضنة لشتى ضروب ؛ الملابسات التاريخية ، والاستقطاب السردية ، والحساسيات الدينية ، والصراعات المذهبية ، والاحتقانات العنصرية . فان المهمة الملقاة على عاتق المثقف هي أن يكون لسان حال الهويات التحتية لا الهوية الموحدة ، والثقافات الفرعية لا الثقافة الجامعة ، والذاكرات الهامشية لا الذاكرة المشتركة . ولما كانت الثقافة بالتعريف تستدعي أن يترفع حاملها عن صغائر الأمور المتعلقة بالمصالح الفئوية والمطامح العصبوية ، وان يتسامى ممثلها فوق الميول الحزبية والاتجاهات الإيديولوجية ، فان المشتغلين بأنشطتها والمتعاطين لشؤونها والمعبرين عن خطابها ، غالبا”ما يحملون أوزار ذلك الموروث ويستبطنون تبعات رزاياه ، لا في أنماط خطاباتهم فحسب – وإلاّ لهان الأمر وسهلة المهمة – بل وفي بنيات وعيهم وطيات مخيالهم أيضا”. وهو الأمر الذي يضطرهم في بعض الأحيان ، ليس فقط إلى محاولات تتريث الوقائع والأحداث المعاشة – أي انتزاعها من ظرفها الواقعي وسياقها التاريخي ، والباسها لبوس التراث لإحاطتها بنوع من التابو الرمزي – وإنما إلى التستر على مصادر هذه الإشكالية في التفكير ، والتغطية على منابع تلك الازدواجية في التصور . بحيث يلجئون – لتخطي الإحراج والمساءلة – إلى كبتها في وجدانهم وطمرها في لاوعيهم ، مستهدفين بذلك تحقيق حالة من التوزان النفسي المفقود والاستقرار الاجتماعي الضائع . ذلك لأن من طبيعة المثقف الحقيقي إلاّ يكون فقط قدوة للمجتمع في نقد أساطيره عن ذاته ، وتشريح أوهامه عن نفسه ، وتفكيك أباطيله عن أناه فحسب ، وإنما أن يحمي الثقافة من أن تتحول إلى بقايا تراث ، وان يصون التاريخ من ينقلب إلى مخلفات مخيال ، وأن ينأى بالوعي من أن يستحيل إلى أشلاء خرافة . والحال فإن وضعية المثقفين العراقيين – في إطار هذه المسألة – تعتبر حالة نموذجية وقياسية ، ليس من منظور خلطهم مفهوم الثقافة بمفهوم التراث ومحاولة استخلاص طبيعة الأولى بدالة محمول الثاني فحسب ، وإنما من باب اجتيافهم لالتباسات تلك المماهاة المفتعلة ، بين ظاهرة تمتاز بالحراك والدينامية على صعيد الواقع الاجتماعي ، وبين معطى استكمل بناءه واستنفد عطاءه على مستوى الذاكرة التاريخية . بحيث سمح لمشاكل التراث واشكالياته بالانسياح إلى حقل الثقافة دون ضوابط معرفية ، والانزياح إلى بنية الوعي دون معايير منهجية ، وامتلاكها بالتالي ( = المشاكل والإشكاليات) إمكانية التحكم -عن بعد – لا في محتويات وعيه من خطابات وإيديولوجيات وسرديات فحسب ، بل وفي مكونات سيكولوجيته من نعرات قومية / عنصرية ، ونوازع دينية / طائفية ، ودوافع قبلية / عشائرية . ولهذا كلما حاول المثقف العراقي أن يخفي تلك المثالب والعيوب بغطاء خطاباته ، كلما ثأرت لنفسها عبر تعصب آرائه وتطرف سلوكه وعنف علاقاته . وهكذا فالعلة لا تكمن في طبيعة الخطاب الثقافي ؛ هل هو ديني / أصولي أم حداثي / علماني ، هل هو ليبرالي / ديمقراطي أم ماركسي / اشتراكي . بقدر ما تكمن في خاصية بنية الوعي ؛ هل هي إصلاحية / ترقيعية أم نقدية / تفكيكية ، هل هي خرافية / أسطورية أم عقلانية / تنويرية ، هل هي وصفية / انطباعية أم تحليلية / تركيبية ،هل هي استاتيكية / سكونية أم ديناميكية / جدلية ؟! .
الإحالات والملاحظات
(1) بول ريكور صراع التأويلات : دراسات هيرمينوطيقية ، ترجمة الدكتور منذر عياشي ، ( بيروت ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، 2005) ، ص381 .
(2) الدكتور فارس عمر نظمي ؛ (اليسار السياسي واليسارويّة الاجتماعية في العراق) ، بحث منشور في صحيفة المدى ، العدد/2815 في 11/6/2013 . ولنقد هذه الفكرة فقد جادل المفكر المغربي (عبد الإله بلقزيز) قائلا”(( إن وظيفة المثقف ليست في ترداد ما يعتقده الجمهور ، بل في إنتاج معرفة نظرية لا يستطيعها غيره . أما (الفكر اليومي) – كما سمّاه المفكر الراحل مهدي عامل – فهو سيّد الموقف وزاد كل وعي ، ولا خصاص فيه أو احتياج إليه لوفرته ، بل لفيضه عن الحاجة )) . راجع كتابه الموسوم ؛ نهاية الداعية : الممكن والممتنع في أدوار المثقفين ، ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2000) ، ص139 .
(3) الدكتور علي حرب ؛ الممنوع والممتنع ، نقد الذات المفكرة ، ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2000) ، ط2 ، ص17 .
(4) للمزيد حول هذا الموضوع ، راجع الدكتور سيار الجميل ؛ المجيالة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي .. نظرية رؤيوية في المعرفة العربية الإسلامية ، ( عمان ، الأهلية ، 1999) .
(5) جورج رو ؛ العراق القديم ، ترجمة وتعليق حسين علوان حسين ، سلسلة الكتب المترجمة (127) ، ( بغداد ، دائرة الشؤون الثقافية ، 1984) ، ص128 . من جانبه فقد علق المؤرخ العراقي الراحل (طه باقر) حول نفس الموضوع قائلا”(( إنها لصدفة تاريخية عجيبة أن تكون هذه الحضارة قد ولدت وماتت في كنف الآلهة والمعبد )) . للمزيد راجع كتابه القيم ؛ مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة : الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين ، ج1 ، ( بغداد ، دار الشؤون الثقافية ، 1986 ) ، ط2 ، ص559 .
(6) الدكتور عبد الوهاب حميد رشيد ؛ التحول الديمقراطي في العراق : المواريث التاريخية والأسس الثقافية والمحددات التاريخية ، ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2006) ، 79 .
(7) الدكتور برهان غليون ؛ اغتيال العقل : محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية ، ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2004) ، ط4، ص135 . ولتأكيد ظاهرة الازدواجية في وعي المثقف حيال هذه المسألة ، فان (غليون) ذاته وضمن نفس المصدر سوف يناقض رأيه ويعارض استنتاجه قائلا”(( والتراث الذي هو نواة الثقافة هو أيضا”خميرة كل نهضة في كل وقت )) . ص274 .
[email protected]