18 ديسمبر، 2024 8:46 م

الوعي المتخيّل في رواية ( تراب ادم)…

الوعي المتخيّل في رواية ( تراب ادم)…

للقاص طالب عباس الظاهر
(تراب ادم) رواية للأديب العراقي (طالب عباس الظاهر ) من مواليد كربلاء سنة 1963. صدرت الرواية عن دار أكد للنشر والتوزيع في القاهرة 2012، وتم الاحتفاء بها في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين –فرع كربلاء، بأنها من الروايات التي استحدثت رؤية سردية معاكسة وغير مألوفة بين الأدباء، ولعلها موجودة ولم تؤشر في حقول النقد.. ونعتها بعض الادباء بالمغايرة في تقنياتها الفنية لان الراوي اعتمد في طرحه على تقنية -سرد توظيفي- معكوس- من خلال قلب الاحداث داخل المتن (تراب ادم).

ثنائية (البطل وظلهُ)..!

بداية رسم الروائي اطارا منظما في مستهل الرواية، يتمثل في وصف غير مباشر لمشرحة الجثث، ولكنه لم يطور هذا الاطار بل فاجئ القارئ، ببداية جديدة للانطلاق تبدأ “ينفض الدكتور المشرح (احمد ظاهر القشيّ) يديهِ بتوتر شديد…” وهو يؤكد حدسه بجريمة قتل متعمدة، وكشف الجاني وحسم الأمر، بان ولي امرها هو المسؤول الوحيد عن موتها نتيجة عنفه اليومي .. وهو يهمس في ذاته (نهالة شاتي) ام خالد وزوجها ابو خالد وابنها (خالد موسى عيدان كريدي) صديق، ورفيق طفولته وصباه، ويدخل الراوي في بحر سرده كأنه صيرورة تسحب القارئ الى عمق البحر وغور لجته.

ولكن هل هناك فاصل بين البداية الجديدة بشكل كلي عن البداية الاولى او انطلاق الراوي..؟ لو كان الامر كذلك لكانت الرواية مفككة لا ترابط بينها، والقارئ المثقف سرعان ما يكتشف ان هناك ترابطا قويا بين البدايتين قد لا يشعر بها لأول وهلة، فهما حلقتان متصلتان من السرد الروائي.

ذكر السير (دزموند مكارثي)، في كتابه (الرواية الحديثة)، “ان الرواية تعد وسيلة لتطمين فضولنا الاطلاعي أكثر مما ترضي فينا توقنا للجمال والمعنى والأهمية”. وكبار الروائيين اعطوا للقارئ معلومات منتقاة ومقنعة ،ليظهروا ببساطة بأنهم على دراية بما يتحدثون عنه، لكن رواية الاخلاق الاجتماعية ترضينا ما دام فضولنا مرتبطا بالمجتمع.

و(تراب ادم) رواية اجتماعية استحدثت رؤيا سردية حديثة قدمت بتنقلات جمالية مختلفة، فيها من الاثارة والاستفزاز، ما تجعل القارئ يمتلك خاصية الجدل، بصورة لا يمكن ان يتغاضى عنها، رغم انسيابية الاسلوب وتماسكه وهو يظهر مظاهر نفسانية فلسفية تحليلية ، تمخض عن وجهات نظر كيفية مختلفة تقوم اصلا على المواقف الثنائية (البطل وظلهُ)، فتثير النزاع ولا تحدد المعالم في فسحاتها الزمنية، لاسباب في واقع مخيلة الراوي نفسه، مراعيا الحدود الادبية للرواية وادواتها الفنية، مما خلقت بعض التساؤلات التي لابد من البحث عنها داخل المتن الروائي.

(تراب ادم) رواية تنهج في نهج غير تقليدي فهي من نمط خاص، ذات بناء مركب، رواية أو روايات داخل رواية، تقتضي من قارئها جهدا كبيرا لقراءتها، بل أنها تقتضيه اكثر من قراءة، لكي يقف على حقيقة بنائها، وما تهدف اليه، وقد لا تسعفه القراءات المتعددة في ذلك، أو يحدد الخطوط العنكبوتية لتفكيك عُقَدها المتشابكة والمتشعبة ويصل الى نتيجة الا نتيجة ويبدأ يسأل ويقرأ من جديد عسى ان يقف على نهاية فيها اجابات عن الاسئلة الكثيرة. فهي تفتقد المركزية الروائية، ولا يكاد القارئ يمسك شيئا من خطوط احداثها لكونه يقرأ نمطا جديدا من الاعمال الروائية، الا ان القارئ المدقق سرعان ما يكتشف ان الروائي عارف ومتمكن من اسرار صنعته، وواع به تماما ما يزج به المتلقي من متاهات ودوامات تقصدها قصدا. لذلك هي تستحق جهد القراءة، لكونها من الروايات المركبة في بنائها الفني، ونمطها الواقعي الاجتماعي، وتفرعه الى عدة حكايات بابطال ظليين من كائنات مجاورة للإنسان، لإغناء البناء وكسر الروتين. وهي تقنية لعلها مبتكرة وفيها حداثة في التعامل الضدي مع الحدث.

ان حساسية الروائي الميتافيزيقية تساعدنا على التقرب من اوديتنا السحيقة، بهذا الكم من التناقضات والتصادمات، وان حبنا لادباء الماضي يتعلق قبل كل شيء بقربهم من عالم القراء الروحي، اما عندما تتقبل النتائج الجديدة كشخصية وظلها وهي تمثل للعصر الغابر، فان الحب يختفي ويحل مكانه الاعتراف البارد بالمهارة الادبية، وهذه الاسقاطات الظلية على الابطال كانت ضرورة لتطوير رواية درامية تنزع بلا هوادة نحو تمجيد اخلاقي حقيقي لقيم الانسان.

و(تراب ادم) بذل فيها الروائي من الجهد الذهني الواعي، وهو يشتغل على غرس احساسه واقتناصه اللحظات الحيوية الحاسمة، ويشغل القارئ بالاسئلة العديدة والمحيرة بذات الوقت، يطرحها عليك من اجل ان تستنتج الاجابة، كأن يكون” كلب هرم مثلاً بطل ظل للبطل، وحشرة بيضاء تكون ظل للبطلة، وهناك أيضاً الوزغ للزوج، وأنثى العنكبوت للممرضة”.. وهكذا.

(تراب ادم) وثيقة تاريخية صادمة

من جمال حقيقة الرواية ان يجعل الراوي نصب عينيه صورا تحاكي المتلقي وتعيش من خلالها الدهشة والصدمة بالحدث، وهذا لن يأتي دون خبرة حياتية وقرائية. يقول (جون برين) في كتابه الرواية : أكتبْ دوما من التجربة ان تجربتك الشخصية فريدة دون ادنى شك..

وتجربة الروائي (طالب الظاهر) كانت تجربة بمحك مع الواقع فصنع بها وثيقة تاريخية ولدت من علم الطب النفساني فشكلت اثرا فنيا تجاوزت البناء الروائي بمظهرها. فهي رواية عنيفة صادمة دموية، اشعر ان الروائي كتبها بنفس الروح العصبية مع اتساع الوقت، عمل عليها لسنين لاتمامها، وتكرار قراءتي لها بفترات طويلة وجدت عقلي يستعيد بعض مقاطعها، كانت ترد الى ذهني كلما لاحت لي رواية او عناوين لروايات عالمية، وترد الى ذهني ليلا، وانا بين الصحو والنعاس وكنت حائرا أتراني قرأتها ام عشت فيها فعلا..

عشت الاعجاب – او قل هذا الانبهار- ومشاركة الراوي سيرورة التخيل الخلاق مما جعل عملية الوعي حاضرة في وقت متوتر الى ابعد الحدود اثناء انشغال الراوي بالتحويرات المزاجية، باعادة تشكيلة في خلق جديد (الشخصية وظلها) يتساوق مع فكرة الروحانيات النقية غير المفسودة، روحا تمردية.

فقصة (وداد) الممرضة الموجوعة التي اختطفت حرب الكويت عريسها ولم تعرف له مصيراً، وسيرها في طريق السقوط والعمل كبائعة هوى.. وما خلفته الانتفاضة الشعبانية لها من البؤس والفاقة، وحين توقف زمنها وهي تتوسل وتتقيأ همومها ، لتكشر عن انيابها وسادية انوثتها برغبتها الدموية.. لتعيش بين (الابر، والمناشير، والخناجر، والملاقط، والساطور الضخم المدمى)، وباقي ادوات المشرحة.

قد اضفى الراوي في حكاية (وداد) نكهة موجعة وحياة متمردة وتاريخ بلد يحارب روح الانسان، وحياة بشعة تطرح ادانات اجتماعية، ان انموذج شخصية (وداد) التي يقابلها ظل (انثى العنكبوت) انموذج الانسان الذي حرفته السياسة، فكان الراوي يسخر من الاساليب الحكومية، وهو متنفس عن روحه التمردية عن مظاهر الحياة الملوّثة وهي ذروة الاحساس الانساني في قلبه كانسان وفنان وكاتب.

هكذا سيجد القارئ نفسه محاطا بغابة من التساؤلات التي تثير العديد من الاشكالات لديه، تعود في واحد من اسبابها خلط الاوراق في الرواية التي حرص عليها الراوي واثارة الالتباسات في دوامة التشويش والارباك.. في مقدمتها هل فعلا تزوج احمد من وداد..؟ هل سحق رأس ابو خالد بالقانون كما سحق رأس الكلب الهرم..؟ حتى نتبين حقيقة ما سعت اليه (تراب ادم) من اهداف انسانية وهل حققت نبوءتها الظلية..؟ وأسئلتها القائمة ،لماذا يجتذب الشر الانسان..؟ في قتل ابي خالد لام خالد، وما هي المصادر الخفية لأفعالنا ..؟ لماذا يرفض المجتمع تخطي الحدود البشرية ..؟ في فكر دكتور احمد في اعلان زواجه من وداد .. واسئلة اخرى شبيهة بها كانت تشغل بال (طالب عباس الظاهر) وشغل بال القارئ بهذه النزعات الواقعية في (تراب ادم) والمتخيلة في صراعات الظلية للابطال كوجه حقيقي لجوهر الانسان الحيوان.

البناء الفني وتقني لـ(تراب ادم)

حين نصل الى هذا الكم الهائل من الاسئلة في عمق المتن الروائي نجد:

أولا:ان تقنية سردها معكوسة وهي مجازفة بنائية شديدة الصعوبة بل وخطرة على أي كاتب في روايته البكر، وحتى على الراسخين.. أي تبدأ من نهاية القصة لتنتهي في بدايتها.

ثانياً: بما ان الراوي نحى منحى كتابة القصة النفسية / الحسية، وليس الحركية / الدرامية، أي سرد أحداث ومواقف خارجية، فكان من الصعوبة بمكان تنمية الحدث للوصول الى الذروة… فحاول بجهد جهيد إنقاذها من الخمول والخمود، لعدم امكانية التنويع في طرائق سردها… فخلّق أبطالاً ظليين من كائنات مجاورة للإنسان لإغناء البناء وكسر الروتين.

ثالثاً: خصوصية مسرح الحدث أي (المشرحة) حددت الكثير من الحرية في عملية التعاطي معه كمكان، سواء على مستوى الباث المنتج أو اللاقط المُستقبِل.. وحيث إن الكتابة الإبداعية هي استثمار أمثل لمخزونات الذاكرة الجمعية، وتوظيفاً لمخزونها من مشاهد ومواقف وخبرات وتجارب في هذا المضمون .! على العكس مما لو كان المكان شائعاً وعمومياً، ذلك لأن الذاكرة ستكون مشبعة بتفاصيله، فلا يغري أو يثير في الآخر حب الاستطلاع، أو تحاول ان تُشبع فيه فضول المعرفة، لذلك استهلكت أمكنة كالسيارة وموقف الباص والقطار والجامعة وما اليها من أمكنة تم استخدامها في الكثير من القصص…بينما المشرحة كمكان بكر أو شبهه، كونه ممنوع الدخول اليه على العموم، شكل صعوبة مزدوجة في الاستلهام والتوظيف. (تراب ادم ) رواية تنفرد في رؤاها وتقنياتها الفنية ، مهم جدا قراءتها والوقوف على متنها الفني والسردي.

بطاقة الروائي :

(طالب عباس الظاهر ) قاص وروائي عراقي من مواليد كربلاء المقدسة سنة 1963. عضو مؤسس في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين فرع كربلاء. وعضو اتحاد الأدباء والكتاب العرب منذ سنة 1995.

بدأ الكتابة والنشر بداية ثمانينات القرن الماضي. صدرت له عن دار الشؤون الثقافية العامة مجموعة قصصية بعنوان (الفضاء السابع/ بغدادـ2002 )، ورواية (تراب آدم) عن دار أكد للنشر والتوزيع في القاهرة 2012 ، و( الأدب الإسلامي رؤية معاصرة) 2015 عن دار الوارث للطبع والتوزيع والنشر.

عمل في الصحافة محرراً ثم مديراً ورئيساً للتحرير لعدة إصدارات ثقافية ومازال مستمراً. نشر قصصه ونصوصه ومقالاته الأدبية والثقافية والسياسية، وغيرها من مقالات في الشؤون الأخرى في العديد من الصحف العراقية والمجلات وعلى مواقع الانترنت بعد سقوط النظام عام 2003 . دوّن رؤيته التنظيرية في القصة القصيرة بشكل غير مسبوق عربياً بـ(12) حلقة ونشرها تحت عنوان ( نظرات في القصة القصيرة) .كتب في القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والأقصوصة(الومضة) والنص المفتوح، وله أيضا عدة مجاميع قصصية جاهزة تنتظر النشر.