تبدو الوعكة الصحية العراقية ، او بالأصح المرض الذي اصاب المجتمع العراقي ، جعله ” يحتضر ” بدل أن “يتحضر” نتيجة منطقية وواقعية لفشل هذا المجتمع في ابرام صيغة اجتماعية و سياسية بشكل يلائم ، وعلى الاقل الحد الادنى الاحتياجات الأساسية .. ويبدو أن الموت سيكون نتيجة حتميه اذا استمر علاج هذا المرض بالأداة نفسها التي كانت سببا للمرض عينه .
فبعد أن أصبح مرض العنف هو الحاكم الأساسي للمجتمع السياسي العراقي في المرحلة السابقة والتي ادخلت الجميع في دوامه وحلقه مفرغه ادت الى اطلاق رصاصة الرحمة على آخر ما تبقى من وحدة اجتماعيه ، وفتح الأبواب العريضة للدخول في الحرب الأهلية … ( الحرب الأهلية التي أصبحت قانونا ومرحله إلزاميه ، تمر بها دول العالم الثالث في طريقها إلى دخول العالم الجديد ) . واليوم يطرح هذا اعنف كعلاج وحيد لحل مشاكل العراق ، ليس فقط من قبل العصابات التي قامت عليه وعاشت به ، بل ايضا من قبل الحكومة والمعارضة السياسية المشاركة في العملية السياسية والمعارضة التي لم تشارك فهي تتبنى العنف كوسيله اساسيه في المعارضة والوصول الى السلطة وممارستها ايضا ، هذا يعني بداهة ما يعبر عنه القول الشعبي ( زاد الطين بلة ) أو يعني زيادة الاسراع في مسيرة التدهور نحو البربرية والاندثار .
فقد عمل الذين يتبنون العنف السياسي اليوم وطوال حياتهم على توليد الانحطاط الفكري والعقلي ، وعلى توظيف هذا الانحطاط في تدعيم سلطتهم الاستبدادية ، التي كان من الممكن أن توجد و لا تزدهر أو تستقر ، الا في مناخ من التخلف الفكري والعقلي ( السياسي منه بشكل خاص ، فنجاح الاستبداد هو نجاح في حذف الشعب وتغييبه )، وتحويله الى كائن مسلوب عاجز عن توليد أي ردة فعل واعيه ومبرمجه وهادفه وفعاله . والديكتاتورية السياسية لا تضرب جذورها إلا في عفن السلبية الاجتماعية والاستسلام ، والعبودية العمياء المطلقة ، والتذلل والخنوع الابدي . ولذلك كانت برامج النظام السابق دوما تهدف الى تحطيم الوعي ، وتحويل الانسان الى حيوان داجن ، يأكل بأمر ويتنفس بأمر ويصفق بأمر ، ومستعد دائماٌ للذهاب الى المسلخ كلما اراد النظام ذلك . ان النظام المقبور كان يحل جميع مشاكله بالقمع . ولما كانت المشكلة والمأزق ناجمين عن القمع ، فقد اصبح الافراط في استعماله يزيد النار اشتعالا .
ومما زاد المشكلة تعقيدا أن المعارضة السياسية نفسها ، والتي عانت طويلا من الدكتاتورية والقمع ، عادت لتستخدم الاداة والادوات نفسها ، فباشرت أعمالها (بأدوات وآليات وقوانين وظلم وبرجال النظام السابق المقبور) ، فكانت النتيجة هي القمع والارهاب الفكري والاغتيال العقلي ومصادرة الحريات وخنق الرأي الآخر ، واحتكار الحقيقة ، ان هذا العنف والقمع قد لا يكون بالضرورة من اهدافها او قيمها وجزء من آليات ادارة الحكومة وقد ترفضه ايضا رفضا قاطعا وتعاقب مرتكبيها ومروجيها , ولكن كانت النتيجة هي العنف والقمع، وهي نتيجة طبيعية وحتميه لمدخلات هذه الحكومة في ادارة ملف الدولة حيث استخدمت نفس الرجال ونفس القوانين التي كان يقمع بها الشعب العراقي ، هذا ما يعنيه ايضا القول الشعبي (ردناك عون طلعت فرعون ) ، فقد استخدمت الحكومة دواء منتهي الصلاحية (فاسد) يضر بالمولود الجديد ( الديمقراطية ) نعم ان هذه الادوات القديمة والقوانين الباليه والمستهلكة كانت تعالج بها جميع مشاكل العراق بالقمع والعنف ، فهؤلاء الرجال كانوا يزجون ابناء العراق الى المسالخ فهم لا يعرفون شيء عن حقوق الانسان او المواطنة ، كانوا هم قادة الجيش السابق ، هؤلاء القادة والضباط والرفاق والمدراء والسفراء كانوا يسرقون طعام الجندي والمواطن البسيط ايام الحصار الكافر وكانوا يتخذون من الجنود والموظفين عبيد في بناء القصور لهم ، وهم ايضا كانوا قادة و ضباط في الحرب الصدامية الإيرانية فكانوا هم من يعدمون من رفض قتال المسلم وكذلك هم من حطم نفسية الشباب باسم خدمة العلم . ان هذه الآلات والادوات قد تجذرت بها افكار وحفظت في ذاكرتها صور لا يمكن نسيانها , من صنع النظام المقبور .كل هذا يرفضه العقل البسيط .
وهنا قد يثار سؤال ؟ألا يوجد بينهم وطني حريص على وطنه ، او من كان يعمل مع النظام وهو كاره له . نعم يوجد بينهم من وهو وطني ومحب لهذا الوطن ، ويجب الاستفادة منه وخبرته في ادارة الدولة ولكن كمستشار وليس باستلام المهام والمسؤولية الأساسية. كونه قد نشأوا في بيئة غير صحية للعراق الجديد ، (وكانوا لا يرونا لا ما يرى النظام السابق) ، فانتقدوا المنادي بالحقوق ، وقالوا اتركوا الامر لنا في معالجة جميع المشاكل ، فعادوا الى استخدام الادوات وطرق النظام البائد في معالجة المشاكل , فولد فساد وظلم وتعدي على القانون ، واصبح القانون و آليات تطبيقه العوبة بيدهم يطبقونه على من يشاء . وما إلى ذلك من الأسباب التي أدت الى هذا الانهيار المزري في كل مقومات الحياة الاجتماعية ( الاقتصادية والثقافية والسياسية والأمنية ). مع التأكيد على أن العنف المعالج هو ردة فعل عاطفيه أكثر من أن يكون علاج فعال هادف ، ويهدف الى تعميم العنف والالم ، اكثر من ما يهدف الى تجاوزه والغائه ، وهو بالتالي تعبير عن الازمة اكثر مما هو رد حضاري عليه وهو بالتالي زيادة في النزيف وتسريع للاحتضار .
وأمام المأزق الذي وجدت الحكومة نفسها فيه ، وبسبب عجزها عن مخالفة طبيعتها أو تغيير وسيلتها ، وابتعادها عن تطبيق الصحيح للدستور والقانون ، وامعانها في استخدام ادوات الماضي، على امل المزيد من هؤلاء سيزيد قوة وهيمنة الحكومة ويدعم فرص استمرارها ( لأنها ذات تجربه طويله وتاريخ طويل حافل كان بها يحل النظام المقبور جميع مشاكل المجتمع ) .
وبعد هذا وذاك وبعد عشرة سنوات من سقوط الطاغية والارهاب الكافر وبعد سرقت اموال الشعب ، اصبح الخلاص يمر عبر طريق واحد هو الرجوع الى الدستور والتطبيق العادل للقانون ، حتى يحصل الجميع على حقوقهم المسلوبة ، ان الدستور لم يفرق بين السنه والشيعة في الحقوق وبين الاكراد والعرب ، ولا بين المسيحين والمسلمين وغيرهم من الطوائف، وقد وزع الموارد بين المحافظات وابنائها بطريقه عادله تعتمد على اعداد ابناء المحافظة ونسبة المحروميه وغيرها من ألآليات التي لا تميز محافظه عن اخرى ، وان الدستور لم يفرض على الشعب بان يكون رئيس الوزراء من هذه الطائفة او تلك ، وانما ترك الامر الى الشعب في الاختيار . وكذلك القوانين فهي عمياء لا تميز بين افراد المجتمع هذا قريب او بعيد ، فعلى السبيل العام وليس الحصر، فهل فرق قانون الخدمة المدنية بين موظف على ملاك وزارة الصحة هو بالدرجة الخامسة في مدينة العمارة و موظف اخر في نفس الدرجة ونفس الوزارة في مدينة الانبار مثلا ، ام ان قانون الجنسية العراقية يختلف بين المحافظات ، او ان قانون الرواتب يختلف بين موظف على ملاك وزارة الكهرباء واخر على نفس الملاك والدرجة الوظيفة في محافظة البصرة و الرعاية الصحية في محافظة صلاح الدين تختلف عنها في السماوة وهكذا .
نعم التظاهرات والاحتجاجات هي ضمن الحقوق التي كفلها الدستور للمواطن وذلك من اجل محاسبة الحكومة المركزية والمحلية وتقويم عملها هذا يدل على الشراكة في الادارة بين المواطن والدولة كما اكدها الدستور العراقي في ادارة البلد وهي حالة صحيه للحياة الديمقراطية ويجب الاعتناء بها في العراق الجديد ، حتى تكون جميع قرارات الحكومات المركزية والمحلية تصب في خدمة المواطن المظلوم ، ان عدم تنفيذ احكام الدستور والتطبيق الصحيح للقانون هذا لا يعني ان الدستور العراقي الجديد والقانون هم غير مفيدين ، وعلى التظاهرات والاعتصامات ان لا تخرج عن المقبول وان تدخل في المرفوض ، ان تشيع القتلة والمجرمين الذين نفذ بهم القصاص العادل ، وهو خلط الحق بالباطل وضياع للحقوق وهذا شيء مخيف جدا، ويشجع على القتل والارهاب والعنف والعودة الى الحياة البربرية الغير حضارية والبعيد كل البعد عن الحياة الإنسانية ، وكذلك الدعوات الى اشعال فتيل الحرب الاهلية مرة اخرى وادخال الشعب العراقي في دوامة العنف سوف يعيدنا الى المراحل الاولى وبدورها ستدخل الشعب العراقي مرحله جديده من ضياع الحقوق، يدفع ضريبتها الشعب العراقي مجددا من الجوع و الموت وزيادة في الايتام والارامل وغيرها من الماسي، التي اخرجتهم اول مرة الى ساحات الاعتصام ، انا اعتقد بان اسلوب المظاهرات ومطالبة المسؤولين والقائمين على خدمة الوطن والمواطن بتفسير جميع اعمالهم وقراراتهم امام الشعب بالطرق القانونية ، و رفض الخدمات السيئة والمطالبة بمحاسبة جميع المقصرين والمفسدين ، هو مطلب شرعي دستوري متحضرة.
لقد حان الوقت لكي نتعظ ونطلق الديناميكية السياسية ونستبدل لغة الحوار والمشاركة والتداول السلمي للسلطات بلغة العنف والقهر والاخضاع ، لكي تنطلق مسيرة التحرر العقلي والفكري من الارهاب الذاتي والموضوعي ونكون جميعا اقويا في دولة قويه ، وان لا نكون اقويا في دولة ضعيفة ،لكي تتسارع الحداثة العقلية والسلوكية … وحان الوقت لكي ندرك جميعا أن الوسيلة الفاسدة كانت وستبقى السبب الرئيسي في فشل كل أيديولوجيا ( قوميه أو اشتراكية أو ليبيرالية أو دينية ) وان نفهم ان الارهاب والعنف والاستبداد من قبيل الامراض الي ليس لها علاج .