(أنا الخطيئة التي حصلت على وطنها مؤخرا)
الكتابة الإبداعية في بعديها النفسي والعقلي هي زخم من التساؤلات والخيالات المكثفةو المتصارعة التي يروضها الكاتب ومن ثم يصوغها بأسلوب فني وفكري هادف يسعى من خلاله رفد الوعي الإنساني بتصورات وتجارب جديدة وأبعاد جمالية وفنية مختلفة وذلك لكسر حاجز السائد والمألوف في النص، والرواية واحدة من أهم أنواع الكتابة التي يتجلى فيها هذين البعدين حيث تمتاز الرواية بقدرتها على امتصاص هذه الاختلاجات والتدفقات النفسية والعقلية من خلال السرد بكل ما يتخلله من أحداث وأماكن وخيالات ومضمون فكري/ معرفي ،وجمالي/ أدبي لذلك تعتبر الرواية منبع فني وثقافي ثر مسكون بالأسئلة والتجارب الحياتية اليومية والتاريخية حيث تكمن قوت وتميز الرواية في قدرتها على رصد وتوثيق وكشف كل ما من شأنه أعطاء زخم روحي وعقلي جديد وبالعكس تحديد كل ما يعيق تقدم الثقافة البشرية . تعد الرواية العراقية اليوم واحدة من اهم الروايات العربية التي تتخذ من الواقعية النقدية مجال خصب في نتاجها الأدبي بعد ما أتاحه لها التغير السياسي ذلك،مما فسح المجال لها تناول موضوعات كانت بلامس القريب من المحرمات السياسيةالتي ومن هذه الموضوعات موضوعة ( الوطن) لا بوصفه هوية وانتماء وإنما بوصفه سلطة ومركز ديني سياسي يقصي ويهمش أطراف، فرد / مواطن والأمثلة عديدة مثل:رواية افرانكشتاين في بغداد،وفندق اكوستيان ،و مدن الهلاك ،وتجميع الأسد ، حيث نجد ما يؤكد على طبيعة هذا الشرخ النفسي والاجتماعي مابين الوطن متمثل بالسلطة وقيمها والمواطن والمواطنة المستلبة بقيمها المختلفة والرافضة لسلطة المركز، لذلك تظل الرواية احد أهم مراكز الكتابة الإبداعية وارض خصبة للإنتاج والتطور الفني والفكري.
الحبكة
رواية (كش وطن ) للكاتب شهيد الحلفي الصادرة عن دار سطور للنشر والتوزيع لسنة (2015) والتي تصنف ضمن تيار الوجودية النقدية بزعامة سارتر، و البير كامي ومونتاني و غيره من الأسماء التي تنظر للأخر على انه قيد يقول سارتر ( سأكون عندما لا أكون)، تخوض الرواية غمار البحث عن مدى جدوى الوجود بكل أشكاله في ظل الوجع الإنساني و الاحباطات النفسية والوجودية التي تعصف بالإنسان العراقي اليوم هذا الوجع المتغلغل في حاضر وماضي الإنسان العراقي وجع ينخر في كل أشكال الحياة ليشكل وطن افتراضي داخل وطن واقعي، وطن يسكن فينا لا نسكن فيه بمواجهة وطن واقعي يقمع وجودنا فيه ، لذلك تبدأ الرواية باستهلال له دلالته النفسية والفكرية على لسان الراوي ( قبل إعدامه كانت وصيته الأخيرة : رجاء لا ترفعوا النقاط الثلاث)تدور أحداث الرواية حول بطل يصمم على اختيار مهنة (القواد ) كحل وجودي يشكل علامة رفض وتمرد واحتجاج لكل أشكال التهميش والإقصاء وعلى القيم والمفاهيم السائدة في الوطن ( العراق) ولتحقيق هذا الرفض يقوم بفتح مبغى للدعارة يمثل للبطل وطن افتراضي و علامة احتجاج ورفض لكل أشكال الكبت و التهميش الوجودي ضد وطن سلب من مواطنيه ابسط مقومات الحياة الكريمة وعليه فقد شكل المبغى لدى البطل وطن افتراضي معارض ضد وطن حقيقي غارق بالاحباطات لذلك تعمد وضع صورة الملك فيصل في صالة المبغى لإضفاء على المكان صفة الوطن والمواطنة لكن وطن بلا قمع او كبت او حروب سوى اللذة ،التي يتشارك فيها مع رواد اومواطني المبغى ذكرياتهم الأليمة والحزينة و وخسارتهم المتكررة من اجل وطن سلبهم كل شيء جميل لكن رغم هذا الإصرار على امتهان لعبة الاحتجاج والاصرار على لقب القواد يظل البطل مسكون بسؤال جوهري وجودي سؤال تتناسل منه مئات الأسئلة الوجودية وهو سؤال (لماذا ) نخاف الحرية ،لماذا نخاف من السلطة ولماذا نطرد ونشرد .. ولماذا نموت من اجل وطن السلطة ،؟.. يتجلى ذلك في خطاب إلى رفيق الدرب والملهم لفكرة الاحتجاج عبد الرزاق الجبرا ( اول فكرة خطرت ببالي هي ان أقدم لكل زبون يرتاد مبغاي نسخة من كتابك مبغى المعبد هذه الفكرة لم تأتي إعتباطا ،لا أبدا ، وإنما كان لها دوافعها النفسية والعملية ، ما دفعني لها رغبتي بأن أثبت للعالم بأنني صاحب رسالة ) وبما أن المواجهة مع وطن السلطة هو انتحار وموت حتمي في أوطاننا، يتم اعتقال البطل بتهمة ممارسة الدعارة فيغلق المبغى ويحكم بالإعدام شنقا لكن ما يثر دهشت واستغراب البطل ان من يلف حبل الشنق حول رقبته هو ملهمه عبد الرزاق الجبران لتنتهي القصة بشنق البطل القواد وهزيمة وطنه الافتراضي المعارض أمام وطن السلطة والقمع في أشارة رمزية على لعبة الشطرنج التي تمثل صراع وجودي رمزي يعتمد على قانون البقاء للأقوى وهي دلالة يتم تديده من عنوان الرواية كش وطن .
المكان :
اعتمد الكاتب المكان كمتخيل افتراضي رمزي اكثر منه واقعي حقيقي وذلك لجعل المكان ينفتح على فضاءات ودلالات واسعة تمتمد على طول رقعة والوطن فالمبغى ،والسجن ،وقاعة المحكمة ،ومكان الإعدام تشكل مع بعضها سلسلة من التحولات الحتمية في وطن خنقت فيه العلاقة مابين المواطن الفرد، والوطن السلطة وبالتالي تكون حتمية الموت هو السائد لكل أشكال الاحتجاج والتمرد المتمثل في المبغى بكل ما يعنيه من دلالات رمزية اذ دائما ما يرتبط المبغى كمكان في دولنا العربية بالانحراف الأخلاقي والديني والثقافي لكن الكاتب استطاع من احداث ازاحة وقلب للمعنى عبر فك الارتباط التعسفي في منظومتنا القيمية بين المقدس والمدنس التي انتجتها السلطة لكبح وتقيد كل اشكال الاحتجاج لذلك شكل المبغى عند البطل مكان احتجاج وممانعة سياسية وثقافية وقيميه لكل أشكل القمع والاستلاب وهوتأكيد على لعبة المعنى التي أكد عليها صديقه عبد الرزاق الجبران في الكثير من مؤلفاته(أتمثلك وأحاول تقليدك ،اطمح أن أكون مثلك في كل شيء ،جلستك وحركاتك ، وإيمائاتك ، وعهرك المقدس )ص9 لذلك أغلق المبغى وقتل القواد وأقصيت معه كل أشكال التمرد والاحتجاج ( من هذا الباب سيدخل الجميع ،لا توجد محضورات ولا منع ولا اجتثاث الكل مسموح له بالدخول ) ص17 وهو تأكيد على فعل الرفض لوطن السلطة والقمع والإقصاء لذلك جعل من المبغى وطن افتراضي لكل الانقياء يقول( قواد بإنسانيتي وبناء على ذلك يجب ان أكون عظيما لان هذا المكان لا يليق إلا بالعظماء)ص18.
الشخوص:
رغم ان الرواية تقوم على شخصية مركزية واحدة يدور حولها سرد الأحداث هي شخصية البطل (القواد) لكن ظل دور الشخوص دور فاعل في الرواية وذلك لادامة زخم الصراع و الاحتجاج والرفض والمساهمة في رسم إشكالية الصراع الوجودي المتمثل في علاقة الإدانة لوطن شرد وقتل وهمش مواطنيه ،بلقيس التي امتهنت البغاء بعد استشهاد زوجها في سبيل الوطن وتحولها من زوجة شهيد الى عاهره هو فعل ادانة ، وكريم الذي فقد عضوه الذكري من اجل الدفاع عن الوطن ينتهي به الامر الى الهروب من وطن لا يستطيع اعادة له قضيبه ، والطفل محمد المعدم والمحتاج الى عملية جراحية عجز الوطن عن توفيرها له لا يشفى ألا خارج الوطن بعد ان عجز الوطن عن تقديم له ابسط أشكال المساعدة وعلي الوردي الباحث الاجتماعي الذي يتحول من باحث الى قواد ويرفض العودة الى مهنته كباحث اجتماعي بسبب القيود والأعراف الاجتماعية المتخلفة ،كل هذه الشخوص أسهمت في تحويل المبغى المدنس الى مكان ممانعة وحتجاج مقدس يقف بالضم من وطن السلطة المقدس المتمثل بشخصية ابو نظمي الذي كان سمسار دعارة ثم رجل دين ،و القاضي والادعاء العام كممثل للسياسي وعبد الرزاق الجبران المثقف الذي يلف حول رقبته حبل الموت،وعليه فأن شخوص الرواية تشكل تيار احتجاج ورفض وتمرد ا اجتمعت خلف شخصية البطل (القواد ) كدافع وإرادة لخلق وطن بديل اقل قسوة وإقصاء أمام وطن صادر كل حقهم بالوجود والحرية والكرامة ( هنا تتوحد الوجوه وتصبح لها هيئة واحدة ،من يأتي الى المبغى يأتي متجردا ،يترك سيمائه في الخارج ويدخل ،هو ملزم باكتساب الملامح الخاصة بهذا المكان ) لذلك فشخصية القواد شخصية مركبة ذات عمق وجودي يؤهلها للقيادة قادرة على امتصاص جميع الشخصيات الأخرى بداخلها لكن امتصاص لا يحمل تفرد وتعسف إقصائي او استبدادي بقدر ما يحمل الوجود كإرادة وتمثل وجود فلسفي حكيم على طريقة بطل الفيلسوف الألماني نتشه زرادشت في رائعته (هكذا تكلم زرادشت) لذلك تشكل هذه الشخصيات مع بعضها حلقة وصل وتواصل مع بطل يسعى لتحقيق أرادة الرفض من خلال أعادة أنتاج افتراضي لوطن اللذة ضد وطن القمع والسلطة (انا نبي قواد).
العقدة:
البناء في الرواية يقوم على عقدة مركزية هي ثنائية ( الوجود والعدم ) وهواختيار نابع من رحم الفلسفة الوجودية حيث ان إصرار البطل على ان يمتهن الدعارة كأسم ومهنة هو ميل وجودي الهدف منه أحداث تهشيم وإزاحة في المعنى عن طريق لعبة الوجود: الرفض ،والاحتجاج التي لابد لها ان تنهض من العدم: التهميش ،والإقصاء ، ولا يمكن ذلك الا بأحداث خلخلة في بنية المجتمع القيمية والفكرية عبر أعادة اكتشاف وتشكل المعنى الوجود الإنساني الذي أصيب بجشع السلطة والمال ،أنها لعبة أعادة أنتاج المعنى الإنساني التي ظلت لفترة طويلة حكرا بيد السلطة تمارس ضد المهمش ،و المنكسر،و الخاسر كإرادة قمع وإقصاء تمارسها السلطة ضد كل من يحاول التمرد على المعنى السائد المقدس فعند سؤال البطل لزبون غريب الأطوار عن سبب تصرفاته الغريبة يجيبه 🙁 كل الداخلين الى هذا المكان بمرتبة الفلاسفة ربما أختلف عنهم بعض الشيء ،قد تكون فلسفتي متطرفة ويخالطها شيء من الجنون ولكنها جزء من فلسفة عامة ، فلسفة الذات المنقوضة فلسفة دعارة ضد دعارة .. الدعارة نشاط فلسفي ينطوي على رؤى احتجاجية عميقة ،أنت مثلا في نظري إنسان منتفض تحمل أفكارا ثورية لا تقل عن أفكار جيفارا وغيره من أصحاب الرسالات الانقلابية ) ص30 ،فالتمرد والاحتجاج في عمقه الفلسفي هو أرادة وتمثل وجودي قائم من العدم فمهما كانت طبيعة هذ الاحتجاج حتى لو كانت دعارة فالمعنى الوجودي للانسان هو ارادة البقاء بلقيس التي خسرت زوجها في الحرب تمارس الدعارة كثائرة ضد سلطة اعدمت وجودها احتجت لتحقيق وجودها وكريم الذي يشعر بالعدم بعد فقد قضيبه في معركة الوطن يستعيد وجوده عبر الاحتجاج على الوطن وكل زبائن المبغى يستعيدوا وجودهم من العدم يثورون ضد التهميش والحرمان يقول (الدعارة خطيئة صغرى تعترض على خطيئة كبرى ) ص31.
الاسلوب الفني :
ما ان نبدأ القراءة حتى نجد أنفسنا أمام صدمة التلقي الأولى التي تطيح بما هو تقليدي سائد عن ذائقة التلقي التي دجنة على البطل التقليدي المنتصر لقيم المجتمع السائدة فنحن امام شخصية بطل ذو تركيبة نفسية وفكرية مختلفة معكوسة أكثر مشاكسة وتعقيد شخصية متعددة المهام ، قواد، وثائر، وفيلسوف ، ومخلص صاحب مبغى للدعارة وبطل يناضل من اجل وجود وطن للمهمشين والمسحوقين ضد وطن السلطة وهي صدمة ثيمية سرعان ما يفقد معها المتلقي ممانعته الاولى فلا يجد في المبغى غير وطن للتمرد والاحتجاج والبحث عن السعادة عكس ما كنا نعتقد بأنه بؤرة للفساد والقبح والشذوذ بكل ما يحمله من دلالات نفسية وفكرية تدلل على قبح ذلك الواقع الإنساني الذي تقلص حتى غيب من خارطة الوطن لأن المعنى حكر بيد السلطة لم يبقى غير المبغى لنمارس احتجاجنا فيه . نجح الكاتب من توظيف عالي للرمزية بشكل لا يفقد معها النص انسجامه وتماسكه فوجود الرمزية وجود محايث للواقع والأحداث اي وجود سببي نجد ذلك في صورة الملك فيصل في صالة المبغى وضعت عرفانا له لفتح اول مبغى في بغداد وفقدان قضيب كريم في المعركة ليبقى الوطن منتصب قائم منتصرلذلك جاءت الرمزية في قطع قضيبه كنتيجة لحتمية الإقصاء والموت في وطن يقمع أبنائه ويسلبهم حقهم بالسعادة لكثرة حروبه الفاشلة وأطماع السلطة المتمثلة بالمؤسسات الدينية، مؤسسة الشهداء وطوابير الأرامل وابتزازهن، والمؤسسة والسياسية ، القضاء والسجون ،والمؤسسة الثقافية المتمثلة بالمثقف المساير والانتهازي ، فالرمزية جاءت في إطارها الفني المرتبط بمجريات الأحداث في الواقع ،استخدم الكاتب لغة بلاغية جميلة مفعمة بالإيحاءات النفسية والفنية تعكس وسع مخيلة كاتبها لغة غنية تنفتح على تحولات دلالية وفكرية متعددة مما عزز ذلك من أدبية النص وكسر رتابته في بعض الأماكن كما وامتازت الرواية بجرأة وصراحة عالية في الطرح النقدي حول المسكوت عنه المقدس من خلال تحويل اللغة الى خطاب نقدي يسعى لتفكيك معنى مركزي هو وطن السلطة في بعدها الفلسفي والقيمي من خلال اعادة انتاج المعنى ، وهي أحدى تأثيرات ما بعد الحداثة على الرواية العراقية الحديثه حيث نجد ان استدعاء اسماء مثل عبد الستار ناصر وعلي الوردي وعبد الرزاق الجبران وافلاطون وسارتر وسقراط جيفارة ماهو الى استدعاء لخطاب احتجاجي للمختلف الغرض منه ايصال رسائل ذات مضمون خطابي ثوري وفكري وادبي يشكل نسقا ثقافيا ومعرفيا يجعل من النص السردي مضمون هادف وينقل تجربة إنسانية و أبداعية في نفس الوقت فكل شيء من حولنا هو نص يحمل رسالة لكن تحتاج منا ان نفك شفرتها الخاصة لفهمه وتحويله الى خطاب موجه ومفهوم لتوليد المعاني والقيم الانسانية الجديدة ولا يتم ذلك الا في احداث صدمة في منظومة التلقي الجماهيري بعيدا عن الاحتكار من نخب معينة ، فعل السرد اعتمد على راوي عليم مشارك هو البطل لذلك نجده قد هيمن على كل فقرات السرد لكن هذه الهيمنه تفقد سطوتها حين تتداخل فيها السيرة الذاتية للبطل مع الأحداث والوقائع ذات الطابع ،السياسي ،والثثقافي،و الديني ،فالسرد سرد يبدأ من الذات الأنا الفردي للبطل المواطن لينفتح على ذات النحن الجمعي للمهمشين فالكتابة على جدرا المبغى هو فعل جمعي يعكس رأي اجتماعي عام يكشف عن حجم الاستلاب و الإحباط من وطن حطم مواطنيه وسلبهم وجودهم وبالتالي تحولت هذه الكتابات الى فعل احتجاج جماهيري ناقم على وطن السلطة يتضح ذلك في بعض الفقرات (الحياة سوء فهم متبادل ،اللعنة عليك يا عضوي لقد خيبت امل البشرية ، بعد ماروح انتخب ، غدا سأمضي الى الجبهة ربما سيكون مسقط رأسي هناك ) ما يؤخذ على الرواية هي حتمية الفشل والموت لكل من تمرد واحتج على سلطة الوطن السلطة افقد ذلك الرواية طبيعتها الثورية والاحتجاجية التي سعى الكاتب الى التأكيد عليها دائما باعتماد ألقاب وأسماء ثورية ( انا نبي ، انا راس، كش وطن.. الخ )لكن هذا التحدي والصراع ينتهي في اغلب الأحيان بالموت والاختفاء لذلك كانت نهاية الرواية نهاية تراجيدية استسلامية وهو ما ناقض مجرى الأحداث يتجلى ذلك في مشهد إعدام البطل ( اليك فقط ،انت ياصاحب الدور الاخير ،يا صاحب اليد التي ستنهي كل شيء هنالك شيء وحيد أريد ان أقوله لك … كل ما حدث لم يفاجئني كل شيء كان متوقعا كله كان في سياقاتي الافتراضية ،الشيء الوحيد الذي لم يخطر ببالي ولم أكن أتوقعه هو ان تكون أنت يا عبد الرزاق الجبران من يقوم بلف حبل المشنقة على رقبتي) اذا كانت حتمية الموت متوقعة ومعلنة على لسان البطل فهو لم يتفاجئ من الموت لانه افتراض مسبق بقدر ما تفاجئ من عبد الرزاق الجبران المثقف الملهم والمحرض الأول لجذوة الثورة والصراع ضد وطن السلطة وبالتالي كانت الدهشة من صاحب كتاب مبغى المعبد والملهم الأول لروح التمرد والاحتجاج هي دهشة تدلل على فعل إدانة لدور المثقف الذي يسعى للخروج والتمرد على السائد ألانه سرعان ما يضعف وينقاد الى أهواء السلطة وهو ما يتنافى مع سير الأحداث وتطورها البنائي الصاعد الذي ارتكز على ثنائية الوجود والعدم ،اي العدم كحافز ثور لإنتاج معنى الوجود ،لكن ظلت حتمية الفشل هي حتمية طاغية على سير الاحداث.
الخلاصة :
هناك توجه واضح في الرواية العراقية الحديثة الى استعادة روح الفرد المواطن التي همشتها السلطة عبر تاريخها الاستبدادي القمعي الطويل حتى لو كانت هذه الاستعادة على مستوى المتخيل السردي فقط ، لان الواقع اليوم لم يغادر او يتجاوز هذه الإشكالية مما عمق نمط الاستبداد و القتل لروح الإبداع والتميز لدى الفرد والمجتمع وأحدث شرخ اجتماعي ونفسي واضح في العلاقة مابين الواقع كوطن وسلطة وثقافة وبين الفرد الموطن المهمش المسحوق المحبط انعكس ذلك بالسلب على هذه العلاقة وبالتالي رحنا نعوض هذا الشرخ والاستلاب الوجودي عبر المتخيل الافتراضي ،فالوطن رواية كش وطن طارد للمختلف والمتجدد سعى الكاتب منذ البداية للكشف عن هذا الشرخ الاجتماعي عبر تشبيهات نفسية وثقافية لإيجاد معادل او بديل موضوعي ناجح للتعبير عن هذا الشرخ عبر لغة الرفض والاحتجاج والسخرية والتهكم تجاه وطن السلطة مما دفعه لإيجاد وطن افتراضي بديل المبغى ( المبغى هنا مركز لإستقطاب الضعفاء ) ص88 مقابل وطن الأقوياء ، مما دفع بهذا المتخيل لإيجاد ملاذات افتراضية أمنه قادرة على فضح وتعرية كل أشكل القمع و التهميش في وطن السلطة (حين قام صاحب السيف برفع الرأس وصاح (الله اكبر ) شعرت بأننا لسنا مخلوقات الله ،نحن مخلوقات رب اخر غير متواجد هذا اليوم ) فالله وطن السلطة غير الله وطن الضعفاء فكل هذه الدلالات النفسية هي نتاج طبيعي لحالة القمع المتزايد في العراق اليوم وبالتالي علينا أيجاد وطن بديل يحمل مضامين أخلاقية وفكرية قادرة على تعويض حجم الانكسار والاستلاب الذي تعرض له كل المهمشين من وطن السلطة رغم معرفتهم بحتمية الفشل والإقصاء وكأن لسان حاله يقول : ان تموت كمحتج وثائر ومعارض للقمع والحرمان والتهميش اشرف وانبل من ان تموت وأنت خاضع ذليل .