23 ديسمبر، 2024 3:58 م

الوطنية والقومية ومابينهما وتاثيرهما على الفرد

الوطنية والقومية ومابينهما وتاثيرهما على الفرد

القومية الجزئية’ هي الدائرة الأضيق المستغرقة في دائرة ‘الوطنية’ الأكبر، مثل الأكراد في العراق وما حولها، ومثل الأمازيغ في الجزائر والفور في السودان، ولا بأس من هذا الاستخدام أو ذاك، بل لا بأس من أي استخدام لأي مصطلح، مادمنا قد حددنا بدقة ما نقصد به، لكن الأمر بين المفهومين لا يقتصر فقط على قضية المدى أو مساحة الدائرة التي تضمها ماصدقاته، فالفارق الأخطر فيما نرى هو في طبيعة تكوين كل من الانتماءين ‘الوطني’ و’القومي’.
يشترك المفهومان في أن كليهما عبارة عن شعور متوهم لدى الفرد بالانتماء إلى كيان أكبر من الذات، ولا تشتق كلمة متوهم هنا من ‘الوهم’، أي تخيل ما هو غير حقيقي، لكنه بمعنى الشعور الذي يرسخ في الإنسان نتيجة الممارسة الحياتية أولاً، ثم الوعي النظري ثانياً، ذلك الوعي الذي قد يكون مشتقاً من واقع الممارسة الحياتية ذاتها، فيأتي متوافقاً معها، وقد يرجع إلى فكر أو أيديولوجية دينية أو غير دينية، وفي هذه الحالة قد يتسق مع واقع الحياة الإنسانية، وقد يكون مفارقاً لها بدرجة أو بأخرى، كما لا نعدم أمثلة يكون فيها هذا الوعي الأيديولوجي المتسامي مضاداً تماماً لكل ما يشي به الواقع، ويغلب في هذه الحالة أن يشيع وعيان أو خطابان، خطاب رسمي يردد ما يسود الساحة من أيديولوجية، ووعي مستتر قد يكتفي الإنسان بأن يحدث به نفسه، وقد لا يجرؤ حتى على هذا، ويكتفي منه بأن يتبدى في سلوكه وموقفه العملي من الحياة، مع قدر يختلف من شخص إلى آخر من التأثر بالوعي الأيديولوجي، ذلك التأثر الذي يبلغ ذروته في الجماعات الراديكالية، التي تسعى لقلب الواقع رأساً على عقب، كي ما يتطابق مع رؤيتها الأيديولوجية المفارقة، والأمثلة في شرقنا لمثل هذه الجماعات لا تحتاج لتعداد، بدءاً من عصابات ومغامري حزب البعث العربي، وانتهاء بتنظيم القاعدة وسائر الجماعات السلفية الجهادية، رغم ادعائها جميعاً بأنها تنطلق من مقومات راسخة في واقع ما تعتبره ‘الأمة’.
لكن الفارق بين ‘الوطنية’ و’القومية’ يبتدىء وفق مقاربتنا هذه في طبيعة العلاقة بين الفرد والكيان الجمعي، كذا في اختلاف طبيعة ذلك الكيان في المفهومين، ويلزمنا للتقدم خطوة أبعد أن نضع تعريفاً لهما، مع التحفظ أن تعريفنا غير ملزم ولا يدعي التزام كل من يستخدم المصطلحين بذلك المضمون، إنما التعريف مفيد على الأقل في هذه المداخلة فقط، لتوضيح ما نهدف إلى مقاربته:
‘الوطنية’شعور متوهم لدى الفرد بالانتماء إلى امتداد جغرافي، بكل ما يضمه من معالم جغرافية وبشر، تربط بينهم منظومة من العلاقات، على أساس الملكية المشتركة لهذا الكل المسمى وطن، وملكية الفرد للوطن هنا ليست ملكية محاصصة بين الفرد أو الجماعة وباقي الأفراد والجماعات، بحيث يتحدد حجم الملكية بناء على نسبة الفرد أو الجماعة إلى المجموع الكلي، ولكنها ملكية مشاعة، يمتلك كل شريك فيها ‘الوطن’ كاملاً، بشرط أن يمارس حقه في تلك الملكية بما لا يعوق ممارسة باقي الأفراد لحقوق ملكيتهم بنفس المقدار، بهذا يكون القول ‘بتساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات’ليس من قبيل المثل الأخلاقية العليا أو التقوى والكرم الحاتمي، وإنما يكون مجرد توصيف لطبيعة العلاقة بين الأفراد، والتي يحتمها مفهوم ‘الوطنية’ ذاته، وبالتالي يكون أي اختلال في تطبيق قاعدة المساواة المطلقة هذه خللاً في أساس بناء ‘الوطن’ المحكوم بمفهوم ‘الوطنية’.
‘القومية’ لغوياً انتساب الفرد إلى كيان أكبر هو ‘القوم’، أي إلى مجموعة من البشر، يربط بينهم رباط محدد، قد يكون العرق أو الدين أو امتلاك الموطن بالوراثة، نلاحظ أنه وفقاً لذلك التعريف، الذي نركز عليه وحده، دون سائر ما يمكن أن يرد من تعريفات، أن العلاقة بين الفرد والامتداد الجغرافي علاقة غير مباشرة، ويصح أن نطلق عليها علاقة ‘استيطان’، وليست علاقة ‘مواطنة’، ففي العصور الماضية من تاريخ الإنسانية كان ‘القوم’ يتحركون من مكان إلى مكان، بصفة مؤقتة أو دائمة، فيما تبقى علاقة الربط فيما بينهم قائمة على حالها، وعرف العالم الشرقي ضمن ما عرف تحركات التتار والمغول والعرب، وأخيراً هجرة اليهود إلى فلسطين انسياقاً لدعوة الحركة الصهيونية، وعرفت أوروبا انسياحات القوط والواندال والقبائل الجرمانية وغيرها، وكلها تحركات لقوميات احتفظت بتماسكها بوجه عام، بغض النظر عن استبدال ‘الموطن’، في حين أننا يمكن أن نعتبر أن حركة المهاجرين الأوائل إلى أمريكا ليست تحركات قومية، وإنما تحركات أفراد انسلخوا بدرجة أو بأخرى عن ‘أوطانهم’ أو عن ‘قومهم’، ليتخذوا لهم ‘وطناً’ جديداً.
هنا يحق لنا التفريق بين مفهومين: ‘الوطن’ و’الموطن’، ففي حين أن انتماء الفرد يكون مباشرة للحيز الجغرافي (والبشر أيضاً) في حالة ‘الوطن’، فإن علاقة الفرد ‘بالموطن’ تكون علاقة غير مباشرة، بل وقابلة للتغير مادام سيظل برفقة ‘القوم’، كما نستطيع أن نقول أن مغادرة ‘المواطن’ لوطنه بالهجرة المؤقتة أو الدائمة لا تلغي حقه في امتلاك وطنه، ما لم يتخل هو طواعية عنه، ونستطيع القول أنه قد غادر ‘القوم’، لكنه لم يتنازل عن ملكية ‘الوطن’، من هنا شرعية احتفاظ المهاجر بجنسيته الأصلية، رغم حصوله على جنسية جديدة.
مفهوم ‘القومية’ بهذا يستبعد ‘مفهوم ‘الوطن’، ليستبدله بادعاء ‘القوم’ امتلاك ‘الموطن’، ذلك المكان الجغرافي الذي غالباً (بل ودائماً) ما يستوطنه أفراد أو مجموعات لا يندرجون تماماً ضمن تعريف ‘القوم’ المهيمنين على ‘الموطن’، هنا يصبح مصير هؤلاء المهمشين معلقاً وحرجاً، وقد يواجهون بدعاوى أنهم وافدون على تلك الأرض وليسوا أصلاء فيها، وبالتالي فهم ضيوف ومرتهنون بكرم ضيافة ‘القوم’ المالكين، أو أنهم من عرق مختلف (غالباً ما تنسب إليه الدونية حتى لو كانت مستترة)، وبالتالي فهامش حقوقهم مرتهن بما تقرره الأغلبية الأعلى المسيطرة، وفي أحسن الأحوال وأكثرها تستراً بالديموقراطية، تكون نسبة حقوقهم إلى حقوق الأغلبية وفق نسبتهم العددية، وهي النسبة التي غالباً تفعل الأغلبية ما في وسعها للتقليل من قيمتها، أو أنهم ليسوا على دين الأغلبية، إذا كان تكوين ‘القوم’ على أساس ديني، ويسري عليهم ما يسري على الغرباء تاريخياً أو عرقياً، وفي جميع الأحوال يكون المهمشون في الكيانات ‘القومية’ بمثابة نقطة ضعف ومصدر للشك والقلاقل واللامساواة، وأمامنا أمثلة الكيانات ‘الوطنية’ في أوروبا وأمريكا، حيث يحصل المهاجر على الجنسية بسهولة نسبية، مقابلها في كيانات الخليج العربي مشكلة ‘البدون’، وفيما تجتمع في سويسرا أربع قوميات كبرى على الأقل، يعيشون في اندماج وتوافق كامل، نجد في كيانات الشرق الأوسط ‘قومية’ النهج التضييق على الأقليات واضطهادهم، بل ومحاولات إبادتهم عرقياً، كما في حالة أكراد العراق، وفي جنوب السودان وغربه، كما نجد التفكك والتناحر القومي في يوجوسلافيا السابقة بين القوميات الفسيفسائية هناك.
كان هذا عن الفرق بين طبيعة الكيانات ‘الوطنية’ و’القومية’ داخلياً، لكننا نجد نفس تلك الفروق تنعكس على طبيعة علاقات تلك الكيانات بالكيانات السياسية الأخرى، فالكيانات ‘الوطنية’ قد تتنافس فيما بينها، سعياً من كل منها لتحقيق صالحها، لكن مع ذلك تكون مجالات التعاون فيما بينها أيضاً رحبة ومتوقعة، في غياب افتراض التضاد الكبير بين صالح الإنسان هنا وهناك، أي بين البشر الذين يستوطنون هذه البقعة من العالم أو تلك، إذ ليس في أساس تلك الكيانات تفرقة بين البشر، أما الكيانات ‘القومية’ فلأنها تعتمد بالأساس على العنصر البشري في التكتل، فإنها تكون أقرب إلى منحى الصراع مع غيرها من الكيانات، مثل صراع الكيان ‘الديني والقومي الفارسي’ في إيران مع المجتمع الدولي كله، في قضية الأسلحة النووية وتصدير الإرهاب، ويبلغ احتمالات صراع الكيانات ‘القومية’ أقصاه مع مثيلتها من الكيانات ‘القومية’، وندرج هنا مثال صراع ‘القومية العربية’ مع ‘القومية اليهودية’ في إسرائيل، وصراعات الصرب والكروات والألبان في البلقان.
نخلص من هذه المقاربة إلى ادعاء، أن عصر العولمة وحقوق الإنسان، وعصر حرية وسهولة حركة البشر، كذا تداخل علاقاتهم ومصالحهم وارتباطها، كل هذا يجعل من الكيانات ‘القومية’ حجر عسرة في مسيرة البشرية، تلك المسيرة التي تتخطى الآن مرحلة الكيانات ‘الوطنية’ الأكثر تقدماً، لتعبر إلى عصر التكتلات والشركات العابرة للجنسية، لتجعل العالم كله وحدة واحدة عامرة بالتنوع.